عندما أُطلق العنان للآلة الإعلامية للترويج للتدخل العسكري الأميركي، وضع السوريون أيديهم على قلوبهم خوفاً على ذاتهم ووطنهم، ومن مستقبل تتحكم به قوى الخارج والقهر والتخلف التكفيري، فيما أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير يتم تغييبهم. فـ«الثورة» التي خُيّل للكثيرين في لحظة ما، أنها قد تكون مُنقذهم تحولت إلى أزمة من الصعب تجاوز تناقضاتها. ففي سياق تناقض حواملها، وتحولاتها والتغيرات الطارئة على سياقاتها، وتقاطع أزماتها مع أزمة السلطة، وتناقض مصالح القوى الدولية، وطغيان قوى التخلف والقهر التي تدّعي تمثيل الإسلام، تحوّل المجتمع إلى حقل للصراع والتناقض والتشتت والانقسام المحمول على مختلف تجليات التخلف والتناقض الاجتماعي والسياسي. فالحملة العسكرية التي حملت لواءها قوى الغرب وحكام الخليج وبعض الدول الإقليمية... أكدنا أنها لن تُفضي إلا إلى دمار البنى التحتية والفوقية والمجتمع، وإلى الفوضى والصراعات البينية التي ستطال تداعياتها كل الفئات الاجتماعية. فهي لن تُسقط النظام، ولن تقود إلى إيصال القوى السياسية الوطنية الديموقراطية إلى السلطة. لأن هذا ليس في حسابات الدول الكبرى، إن لم نقل إنها تعمل على إجهاض أيّ تحوّل وطني ديموقراطي.
إضافة إلى ذلك، فإنها تعمل على إضعاف السلطة المركزية وتدمير الجيش. فتترك بذلك سوريا نهباً لقوى الاستبداد والعنف الجهادي التكفيري التي تدّعي الدفاع عن مصالح السوريين، فيما هي في الحقيقة لا تعدو أن تكون أدوات في مشاريع دولية وإقليمية تحارب أي تحوّل ديموقراطي يمكن أن تقوده القوى الوطنية الديموقراطية والعلمانية.
وقد تزامن تراجع وتيرة الحملات الإعلامية الداعية إلى التدخل العسكري مع التركيز على ملف السلاح الكيميائي، مع تغييب مقصود لجذر الأزمة. وكأن تفكيك المخزون الكيميائي أو تدميره، أو وضعه تحت إشراف الجهات الأممية المختصة، سوف ينهي الأزمة السورية. وترافق هذا أيضاً، مع تغييب ملف ترسانة إسرائيل النووية، في لحظة كان يجب أن يتم فيها التشديد على إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. وهذا يستدعي بداهة إيجاد حلول جذرية للصراع العربي _ الإسرائيلي. وكذلك ربط ملف السلاح الكيميائي السوري بملف أسلحة الدمار الشامل في إسرائيل. ورغم أن التوافق على تدمير الأسلحة الكيميائية، وانضمام سوريا الى معاهدة حظر السلاح الكيميائي يجنّبها آنياً، هجوماً أميركياً كان وشيكاً، إلا أنه من الممكن أن يجعلها عرضة للتدخلات الخارجية والضغوط والابتزاز بشكل دائم.
وفي سياق الصخب الإعلامي والسياسي عن الترسانة الكيميائية، يعود من جديد الحديث الملغوم عن إيجاد حلول سياسية. ورغم أننا في المبدأ مع الحل السياسي، نشدد على أنه يجب أن يكون بمفاعيل وطنية ديموقراطية، تقطع مع الأطراف الجهادية والاستقطابات الدولية المتصارعة على سوريا وفيها. فالقوى الدولية التي تعمل على إيجاد مخارج للأزمة السورية ليست أدرى بمصالح السوريين، من السوريين أنفسهم. لكن من الواضح أنها تعمل على إيجاد حلول لتناقضاتها ومصالحها على حساب السوريين، وذلك من خلال تغذية أطراف الصراع، وضمان إبقائها تحت السيطرة.
وحتى لو سلّمنا بأن هذه القوى قادرة على وضع آليات لحل الأزمة سياسياً، وأنها قادرة على التحكّم بأطراف الصراع، فهل تستطيع أن تُخرج مكونات المجتمع السوري من التناقضات التي خلّفها الصراع الدموي، الذي يتجلى في كثير من لحظاته بأشد الأشكال تخلفاً وقهراً وعنفاً.
