أخذت الأزمة السورية طريقها إلى التدويل من الباب العريض: من مسألة تفكيك السلاح الكيميائي، إلى فتح ممرات لإيصال المساعدات... «والحبل على الجرار»!وصدر في أسبوع واحد، لهذا الغرض، قراران عن مجلس الأمن. ولا يمكن إلا أن يصنّف، أيضاً، في باب التدويل، ولو غير الرسمي المباشر، مجمل مشروع «جنيف» في شقه الأول (حزيران عام 2012)، وفي شقه الثاني الذي يجري الحديث عن احتمال انعقاده منتصف الشهر المقبل (دون ذلك عقبات تجعل حتى مجرد الانعقاد أمراً متعذراً). ولقد تضمن قرار مجلس الأمن ذو الرقم 2118 «تأييداً تاماً» لبيان جنيف ـ «الذي يحدد (حسب نص بيان مجلس الأمن) عدداً من الخطوات الرئيسية، بدءاً بإنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كل الصلاحيات التنفيذية...». أضفى ذلك أيضاً على الجهود الثنائية الروسية ــ الأميركية طابعاً دولياً.

وهي جهود، لولاها، ولولا ما أنتجته من تفاهمات محدودة ضمن صراع ضار ومحموم، لما كان لمجلس الأمن، لا في بيان عادي ولا في تصريح رئاسي، أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
يجب أن نتذكر، في هذا السياق أيضاً، أن تكليف عدد من الموفدين العرب والدوليين بصيغة بعثات أو مندوبين، قد تكرر منذ وقت مبكر، انتهاءً بمهمة الأخضر الإبراهيمي، التي اختصرت كل البعثات والموفدين والممثلين العرب والأجانب في الوقت عينه.
والتدويل هو ثمرة تشابك جملة من العوامل الكبيرة والمتنوعة في الصراع على سوريا وفيها. وتكاد المحنة السورية تصبح اليوم، في ظل التدويل المذكور، إحدى أكثر الأزمات تعقيداً، بل أكثرها تعقيداً... هذا إذا استثنينا الأزمة الفلسطينية المستعصية والناجمة عن الاغتصاب والعدوان الصهيوني على شعب فلسطين وشعوب المنطقة منذ أكثر من سبعة عقود حتى يومنا هذا.
وأساس التدويل، المتفاقم أبداً عبر دخول وتنامي دخول عناصر أجنبية إضافية في الصراع، هي عجز متعدد الطرف. يبدأ هذا العجز من الداخل السوري، حيث إنه مع اندلاع التحركات الشعبية المطالبة بالاصلاح وبالحريات، أشاح النظام عن كل جهد سياسي مركزاً على استخدام القمع والقوة المتاحة والعنف المفرط... وقد استسهلت أطراف أساسية في المعارضة اللجوء إلى الرد بالأسلوب نفسه، فكانت العسكرة والتسلح وطلب الدعم والتدخل الخارجيين... ولقد اشترك النظام السوري وأكثرية معارضيه في التمهيد لتحويل التطرف والمتطرفين، بما في ذلك جماعة «القاعدة»، عنصراً أساسياً جداً في المشهد الصراعي السوري، على ما يتبدّى ويتفاقم في المرحلة الراهنة. ويبلغ العجز الداخلي السوري الآن ذروة غير مسبوقة. وهو مرشح إلى اتخاذ أبعاد جديدة، أكثر مأساوية وخطورة، ما دامت كل فرص واحتمالات الحوار الداخلي بين السوريين، سلطة ومعارضة، وبوسائل ذاتية بشكل أساسي، هي معدومة تماماً.
