في تفوّق «القوة الناعمة»
مستوى حضور «القوة الناعمة» كان، دائماً، مؤشراً رئيسياً لمستوى حضور العدالة والجمال والحرية في مجتمع ما. والعكس صحيح. ولكبح استفحال «الافتراس»، كرستْ مدارس سلوكية انبثقت من ديانات وفلسفات، أولوية رفع مستوى القوة الناعمة.
بالقوة الناعمة، واجه الناصريُّ، الفساد والبطش، وغاندي، الاستعمار البريطاني، وبها انتصر الإسلام في الحبشة وقدم أمثولة يثرب «المنورة» وأسرى بدر، ومن فلكها قدم جلباب ابن الخطاب (ر) رسالته البليغة.
بنقيضها كرس الطغيان حضور «الجبرية» في المجتمعات العربية الإسلامية لنفي العقلانية والإرادة، دافعاً عربة حضارتها إلى هاوية انحطاط، يحاول إعادة إنتاج نفسه اليوم بتكفيرية مجرمة وليبرالية نخاسة.
وبنقيضها، تستدعي معارضة إسطنبول والخليج، دولاً لها تاريخ حافل بالفتك بالشعوب والبلدان، لتدمير سوريا الوطن والدولة. وبنقيضها، تخوض التكفيرية «الإسلامية» معركة تدمير قوة الإسلام الناعمة التي انفتحت لها قلوب البشر في أطراف المعمورة، مشيحة عقلها وفعلها عن: {... وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر}، مستبدلة الكلمة الطيبة بالذبح بعد البسملة والتكبير. قديم هو عداء الجبرية التكفيرية لمكارم الأخلاق ولطلب العلم من المهد إلى اللحد، ولخطابٍ نهى جيش المسلمين عن قطع شجرة. في ريف جبل الشيخ اقتلع الجيش الإسرائيلي كل الأشجار المثمرة قبل الانسحاب منه، وفي ريف اللاذقية حرق من حملوا راية عليها اسم الجلالة، الأشجار المثمرة قبل انسحابهم من قرى احتلوها. «فتحٌ»، يدفع إلى تدمير القوة الناعمة الموروثة والمكتسبة في المجتمع السوري، وصولاً إلى تصنيع فرد مشوه، قلبه كاره إلى حد أكل القلوب، و«ثورة» نخب ليبرالية تعهدت تدمير البنية التحتية الاقتصادية والخدمية عمالةً لسادتهم الباحثين عما يطفئ نهمهم للافتراس، وتأجيل انفجار أزمتهم الاقتصادية، ولو إلى حين.