هنا، يجب علينا أن نتوقف قليلاً عند إمكانية الحلول السياسية التي يفترضها الغرب كمخرج من الأزمة، في لحظة يرفض فيها من يحمل السلاح أي مبادرة سياسية لا تتضمن رحيل رأس النظام أولاً. ويأتي هذا الرفض في سياق الادعاء بأن «الثورة» لم تحقق أهدافها التي تنحصر من وجهة نظرهم بإسقاط رموز النظام، وتحديداً الرئيس. وفي ظل الاستقطاب الدولي، فإن هذا يعني تأجيج الصراع وتحويله إلى صراع مفتوح على المجتمع. حينها، لن يتوقف إلا بعد تدمير السوريين لذاتهم، وتحويل سوريا إلى ركام. وبينما يتفاقم تأثير القوى الدولية في مجريات الصراع، فإن التناقض الجبهي بين حوامل الصراع يزداد حدة، والإرادة الشعبية يتم تغييبها، بينما القوى الديموقراطية العلمانية يتراجع تأثيرها، وأعداد المجاهدين غير السوريين ودورهم في ازدياد. وهذا يدل على أن أهداف الصراع ونهاياته لن تكون تعبيراً عن طموح السوريين. فالأطراف الجهادية الأكثر تعصباً (الدولة الإسلامية في العراق والشام، جبهة النصرة...) تعمل على التحكّم بآليات الصراع وخواتيمه من أجل تحقيق حلمها في إقامة دولة الخلافة. ويتجلى هذا أخيراً من خلال قتال هذه الأطراف لفصائل «الجيش الحر» واغتيال قياداته والسيطرة على مناطق كانت تحت سيطرته في ريف حلب، الرقة، دير الزور، الحسكة، إدلب... وهذا يدلّ على تحوّل جديد في مسار الصراع السوري. وهذا التحول، سوف يزيد من حدة العنف الأعمى، وخلط الأوراق، والعبث بالمجتمع السوري ومستقبله، الذي بدأ يدخل في طور التحولات ذات المآلات المجهولة، وغير المضبوطة.
وإذا كان إيقاف الصراع يشكّل الهدف الأول للسوريين، فإن دور القوى الدولية في الصراع، وشكل السلطة المقبلة، ومصير الجغرافيا السياسية، يشكّل هاجسهم الأساسي. هذا إضافة إلى أن الدور المتنامي للجهاديين التكفيريين، يشكّل مصدراً لخوف غالبية السوريين، وتحديداً الأقليات. إن تفاقم حجم التناقضات الاجتماعية وتوسع دائرة الصراع التي باتت تنخر عمق المكونات الاجتماعية، يمكن أن يكونا سبباً في استمرار الصراع بأشكال مختلفة.
فليست أحلام السوريين فقط من تم اغتياله، بل إن الدمار بكل أشكاله ومستوياته شمل غالبية أبناء المجتمع. فمعظم المرتكبين باسم «الثورة» أو السلطة، أو من استغلوا الأزمة لتحقيق مآربهم الدنيئة، لا يزالون بيننا. فالصراع دمّر كثيراً من العلاقات الاجتماعية، حتى إنه نال من الأسرة وساهم في تفكيكها، وأدخل أفرادها في صراع مميت. فالتّمزق الذي أصاب بنية المجتمع السوري تجاوز كل الحدود والضوابط. وطاول كافة الأشكال الاجتماعية ومستوياتها، وأدخل الفرد في صراع مع ذاته ومع الآخرين. ورغم أن انعكاس آثار الصراع وتداعياته، لم ينحصر على المستوى السياسي، فإن البعض يحاولون التغاضي عن تأثيراته وتداعياته على البنى والعلاقات الاجتماعية. ومع هذا، فإن السوريين معنيون بشكل مباشر بتجاوز هذه التناقضات، وضبط إمكانية تفجّرها في المستقبل.
وإذا لم تستطع الأطراف الدولية إيجاد مخارج سياسية تضمن تجاوز مفاعيل الأزمة الحقيقية والعميقة (وهذا ممكن لأسباب متعددة)، فإن المجتمع السوري سيكون على عتبة من التناقضات التي تهدد بانهيارات وتصدعات أكثر عمقاً وخطراً. فمن يستطع أن يمنع انتقام ولي الدم، ومن انُتهك عرضه أمام عينيه وهدّم منزله وسُرقت ممتلكاته ومن شُرّد من دياره وسُبيت بناته، وذُبح أقرب المقربين له، بحجج وذرائع لا تمت للإنسانية والعقيدة الإسلامية بصلة.
