حين أبدى النظام البحريني انزعاجه من خطاب أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة (23 أيول/ سبتمبر 2013)، ركز المتحدثون باسم النظام على بعد واحد: أن البحرين لا تعيش توتراً طائفياً. بيد أنّ من الخطأ الاعتقاد أن ذلك جوهر أو أكثر ما أزعج النظام، وإذ ركز النظام على هذا البعد (الإشكال الطائفي) في خطاباته العلنية، فلعله يرمي إلى تأكيد أن الحدث البحريني المدوي لا يعدو أن يكون بالفعل توتراً مذهبياً، على أمل أن يساعد ذلك الآلة الدبلوماسية والإعلامية المرتكبة للنظام أن تحرف النقاش المحلي والدولي عن القضايا الجوهرية في الحالة البحرينية، التي ورد العديد من عناصرها في خطاب أوباما الأخير. في ما يخص البحرين، تحدث أوباما عن نقاط عديدة، الأولى: أن البحرين مثل سوريا تحتاج إلى الديمقراطية، وهذا يعني أن نظامها دكتاتوري، ولا يعبر عن تطلعات المواطنين والقوى السياسية. إنه تعبير فاقع ضد النظام، يصدر علناً في أهم تجمع دولي سنوي، من قبل الدولة العظمى في العالم، التي تعد الحليف الأقوى للمنامة والرياض. ومن شأن ذلك أن يضرب مرتكزات مقولات السلطة الحاكمة، التي تدعي أن البحرين نموذج ديمقراطي يحتذى به.
أوباما تحدث ليلطخ ويشتت جهد ملك البحرين (المتشدد) وولي عهده (المعتدل)، وملايين الدولارات الني صرفتها شركات العلاقات العامة، مدعية أن العائلة الحاكمة قادرة على خلق الاستقرار واستيعاب الاحتجاجات، لكن ما يتضح أن البحرين ليست واحة ديمقراطية، كما يدعي خليفة بن سلمان، رئيس وزرائها الذي استقر في منصبه نيف وأربعين سنة، ولعلها «قصة النجاح» الوحيدة لنموذج الحكم البحريني، الذي لطالما تغنى جهازه الإعلامي بأن البحرين الأولى شرق أوسطياً في الديمقراطية وحرية التعبير... والاقتصاد!
النقطة الثانية التي أثارها أوباما تتعلق بالبعد الطائفي، أو ما سماه توتراً طائفياً. شمل به البحرين وسوريا والعراق. سوف أؤجل الحديث عن سوريا والعراق إلى مناسبة أخرى. وأركز على البعد الطائفي في الحالة البحرينية.
أوباما في ذلك يختلف مع رؤية المعارضة والسلطة. المعارضة لطالما أكدت أن الإشكال البحريني يتمثل في صراع بين نظام دكتاتوري له أنصار من الشيعة والسنة، ومطالب شعبية بالتحول الديمقراطي لها أنصار من الطائفتين أيضاً. أما السلطة، فإنها تصف الصراع السياسي في البحرين بأنه صراع مذهبي، وإشكال حاد قد يتحول عنفاً أهلياً بين الشيعة والسنة، وهو ليس بإشكال سياسي أو جزء من الربيع العربي كما يعكس ذلك تقرير بسيوني، أو كما يقرر أي مراقب موضوعي.
وفي الواقع، فإن العودة إلى تصريحات الملك ومقولاته التي نشرها في 2011 في الصحف الأميركية، وتلك المستمرة إلى الآن، وتصريحات وزير الخارجية بعيد الهجوم على دوار اللؤلؤة والراهنة، وتصريحات وزيرة التنمية الاجتماعية فاطمة البلوشي، التي تصدرت المشهد إبان فترة الطوارئ باعتبارها أيضاً وزيرة حقوق الإنسان ووزيرة الصحة، وتصريحات معظم المسؤولين الحكوميين الآخرين، وإعلام السلطة وبوقها الفج سميرة رجب، يتضح بأن النظام يوصّف انتفاضة 14 فبراير غير المسبوقة بأنها حركة صادرة من أقلية مذهبية مدعومة إيرانياً، تمارس نشاطاً إرهابياً، لقتل السنّة، والانقضاض على الحكم الخليفي الصالح.
أوباما في خطاباته يرفض التوصيف الرسمي للتظاهرات، السلمية المحقة، بنظره. وأراني اتفق معه على أن الحدث البحريني ضد الدكتاتورية، خلّف توتراً مذهبياً، وهي إشكالية يجب مواجهتها بجرأة، ذلك أن المستفيد الأكبر منها هو النظام.
وأظن أن الحقيقة الدكتاتورية في البحرين أفرزت قنبلة التجنيس المضرة، وروح ومزاج البحرين كما يعرفها مواطنوها وإقليمها والعالم، كما أفرزت مؤسسة عسكرية ـ أشرف على تأسيسها الملك منذ منتصف ستينيات القرن الماضي ـ تستند إلى نظرية قبيحة بأن المواطنين الشيعة يجب اقصاؤهم عن السلك العسكري والأمني. وفي النهاية أفرزت الدكتاتورية البحرينية ولا شك سياسة تمييزية مريضة ضد الأغلبية الشيعية، أظن أنها تستدعي عدم التردد في طرح ما سميه «القضية الشيعية في البحرين»، دون تقديمها على التحدي الديمقراطي الأوسع.
