جاء القوم بقضّهم وقضيضهم لحضور اجتماع طارئ لمواجهة عدوٍ صبروا عليه ألف ليلةٍ وليلة. هكذا قالوا: عظيم. وجب إذاً الانحناء والشكر! الروح الوطنية صبواتُ قلب، والقومية زوبعةٌ من نار، والإسلامية اقتلوهم حيث ثقفتموهم. لم يمضِ وقت طويل حتى صدر الموقف الفصل والبيان المبين: لا تفاوض، لا صلح، لا اعتراف بـــــ«منظمة حزب الله الإرهابية». ولّت الرثاثة، وحاجيات البطن، وطقوس النوم، وصار للقوم أقدام وأجنحة وغضب كغضب عنترة بن شداد. على الفور، أظهر عطوفة الباشا العثماني ارتياحاً، وأشاد الحامي الجديد للعروبة السيد بنيامين نتنياهو بالخطوة الحكيمة التي تُشبه بعنفوانها عنفوان السادات خلال زيارته القدس المحتلة عام 1977، أمّا الساحر الأميركي الأكبر فتبسّم ماكراً وأبدى ملحوظات ضرورية ناشئة من تجربةٍ في المواجهة قديمة.
ها هو مجلس التعاون (الهلامي) قد قرر أخيراً. والقرار في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب! مِن قبل كان مضطراً لابتلاع القذى خوفاً من شعوب ولّت الأدبار عن فلسطين بصورة بائسة، أمّا اليوم، فلا شيء مثل نشوة الهجوم والولوج إلى الحرب المقدّسة التي ترخص فيها النفوس والأموال وذهب الصحراء الأسود! لا مشكلة في النفقات وحشد الإمكانات ولو بلغت مليارات الدولارات، ولا حاجة للتدقيق في قوائم المتعهدين ولو كانوا من شياطين الإنس والجن وأكثرهم تطرفاً ووحشية. حُزمة من الجبناء، تريد من مضاربها في قلب الجاهلية، أن تمسك الوطن الممتد من البحر إلى البحر بشريعة الوهابية الدكناء، وأن تجعل من «إسرائيل» الماريشال الذي إنْ شاء أطعمنا من جوع وإنْ شاء آمننا من خوف! وتريد أن نمنحها البركة على كسلها وتخلّفها وتنفيذ مشيئتها في قتل أطفال اليمن وسبي نساء سورية وتمزيق أشلاء العراقيين وتقسيم ليبيا وإنتاج حرب أهلية في لبنان.
ثم جاء دور الجامعة العربية التي يختلف أعضاؤها على تفسير كل شيء وذهبوا في قضية فلسطين مذاهب شتى حتى يتملصوا من واجباتهم وتبقى مناصبهم مصونة باسم الرب الاميركي. كائنات هرمة، هزيلة، تبحث عن جدوى جلوسها على عروش الدمى بالفتنة والتخريب ومحاربة كل من يسعى لمقاتلة «إسرائيل»، وتصنيف الناس بين معتدلين وإرهابيين، وتبرير الانهزام تحت مسمى مشروع السلام في المنطقة! فصارت عملية إزالة الجريمة الصهيونية عن فلسطين ضرباً للأمن الوطني والقومي والخليجي والإسلامي. والمطالبة بالحق تشدّداً، والدفاع عن الأرض مغامرة، والتنازل عن التراب الذي ارتوى بدماء آلاف الشهداء واقعية. وبات بإمكان إسرائيل أن تعيش بهدوء وأمان، لكن لا مكان لفلسطيني على أرض، ولا أمل له بأمتارٍ من الكرامة.
ماذا أتذّكر عنكم جميعاً وأي لغة تستطيع أن تصف عاركم حين قلتم لبوش الأب وهو يطأ شرف الصحراء ويزرع سهوبها وواحاتها بالقواعد العسكرية: ما شئتْ لا ما شاءت الأقدار/ فاحكم فأنت الواحد القهار.
ماذا أتذّكر؟ حين احترقت بيروت بقنابل شارون وكادت تتحول حفنة من رماد، أم قبل ذلك بسنوات حين صيّرتم بلادنا للفوضى واللصوص، أم بعد مجازر صبرا وشاتيلا، ووقفتم كالعادة تتفرجون بلا تعليق! أو حين أرادت «إسرائيل» تصفية حسابها، أو حين قذفت بعناقيد غضبها، أو حين دعا أئمة نفطكم ووعاظ سلاطينكم على المقاومين أن تنزل عليهم صاعقة كصاعقة عاد وثمود!
ماذا أتّذكر؟ أتذّكر الفلسطينيين ونصف قرن من الشتات والمنافي والحصار لكي يكون لكم قصور فارهة وحدائق غنّاء وأرصدة لا تأكلها النيران!
في كل شرخ وخيانة وجريمة ونهب وبطر ونشاز وخسّة روح وعجرفة لكم نصيب. أردتم استعباد الناس بفوائض أموالكم وتدنيس جسد الأمة وسمّيتم ذلك مكرمة، وشراء ولاءات دول ورؤساء وزعماء من شرق الأرض وغربها تحت مسمّى الهبات، ولكنّكم لم تحصلوا إلا على طابور من الخدم!
ممالك من رمال تستكمل صورة تيهها بما في محفظتها من بترودولار. قضت حياتها وهي تنهش في العرب والعروبة والمسلمين والإسلام مثلما ينهش الصدأ في الحديد. ممالك، تستطيع شراء فضائية ومذياع وصحيفة وبندقية تكفيرية واستئجار «إسرائيل» لشن حرب على المقاومة، ولكنّها لا تستطيع أن تجرّ إليها الهوان والذلة!
تلاقى المترفون وأصحاب المصالح ومتّعوا أنفسهم ببيانين عربيّين بشعين مقزّزين منفّرين، كانوا بذلك يختبرون قدرة بعضهم بعضا على إدعاء القوة، لكنهم في الحقيقة كانوا يكشفون سوأتهم على نحو كامل، وكيف أنهم في خفاياهم السوداء أرادوا لنا الضعة والموت كيما يعيشوا أطول مدة ممكنة في أبراجهم العاجية. ها هم الأعراب يجتمعون بلا خجل ليحطّموا أيقونة المقاومة المقدسة. فعلوها من قبل أكثر من مرة. كانوا يرشدون الغزاة على كل مقاوم يحمل حجراً أو سكيناً أو بندقية حتى بلغ بهم مقام الشؤم أن يكونوا هم الأداة التي تضرب أجمل وجه في هذه الأمة.
المقاومة هذا التيار العميق من النبل والشهامة والصدق سيستمر في الامتداد والاتساع، من الضاحية إلى صعدة حتى الضفة، ليصحح الخريطة التي صيّرتها الممالك المتهالكة والدول التافهة حدوداً ومخافر بوليسية، ونريدها هواء نقياً وحريةً وكرامة من البحر إلى البحر! المقاومة ليست من النوع الذي تصيبها لعنة أولاد النفط والسحرة. المقاومة ستكتب قصتها وستقرأها أجيال كان يترأءى لها نور العالم من دماء أروع الشهداء!