والتدويل هو أيضاً، وبدرجة لا تقل أهمية، نتيجة من نتائج العجز العربي. والعجز هذا نوعان. الأول والأهم هو الشق الرسمي منه. ذلك أن معظم الموقف الرسمي العربي لم يكتف فقط بالعجز، بل هو سارع ليكون طرفاً في الصراع، وبشكل كان يزداد فظاظة وتطرفاً مع فشل القطب الخليجي المقرر فيه، في الانتقام من النظام السوري بإسقاطه في أسرع وقت ممكن. أما النوع الثاني من العجز فذلك الذي ميّز سلوك الأطراف العربية غير الرسمية. وهي أطراف سورية وغير سورية. فقد اصطدمت بعض المبادرات الخجولة بالإصرار الرسمي السوري على المنحى الأمني، فاختار معظمها الانكفاء. وكان ذلك سبباً كافياً، أيضاً، لعدم تشجيع آخرين على المبادرة. ينطبق ذلك، أيضاً، على أصدقاء أوروبيين دفعهم الحرص إلى بذل محاولات وساطة بين النظام و«المعارضة الوطنية». وهي محاولات انتهت عموماً حتى قبل أن تبدأ، نتيجة السبب المذكور آنفاً، بشكل عام.
مع الوقت أفلت الزمام كلياً من أيدي القوى السورية المتصارعة. هذا ما يميّز حالياً مسار هذه الأزمة التي تعزز فيها التدويل، مرة جديدة، عبر دخول «أمميات» ناشئة على لوحة الصراع، هي الأمميات السلفية والجهادية التي يزداد حضورها التدميري في المشهد السوري. ومعروف أن العنصر «الجهادي» ليس سورياً بالدرجة الأولى. هذا فضلاً عمّا يشوبه، أيضاًَ، من مشاركة قوى متطرفة غير عربية، وما يتداخل معه وفيه من أدوار مخابراتية تمتد، في لوحة سوريالية، من أقصى العالم إلى أقصاه!
إنّ صراعاً بهذا العمق والاتساع، لا أهداف وحيدة أو بسيطة توجهه. تتوزع استهدافاته على عدد كبير ومتناقض من المصالح الكبيرة والصغيرة ذات الطابع الدولي والاقليمي والمحلي. فلقد اتخذ الصراع في سوريا في البداية شكل أزمة، ثمّ صار محنة. وهو الآن كابوس بكل ما في الكلمة من معنى!
ولعل الخطوة المطلوبة الآن هي ما كان يجب أن يحصل منذ البدايات: مبادرة سياسية من قبل السلطة السورية. نعم سياسية! مبادرة على شاكلة مبادرة الكيميائي المثيرة للجدل! مبادرة توقف حرب الداخل بعد أن أوقفت (مبدئياً) مبادرة الكيميائي حرب الخارج... فلم تعد الأولوية لإنقاذ النظام، بل سوريا نفسها هي ما يجب إنقاذه! ولذلك حبّذا لو اجتمعت القيادة السورية، برئاسة الرئيس بشار الأسد، واتخذت قراراً تاريخياً، بصيغة إعلان مدوّ، بأنها قررت العمل على وقف الحرب والدمار والقتل، بكل السبل المتاحة. وهي في سبيل ذلك... وبالتلازم مع نزع الكيميائي، ستعتمد مساراً سياسياً مثابراً يفضي إلى إجراء انتخابات في خلال ستة أشهر. وتعلن السلطة السورية، لهذا الغرض، أنها على استعداد كامل للمشاركة في حكومة ذات تمثيل واسع ومقنع، تتولى إدارة المرحلة الانتقالية. إن ذلك هو بمثابة إعلان نوايا صارم وصادق لإحراج، وربما لإخراج، كل المصطادين في مياه الأزمة: من شذاذ الفقه ومدّعي الجهاد، إلى العاملين على تدمير سوريا بكل مقوماتها ومقدراتها ودورها وحضارتها، إلى الداعمين لسياسة استنزاف صمودها وصمود حلفائها...
مثل هذه المبادرة هي، ربما، الخطوة الأولى التي يمليها الواجب الوطني والقومي والتاريخي، وليس الاستغراق والغرق القاتلين في المسار التدميري الراهن، ومعها الانخراط في تفاصيل جنيف، وتشكيل الوفود... وبالتالي إدامة زمن الموت والانهيار لإحدى أقدم معالم الحضارة والمدنية في التاريخ.
من هنا تنطلق، ربما، استعادة المبادرة، وينطلق وقف التدويل، وينبثق أمل الحل والإنقاذ!؟
* كاتب وسياسي لبناني