ويبدو لي أن على المعارضة أن تقر بأن نظام الحكم تمكن من بناء قوى سياسية سنية موالية له، حتى وهي تراه نظاماً دكتاتورياً وفاسداً، لكنها ترى في نفسها شريكاً، وإن صغيراً، في السلطة، ما يجعل من المعارضة خصما للنظام ولها.
وإذ تبدو هذه المعارضة ذات أغلبية شيعية، وهو أمر منطقي بحكم أن شعب البحرين ذو أغلبية شيعية، وبالنظر إلى الحالة التمييزية ضدهم (الشيعة)، ولما كان السنة عموماً يحظون بصفة المواطنين الأولى بالرعاية، فإن الموالين السنة يظهرون هواجس جدية تجاه أي حراك معارض. إن ذلك سيظل إشكالاً بالغ التعقيد، والظن أن من السهل تجاوزه يبدو تبسيطاً في ظل حالة إقليمية غير مؤاتية، ونظام يستخدم النموذج العراقي المثير للأسى لتخويف السنة... وبعض الشيعة بطبيعة الحال.
النقطة الثالثة التي ذكرها أوباما أن الديمقراطية في البحرين وسوريا والعراق تحتاج إلى وقت كي تنجز، وأظن أن تلك نقطة في مصلحة النظام، الذي يتميز بقدرته على امتصاص الضربات، والتكيف مع التقلبات ليخرج في نهاية الأمر، وقد قويت شوكته، وليس بالضرورة شرعيته المتآكلة.
النقطة الرابعة، أن أميركا مستعدة للمساعدة في ذلك التحول الديمقراطي في البحرين. ويصعب على المتابع للسلوك الأميركي اعتبار ذلك حراكاً مضاداً للنظام الحاكم بالضرورة! ذلك أن مجمل المساعدات المرتقبة ستكون في شكل منع أسلحة قاتلة للمتظاهرين، يمكن للسلطات شراؤها من منافذ بيع أخرى. أو في شكل تصريحات أميركية يندر أن تتحول أفعالاً. ومع ذلك يتوجب الإشارة هنا إلى أن الأميركي البراغماتي يتحرك وفق موازين القوى التي إذا مالت لمصلحة المعارضة، كما كان الحال في مطلع 2011، فإن خطاب الأميركي وأداءه سيكونان أكثر توازناً. لكن يظل الإشكال أن الضغوط الأميركية قليلاً ما تتحول تلقائياً إلى رأسمال في مصلحة المعارضة المحافظة، التي اعتادت اتباع أسلوب دفاعي لتسجيل الأهداف. وهي استيراتيجية لا تشجع الأميركي أصلاً حتى على ممارسة ضغوط على حليفه الخليفي.
النقطة الخامسة، إشارة أوباما الجلية إلى أن الحل في البحرين هو بيد البحرينيين. وذلك فيما أظن أنه مربط الفرس في أن الديمقراطية مهمة شعب البحرين، كما هي مهمة شعب سوريا والعراق ومصر. ولن يتقدم الأميركي خطوة في ذلك، وإذا تقدم فإن أهدافه غير الديمقراطية المرفوعة باتت شعارا أحياناً. فالتعويل على الأميركي لـ«إحقاق الحق» ليس إلا تعلقاً بسراب. ويعيد ذلك الكرة في يد شعب البحرين الذي عليه أن يقوم بما يتوجب إذا أراد المضي نحو التحول الديمقراطي.
إذاً، فإن الانزعاج الرسمي البحريني من خطاب أوباما مبرر ما دام المد الديمقراطي المفترض لن يلقى صدوداً من أميركاً، بل دعماً غير محدد المعالم، لكنه مفتوح الأفق بالنظر إلى عدم اليقين الذي يسود المنطقة.
أما حماسة بعض المعارضة لخطاب أوباما، فلعلها كمن يقرأ الآية الكريمة «ولا تتركوا الصلاة...»، ذلك أن أوباما واضح بأنه لن يسقط نظام سوريا، ولا إيران... وبالتأكيد ولا البحرين. وعلى اللاعبين الإقليميين، بما في ذلك إيران والسعودية، التزام هذا الخط.
لقد كسر أوباما التعتيم على ربيع البحرين، لكنه رمى بثقل تحريك هذا الربيع على المعارضة التي عليها وحدها مواجهة النظام، وإذا انتصرت، فسيتصل بها أوباما مهنئاً، أما إذا انتصر النظام فلن يعزي أوباما جمهور المعارضة.
وإذا اعتقد البعض أن ذلك سيجعل اللاعبون المحليون غير مغلولي الأيدي، فإنه قد لا يعرف أن البحرين من أكثر دول المنطقة، على الإطلاق، بحسب تقديري، عرضة للتأثيرات الخارجية. فالمناخات الإقليمية والدولية، لطالما ألهمت الحراكات البحرينية المتتالية، بيد أن تسديد الأهداف يتوقف في حالات كثيرة على امكانات اللاعبين المحليين ومهاراتهم وتحالفاتهم. كما سأوضح في مقال قريب.
* كاتب وصحافي بحريني ــــــ لندن