لا يمكنني أن أتحامل على جبران خليل جبران. لا، لا يمكن ولا يجوز. الرجل كان أوّل تأثير أدبي (أو غير أدبي) عليّ وفي سن مبكرة جداً (التاسعة أو العاشرة، حتى قبل أن أكون قادراً على فهم كل كلمة تمرّ أمام ناظري). كنت شديد الحماسة والتعصّب لجبران وكان من أترابي من يغيظني بالقول إنّ هناك من هو أعظم من جبران. المجموعة العربيّة الكاملة لجبران خليل جبران كانت كتابي المقدّس في سن مبكرّة ولا يزال الغلاف، عندما أراه في رفّ من رفوف مكتبتي، يثير فيّ أشجاناً وحنيناً لا أدرك كل معناه أو مغزاه. وكانت قصيدة «المواكب» من أعذب ما قرأت في سنوات الصبا، وكنت أثابر على حفظها كما يثابر طلاب المدارس الإسلاميّة على حفظ القرآن (طبعاً، مهمتهم أصعب من مهمتي بكثير). لكن، سأقصّ عليكم قصّة.
عام 1980، كنت أدرسُ مادة «النثر العربي» (كمادة اختياريّة في تخصّصي) مع أستاذة اللغة العربيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وداد قاضي. وكان أن أوكلت إلى كل تلميذ وتلميذة إعداد دراسة عن موضوع معيّن في النثر العربي القديم، وكانت دراسة الجاحظ من نصيبي (يقول المُستشرق المثابر، شارل بيلّا، عن الجاحظ إنه «ليس هناك كاتب معاصر أو لاحق يشبهه»). واقترحت عليّ أن أبدأ بكتاب شارل بيلّا عن الجاحظ. وأخذني الكتاب إلى عصر أدبيّ مزدهر ورائع، وزاد من إعجابي وتقديري لهذا الكاتب الموسوعي الفذّ (أعني الجاحظ، لا بيلّا) الذي لم يأخذ نصيبه من الدرس والعناية في المناهج المدرسيّة العربيّة (اهتم الاستشراق الأوروبي بالجاحظ وأهمله الاستشراق الأميركي لأنه متخلّف عن استشراق أوروبا في إتقان اللغة العربيّة). وكتاب بيلّا عن الجاحظ ليس في الحقيقة عن الجاحظ بقدر ما هو كتاب عن البيئة الدينيّة والأدبيّة والسياسيّة والثقافيّة التي نشأ فيها الجاحظ في البصرة وبغداد وسامرّاء. لكن بيلّا رغم معرفته الموسوعيّة لموضوعه ورغم مثابرته القيّمة يعاني مما يعانيه الكثير من المستشرقين من التعصّب والانحياز لا بل العدائيّة. تراه يقول في مقدمّة الكتاب: «ويعتري القارئ بصورة عامّة الملل عند قراءة الآثار العربيّة مهما كان موضوعها وعنوانها مغريين» (راجع ص. 3 من المقدمة في ترجمة إبراهيم الكيلاني الممتازة للكتاب والتي تورد كل الاستشهادات الشعريّة والحواشي كاملة).
وعندما قرأت الكتاب آنذاك بغرض وضع الدراسة التي طلبتها قاضي منّي لمادة «النثر العربي»، كان أن وقع نظري عابراً يومها على حاشية في الكتاب تستشهد ببيت شعري قديم لشاعر لم يعلق اسمه في ذهني، لكنني أذكر انني لاحظت أن هناك تشابهاً بين البيت الشعري الوارد في الحاشية وقصيدة «المواكب» لجبران. لكنني لم أسع لدراسة الموضوع، وأرجعت الكتاب إلى مكتبة الجامعة، ولم أرجع إليه عبر السنين الطوال.
لكن الموضوع لم يغادرني كل هذه السنوات والعقود. كان يخطر في بالي بين الفينة والأخرى، لكنه موضوع مؤجّل عندي. كنت كمَن يكتب في ذهنه: هذا يُضاف إلى جملة من القضايا التي يجب أن أعمل على حلّها أو إنجازها (مثل إكمال قراءة «العقد الفريد»)، لكنني لم أفعل شيئاً. قبل أسبوع، قرّرتُ وصمّمت أن أرجع إلى الموضوع وخشيت أن تكون الذاكرة قد فعلت فعلها وأن أكون مخطئاً في ذاكرتي وحدسي. خشيت أن أعثر على الكتاب وأن لا أجد أثراً للبيت الشعري الذي لفتني وذكّرني بقصيدة «المواكب» التي اشتهرت في غناء فيروز لها بلحن نجيب حنكش. لم أعثر على الكتاب في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، لكنني وجدت نسخةً منه في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وعندما وصلني الكتاب، هرعتُ مثل الملهوف أحمله بعناية بين أصابعي وخصوصاً أن النسخة المطبوعة رديئة إلى درجة أن المكتبة وضعت الكتاب في داخل مغلّف كبير لعلمها أن الأوراق تتفتت وتتفلّت بمجرّد تقليب الصفحات.