إضافة إلى ذلك، كيف ستتم مواجهة بقايا الإرهاب والعنف الخارج عن إرادة السوريين، وكذلك العنف والحقد الذي بدأ يتأصل داخل السوريين أنفسهم. فهل يستطيع السوريون تضميد جراحهم وتجاوز أحقادهم الثأرية والانتقامية؟
بالتأكيد، إن جميع هذه العوامل والمظاهر لا تستطيع قوى الغرب أن تجد لها الحلول المناسبة. لأن ما يعنيها هو تحقيق مصالحها التي تتناقض بالأساس مع أحلام السوريين وأهدافهم. كذلك فإن من يحمل رايات «العنف الثوري» لا يستطيع أن يتجاوز ما أنتجته الأزمة، كونهم نتاج الأزمة وأحد أسبابها. كذلك فإن كثيراً من الآليات التي تعتمدها السلطة يناقض حقوق الإنسان، إضافة إلى أن كثيراً ممن تعصّبوا للسلطة مارسوا بحق السوريين أكثر الأشكال السلطوية عنفاً وقهراً.
إن مجمل التحولات التي ساهمت وتساهم في استمرار الصراع، تفترض منا التساؤل عن قدرة قيم المجتمع السوري الأخلاقية والدينية على تجاوز مخلفات الأزمة، وردم الهوة التي تزداد تجذّراً. وهل سيكون بإمكان هذه القيم مع وعي السوريين لذاتهم وحقوقهم ومصالحهم تجاوز الانهيارات والانتهاكات التي كان الصراع والتخلف والاستبداد من أسبابها.
فالسوريون أمام مرحلة بالغة الصعوبة. فاستمرار الصراع يزيد من تعميق الكارثة الإنسانية والاجتماعية، ويفتح سوريا على المجهول. كذلك فإن إيقافه وفق آليات تضمن مصالح الغرب ومن يدور في فلكهم سيضعهم مباشرة أمام أزمات وإشكاليات من الصعوبة بمكان تجاوزها.
وإذا كان إيقاف الصراع يشكّل المهمة الأولى للسوريين، فإن تجاوز ما أفرزته الأزمة سيكون في مقدمة المسؤوليات التي يجب عليهم تحمّلها. فوعي الإنسان السوري وحرصه الوطني وأخلاقه ودينه ستكون أمام اختبار حقيقي في الآتي من الأيام. فالسوريون وكل القوى الوطنية الديموقراطية والعلمانية الرافضة للعنف، مُطالبون بالعمل على إيجاد آليات تُخرج المجتمع من تداعيات الأزمة التي حطمت الإنسان وأدخلته في تناقض وصراع مع ذاته والآخرين.
ومن المرجّح بأن المرحلة المقبلة سوف تُشكّل عتبة لجملة من التحولات، عليها سيكون الاختبار الحقيقي لوعي السوريين ووطنيتهم. وإذا لم يتم تجاوزها بالعقلانية والموضوعية اللازمة، فإن المجتمع السوري سيكون على موعد مع أزمات وكوارث إنسانية وأخلاقية واجتماعية جديدة ومتجددة. فإخراج الجهاديين والتكفيريين ودعاة العنف والقتل والانتقام، من المشهد السوري، يساهم في حقن دماء السوريين، لكنه لن يكون كافياً. أما المفاوضات الدولية فإنها لن تكون المآل الأخير، ومحاسبة المتورطين في انتهاك دماء السوريين وكرامتهم، والرهان على وعي السوريين وقدرتهم على تجاوز أحقادهم وتحمّل مسؤولياتهم الأخلاقية والسياسية، من الممكن أن يساهم في إعادة التماسك الاجتماعي والبدء ببناء وطن ديموقراطي حر ومستقل، تكون فيه حقوق الإنسان والمواطنة والعدالة الاجتماعية هي المقياس والمعيار. وهذا لن يكون إلا بإخراج المقاتلين الغرباء من سوريا، والقطع مع الاستقطابات الدولية، والتوصّل إلى آلية سياسية بين السوريين أنفسهم، من خلالها يتم إيقاف الصراع، وضمان حقوق السوريين، وليس مصالح أطراف الصراع الذاتية. وقد يستدعي هذا رعاية أممية مستقلة ومحايدة، بشرط ألا تتحول إلى وصاية دولية، لفرض شروط الدول ذات المصلحة في الصراع على سوريا وفيها.
فهل سنكون قادرين بقوانا الذاتية على تجاوز أزماتنا، وبناء ذاتنا الإنسانية الواعية لمصالحها وأهدافها. ولأن تحقيق المعالي من الأهداف لن يكون بالأماني، فإن تماسك السوريين وتصميمهم على تحقيق أهدافهم سيكونان السبيل الوحيد لذلك.
* باحث وكاتب سوري