ربيع السقوط

في الولايات المتحدة، لا تملك أي ولاية حق فرض ما تختاره لنفسها على بقية الولايات. لكن إدارة بوش المؤمنة بحق الأقوى بافتراس الأضعف من غير ضابط أو رادع، نصبت نفسها سيدة للعالم، وأطلقت مصطلح سيادتها عليه (سيطرتها). وترجمت ذلك بغزو بلدان ذات سيادة واحتلالها.
قبل نهاية حقبة بوش، شهد المجتمع الأميركي انقساماً لم يُعرف له مثيل حتى في الحرب الأهلية، ووجهت الطبيعة وقاطنوها رسائل عديدة مفادها: لا نستطيع بعد احتمال هذا النظام العالمي المدمن للافتراس والتدمير. نظام تنمو حاجته لمزيد منهما كل فترة.
بدت مصلحة الجنس البشري والطبيعة بتغيير بنية النظام الدولي وطيّ «حق الافتراس» ونزعة السيطرة على العالم، جلية واضحة.
انتخب باراك أوباما لكبح التدهور على الصعيدين الأميركي والعالمي، وأنعش فوزه أمال كثيرين من سكان العالم بلجم نزعة الافتراس المهيمنة، وبغسل المكتب البيضاوي من رائحة جرائم علقت به (هيروشيما، وكوريا، والعراق... إلخ). فقد سبق للمكتب البيضاوي أن استضاف قادة دفعوا حياتهم ثمناً لحرصهم على دعم الحقوق المدنية وإعطاء السلم العالمي، فرصاً أفضل. فاجأ خطاب الرئيس أوباما بشأن استخدام سلاح كيميائي في غوطة دمشق، كثيرين، وخصوصاً حين قال إن الولايات المتحدة الأميركية ستمارس حق السيادة... في العدوان على سوريا. عودة مفاجئة من حامل نوبل للسلام إلى مقولة بوش المفضلة، عودة كريهة أيقظت سخطاً كامناً في المجتمع الأميركي، وبدت الولايات المتحدة كمن انشطر إلى شقين يبحث أحدهما عن سبيل للتشبث بما انتخب أوباما من أجله، ويحاول الثاني دفع البيت الأبيض على طريق بوش.
أنعشت هزيمة كاميرون في مجلس العموم الأمل بالديموقرطية، وبرز احتمال أن يكون رجوع أوباما إلى إرادة المجتمع الأميركي، المنقذ لأميركا وللحضارة البشرية.
عملياً... ما زالت بعض الحلول للمسائل الخطيرة والمعقدة تكمن في جعبة الديموقراطية رغم الانحرافات والتشوهات التي علقت بها. لكن الديموقراطية ستضل الطريق، على المستوى الدولي، إن أجازت دولة ما لنفسها اعتماد قرارات تلغي إرادات الدول الأخرى. في جلسة المساءلة في الكونغرس، استعار كيري تقنية الضواري المتمثلة بالسعي إلى شل إرادة الفريسة قبل شن الهجوم. هدد سوريا بالويل، ووعدها بالندم إن هي تصدت لذلك الويل. جلسة كشفت أن نوبل للسلام لم تهذب إدارة أوباما لتختار السلم وتنبذ الافتراس. في الجانب المقابل من الأطلسي، فقدت السلطة الفرنسية روابطها بثورة العدالة والحرية والمساواة. وبيعت في فرنسا نسخ للوحة رسمها فنان فرنسي يظهر فيها الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي كمصاص دماء. قبل قرابة عقدين، ولدت جبهة مدنية مناهضة للعولمة المتوحشة، قدمت شهيدها الأول في ساحة قريبة من التي أحرق فيها «جوردانو برونو». جبهة عقدت العزم على ضرورة تغيير جذري لبنية النظام العالمي. لاحقاً ولدت «بريكس» وتكتلات في أميركا الجنوبية وآسيا مناهضة أيضاً.
ساحة الصراع الكوني اليوم هي سوريا. ومكرَّرٌ القول إن مستقبل أمن ومعيشة وحرية كل سكان العالم يرتبط بنتيجة هذا الصراع؛ فهل يمكن تبسيط الموقف من ذلك الصراع إلى معادلة لها حل وحيد، هو النأي بالنفس عن مسؤولية المثقف والسياسي في الإسهام في الجهد الإنساني المتصدي للنظام العالمي المفترس، الذي صنع كوارث منها التي شهدها العراق وليبيا وسوريا اليوم.
منذ بداية ما اصطلح على تسميته «الربيع العربي»، تراجع الحديث عن الكارثة البيئية المرتقبة على مستوى الكرة الأرضية، وعن انفجار كبير مرتقب لأزمة اقتصادية قد تدفع نصف سكان الأرض إلى الجوع، وضعف الضغط على أنظمة شركات العولمة المتوحشة العملاقة المنتجة لمسببات الخراب البيئي والاقتصادي على المستوى العالمي، وتراجع مستوى القوة الناعمة في الدول العربية وتركيا كثيراً، فضلاً عن تلاشيه في إسرائيل.
كيف يقفل المثقف (خصوصاً «اليساري الثوري») بصره وبصيرته، إذاً، عن الصراع الجاري، ويصطف، بذلك، مع العولمة المتوحشة، قاهرة الطبيعة والبشر، ثم يصنّف نفسه حاملاً لهم الحرية والعدالة والمساواة؟