فتحتُ الكتاب وشرعتُ في التفتيش، وقع ناظري على بيت شعري لابن لنكك (في متن النصّ، لا في حاشية) ولفتني لأنه ذكّرني بـ«المواكب»، لكنه لم يكن كذلك البيت الذي أذهلني لقربه من صياغة «المواكب» في عام 1980. قلتُ لعلّ التشابه هو ذلك فقط: محض تشابه من دون نقل. وبقيت أقلّب في الصفحات إلى أن عثرت على البيت الشعري المطلوب (الذي لفتني قبل أكثر من ثلاثين سنة) في حاشية صفحة في الكتاب. لكنه كان أقرب إلى نص «المواكب» مما ظننت. وقد أورد بيلّا البيتيْن في حاشية من الكتاب لكنه عزاهما لإبن الشمقمق:
«ليس في البصرة حرٌّ، لا ولا فيها جوادُ
إنما البصرة أنشابٌ ونخلٌ وسمادُ».
وهذان البيتان (أو القصيدة وهي من مجزوء الرمل) أوردهما الثعالبي في «يتيمة الدهر» (راجع الجزء الثاني، صفحة 419، طبعة دار الكتب العلميّة) لابن لنكك البصري، واسمه الكامل، محمد بن محمد بن جعفر البصري، أبو الحسن، الصاحب ابن لنكك. وكلمة لنكك فارسيّة وهي تعني «الأعيرج» (تصغير لكلمة أعرج) فكلمة «لنك»(أو لنگی بالفارسيّة) معناها أعرج. لا نعرف الكثير عن هذا الشاعر ولا نعرف سنة ولادته لكنه توفي على ما يُرجّح في سنة 970 ميلاديّة. ويقول الثعالبي عنه إنه «فرد البصرة وصدر أدبائها وبدر ظرائفها» (ص. 407). ولاشك أنّ (ما وصلنا من) شعره كان مميّزاً وفريداً وهادفاً، ويضيف عنه الثعالبي: «إذا قال البيت والبيتيْن والثلاثة أغرب بما جلب وأبدع فيما صنع». ويقول صالح جودت في كتاب «شعراء المجون» إن طموح ابن لنكك الشعري تعثّر بسبب معاصرته للمتنبّي وأبو رياش اليمامي. لا تزيد قصائده عن البيتيْن أو الثلاثة أحياناً. وابن لنكك ليس معروفاً أو مُعرّفاً في المناهج الأدبيّة، وشعره غير منتشر أو منشور، ولم تصدر أشعاره في ديوان قبل 2005 عندما نشرتها «دار الجمل». وفي ابن لنكك (أو ابن لكنك، كما جاء في القصيدة تحريفاً)، قال الصاحب ابن عباد:
«شعرُ الظريفِ ابن لنكك، مهذّبٌ ومحكّكْ
مذهَّبٌ ومُمسَّك، بمثلهِ يُتمسَّك».
وكان ابن لنكك جريئاً في شعره ولم يتورّع عن هجاء المتنبّي، وقال فيه:
«ما أوقح المتنبّي، فيما حكى وادعاه
أبيح مالاً عظيماً، حتى أباح قفاه
يا سائلي عن غناه، من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبيّاً، فالجاثليق إله».
قال:
«لُعنتم جميعاً من وجوهٍ بليدةٍ، تكنّفهم جهل ولؤم فأفرطا
وإنَّ زمانا أنتُمُ رؤساؤهُ لأهَلٌ لأنْ يُخرا عليه ويُضرطا
أراكم، تعينون اللئام وإنني أراكم بطرق اللؤم أهدى من القطا». وقد ذهب بعض من شعره مثلاً حكميّاً مثل:
«يعيب الناس لهم الزمانا، وما لزماننا عيب سوانا، نعيب زماننا والعيب فينا، ولو نطق الزمان إذن هجانا، ذئاب كلنا في زيّ ناس، فسبحان الذي فيه برانا».
ونعود لقصيدة «المواكب».
قصيدة «المواكب» لجبران قصيدتان لا قصيدة واحدة، أو هي صوتان لا صوت واحد. والتشابه يظهر في أكثر من موقع في القصيدة مع بيتَي ابن لنكك. حيث يقول جبران في أوّل بيت (من الصوت الثاني في القصيدة):
«ليس في الغابات راع، لا ولا فيها القطيع». لكن الصياغة الفريدة التي وردت في بيتي ابن لنكك (كما بحر مجزوء الرمل عينه) في «ليس في البصرة حرّ، لا ولا فيها جواد»، تتكرّر في كل قصيدة (الصوت الثاني) في «المواكب» ليعود ليكرّر العبارة نفسها من ابن لنكك:
«ليس في الغابات حرّ، لا ولا العبد الذميم». لكن معرفة جبران بابن لنكك لا لبس فيها وخصوصاً أن هناك بيتاً آخر له (يرد أيضاً في «يتيمة الدهر») وهو يتشابه (لا يتطابق كما في الحالة الأولى) مع بيت آخر في القصيدة ذاتها.
يقول ابن لنكك:
«نحن ما هبّت شمال، بين جنّاتٍ وريفِ
فإذا هبت شمال، فكأنّا في كنيف».
ويقول جبران في قصيدته: «فإذا ما هب يوماً، سائرا سار الجميع». ويقول في موقع آخر: «فإذا هبّ نسيم، لم تجئ معه السموم».
والتشابه بين ابن لنكك وجبران لا يحتمل إمكان توارد الخواطر أو ان يقول صلاح لبكي أن عنوان ديوانه «أرجوحة القمر» غير مأخوذ من بيت شعري لميخائيل نعيمة في «همس الجفون»... لأن الكلمتيْن موجودتان في القاموس، على ما روى نعيمة في «سبعون». واضح أن هناك تأثيراً من شعراء أقدمين في شعر جبران وواضح أن ابن لنكك هو مُلهم لنصف قصيدة «المواكب» لجبران.
صحيح أن جبران زاد على بيتيْ الشعر لابن لنكك لكن جبران له تجاه الأوّل دين كبير وخصوصاً أن أدب جبران هو موسيقى أكثر مما هو فكر. (وقد قرأتُ بيتيْ جبران ثم بيتيْ ابن لنكك لصديقتي، ميشيل _ وهي لا تعرف العربيّة _ ولقد لاحظت التشابه الكبير بين الصيغتيْن).
إن ابتكار جبران وقرب نثره وشعره من الشباب في أوائل القرن العشرين حتى أوائل القرن الحادي والعشرين يرجع إلى سلاسة صياغته والنغمة الموسيقيّة التي تطبع أدبه. لو أخذت الموسيقى من قصيدة «المواكب» لبقي منها نزر يسير جداً.
هذا ما عناه نجيب حنكش عندما تحدّث عن سهولة تلحينه لقصيدة «أعطني الناي» لفيروز: قال إن دوره كان صغيراً جداً لأن القصيدة أتت ملحّنة (وهذا يشبه ما قاله محمد عبد الوهاب عن سهولة تلحينه لقصيدة «الجندول» لعلي محمود طه، والتي تشعر فيها بوقع المجاذيف على المياه بين بيت شعري وآخر).
السرقات الأدبيّة مسألة عانت منها كل الثقافات وهي تخصّ الإرث الأدبي والفكري، وهو مُتنازع عليه أحياناً بين الأحياء وبين الأموات. من يحسم مسألة الخلاف أو السرقة في قصيدة جبران؟ هناك حاجة للجان متخصّصة (لا أزعم أنني خبير فيه) كي تحسم هذه الصراعات. وأنا لم أقارب الموضوع من منظار مُتخصّص، إنما من منظار قارئ لاحظ ما لا يمكن السكوت عنه. إن حق ابن لنكك في رصيد أو في تلك القصيدة من أعمال جبران، لا يمرّ عليه الزمن مهما تقادم. الإرثان موجودان ويمكن القارئ كما يمكن المتخّصص أن يحسم أمر التشابه والسرقة. والتشابه غير السرقة.
التشابه هو مثلاً في أبيات تُعزى لعلي بن أبي طالب (لويس شيخو في «مجاني الأدب»، الجزء الأوّل، عزى مصدر الأبيات إلى «قال بعضهم»، ص. 13):
«إنما الدنيا فناء، ليس للدنيا ثبوت.
إنما الدنيا كبيتٍ نسجته العنكبوت.
كلّ ما فيها لعمري، عن قليل سيفوت.
ولقد يكفيك منها، أيّها العاقل قوت».