النخّاسون

هللت أنظمة عربية وتركيا وإسرائيل والائتلاف والجيش الحر ومجلس اسطنبول، لحفلة ألعاب نارية أميركية من شأنها أن تزهق أرواح الآلاف من السوريين، وأن تدمر ما لم تدمره داعش وجبهة النصرة وفتاوى أئمة التكفيريين، من بنية سوريا التحتية وبيئتها الأخلاقية، وتعيدها إلى العصر الحجري؛ البيئة المناسبة لسلطة البداوة، كما حصل في الصومال. قال جنرال إسرائيلي متقاعد: «منذ عشرات السنين يجري إعداد جيش إسرائيل لمواجهة الجيش السوري الذي أضعفه كثيراً القتال مع المسلحين، ونرحب بضربة أميركية تضعفه أكثر».
ما طلبه المعارضون «المدنيون» كالجربا وصبرا وغيرهما، من أميركا وفرنسا، كان أكثر من ذلك. تساءل المجتمع المدني في معظم بلدان العالم، وقد شرعت رايات العدوان على سوريا: هل سيختار أوباما درباً تفقد الحضارة البشرية، الإبصار؟
وانطلقت الصلوات الكونية لإنقاذ سوريا والبشرية من الجحيم الآتي، بينما أعلنت تركيا والسعودية و«المعارضة» عن السخط الشديد عندما لاحت تباشير دخان أبيض من المكتب البيضاوي. واستبشر بعضهم بقرار جديد يستبدل خيار الضربة الضعيف (قصف متواصل لثلاثة أشهر فقط!)، باجتياح عسكري.
هل تستقيم صفة «مواطن»، لمن يأمل حصول ذلك لوطنه؟ بل هل تستقيم صفة إنسان لمن يتشهى العدوان؟ أم هو النخّاس؟

«الجيش» و«التشاركية»

الصومال هي نموذج ما تسعى إسرائيل إلى تعميمه على الجغرافيا السياسية المحيطة بها. انطلاقاً من نظرية أمنها القومي التي طورت بعد اغتيال إسحاق رابين واضمحلال اليسار الإسرائيلي. وجوهرها أن لا تكون شعوب الجوار قادرة على أنتاج أي طاقة مجتمعبة، بكمٍّ وكيفٍ، قد يسببان، ولو افتراضياً، أذى لإسرائيل.
يحلم نتنياهو بصوملة سوريا. فبغياب الجيش العربي السوري، ستتدفق جحافل المرتزقة إلى التجمعات السكانية وترتكب الفظائع، وتذهب سوريا نحو الصوملة.
أذلك هو النصر الذي ينتظره «المعارضون»/ النخاسون؟
أما الغد الذي يحلم به السوريون، فيبدأ بهزيمة العدوان الخارجي بكل أشكاله، ويتوّج بسوريا مدنية ديموقراطية لكل أبنائها. لا أحد يماثل العملاق الأميركي مقدرة على ارتكاب البشاعة. لكن ارتباط الوطن بحق البقاء ينتج بلسماً، وسوريا التي وهبت البشر، الكلمةَ، تهبهم اليوم، بصمودها، فرصة للجم وتغيير بنية النظام العالمي المتوحش، وتعزيز القوة الناعمة الكونية. وذلك لا يلغي أو يهمش توق مجتمعها لنظام مدني ديموقراطي، بل يوائمه ويعززه؛ هو مسار يرسمه ارتقاء تطوري من أجل البقاء والنماء، كما شهدت الطبيعة مراراً. والسوري المبدع تاريخياً قد يفاجئ الجميع بوضع حجر أساس النموذج الحضاري البديل، في سياق صراعه مع الإرهاب والنظام العالمي المفترس والفساد الذي نخر مجتمعه.
ليس أمام شعب سوريا إلا الالتفاف حول جيشه الوطني، ونزع ما اكتست به الدولة من جلد فاسد، طوال عقود، لكي ينفتح الباب أمام تشاركية وطنية تلجم الفساد وتدحر عدواناً ماثلاً وآخر مرتقباً، وتضع السوري المبدع على سكة بناء دولة مدنية ديموقراطية، تشكل مدماكاً في بناء القوة الناعمة الكونية.
* ناشط يساري ـ سوريا