هذا النمط الشعري وفكر الزهد يظهر في أشعار جبران ونثره، لكن لا نستطيع أن نقول إن جبران سرق تلك الأبيات كما فعل في حالة ابن لنكك (وإن جاء في «المواكب»:
«كلها أنفاق خلد، وخيوط العنكبوت.
فالذي يحيا بعجز، فهو في بطء يموت».
لا أدري إذا كان هناك من كتب في موضوع السرقات الأدبيّة في أدب جبران، ولو كان هناك من سبقني إلى لفت الأنظار إلى السرقة من ابن لنكك فهو (أو هي) تستحق تنويه السبق. لقد بحثت عن كتابات منشورة حول سرقة أدبيّة لجبران (سأعود لمسألة «النبي») لكن لم أجد إلا مقالة قصيرة لفرياد إبراهيم بعنوان «سرقات أدبيّة لجبران خليل جبران» في موقع «الحوار المتمدّن» (لماذا هذا التوق إلى الظهور مظهر المدنيّة والحداثة؟ لعلّني أفضّل الحوار غير المتمدّن على الحوار المتمدّن إذا كان الأخير يتضمّن أفكاراً تطبيعيّة وليبراليّة رجعيّة مثل التي تزخر بها صحف أمراء آل سعود وآل ثاني).
لكن النموذجين اللذين يذكرهما الكاتب عن سرقة مزعومة لجبران من قصيدتيْن فارسيّتيْن لا يدينان جبران أبداً، والتقارب بين النموذجيْن لا يرد ربما إلا في ذهن المُتهِم. صحيح أن فرياد يعود ليكرّر تهمة قديمة عن تشابه بين شعر جبران ووليم بليك لكن الاتهام من دون سوق أدلّة في حالات كهذه يسيء إلى الكاتب وإلى من يُتهمه الكاتب. التشابه أو التقارب شيء، والسرقة شيء آخر. ولا يجوز التهاون أو التسرّع في الإدانة أو الاتهام قبل تقديم أدلّة ونماذج قاطعة.
أما قصّة «النبي»، فهي قصة أخرى. أنا لست ممّن يقول إنّ «النبي» مسروق أو مأخوذ من كتاب «هكذا تكلّم زرادشت» لنيتشه. لا يتهم أحد جبران بسرقة «النبي» من «هكذا تكلّم زرادشت» إلا من لم يقرأ من الكتاب الأخير إلا الفهرس أو العنوان. كتاب نيتشه تعبير عن فكر فلسفي خاص بنيتشه، بينما يفتقر «النبي» لفكر فلسفي خاص بمؤلفه، أو بأي فكر فلسفي من أي نوع. (لكن البعض في لبنان يخلط في الثقافة بين الشعر والفلسفة). الحقيقة أن هناك عدداً من الكتّاب تأثّروا بالفكرة العامّة (أو السرديّة الشكليّة) لكتاب «هكذا تكلّم زرادشت» وأرادوا تقليدها عبر تضمين كتابهم خلاصة أفكارهم (لا فلسفتهم). وقد بدأ بالسبق أمين الريحاني في «كتاب خالد» (صدر قبل «النبي» عام 1911، أي قبل نحو عشر سنين من «النبي») وتبعه في ما بعد جبران في «النبي» ثم ميخائيل نعيمة في كتاب «مرداد». والطريف أن الثلاثة نشروا الكتاب بالانكليزيّة ربما لأنهم أرادو تقليد النجاح والصيت اللذين نالهما كتاب نيتشه الذي صدر في السنة التي ولد فيها جبران، أي 1883.
إن في هيكل الكتب الثلاثة تقليداً لهيكل كتاب نيتشه لكن لا يمكن الزعم أن جبران (أو الريحاني أو نعيمة) سرقا فكر نيتشه لأن فكر الأخير يتباعد ويتناقض مع فكر جبران ونعيمة (حالة الريحاني مختلفة لأنه كان متمرّداً أكثر من الإثنين وخصوصاً أنه جاهر بآراء سياسيّة في لبنان وعارض البطريركيّة المارونيّة مع أن الريحاني تملّق لـ«ملوك العرب».
لم يكن منسجماً). جبران بريء من تهمة سرقة كتاب «النبي»، لكنه غير بريء من تهمة التأثّر الشديد أو حتى السرقة الأدبيّة من ابن لنكك، الشاعر غير المعروف من الجيل العربي الذي قرأ جبران وأعجب به. الأمر يحتاج لتقصّي خبراء واختصاصيّين لأن حقوق المؤلّفين والشعراء لا تموت بتقادم الزمن، حتى ولو بعد قرون.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)