في صفحات رأي «الأخبار» (9 تشرين الأول 2013) مقالان مهمان يتناولان مسألة المسيحيين والمشرقية، أولهما للدكتور ألبر داغر، وعنوانه «العماد عون والمشرقية»، وثانيهما للسيد إدكار طرابلسي، وعنوانه «مسؤولية اللقاء الوطني المسيحي نحو الهوية المشرقية». وأجدني، في هذه المناسبة، سعيداً لأنّ رحى الحوار حول المشرقية، يدور وينتج، ما سيصبّ في عملية تكوّن الفكر الخاص بما أسميه المشرقية الجديدة، تمييزاً لها عن سواها من المشرقيات التي سآتي على ذكرها.أكرر امتناني للدكتور داغر لتطوّعه بقراءة واستعراض نصوصي حول المشرقية منذ عام 2008 وحتى اليوم (2013)، بما في ذلك إيجازه لمخرجات «اللقاء المشرقي للدفاع عن سوريا»، المنعقد في بيروت مطلع تموز الماضي. والدكتور داغر هو واحد من المثقفين اللبنانيين المعوَّل عليهم في إنتاج الفكر المشرقي الجديد. وكان قد شارك في اللقاء المشرقي المارّ ذكره بمشروع وثيقة حول إعمار سوريا من وجهة نظر وطنية تنموية، جرى إقرارها، بعد مناقشات جادة، وتحولت، بذلك، إلى وثيقة من وثائق المؤتمر ومركز التقدم المشرقي والحركة المشرقية. وعلى هذا، فإننا نستعيد، معاً، حواراً رفاقياً بدأناه على مائدة اللقاء، ثم ذهب إلى توسيعه في النص المنشور في «الأخبار»، بالتاريخ المنوه عنه، ويعلن فيه قبوله بالأطروحة المشرقية الجديدة، مشترطاً لنجاحها التعبوي والنضالي، ما يلي: أولاً، «أن يتم تعريف المشرقية بجهد نظري أوسع وأعمق»، ثانياً، « أن لا يصار إلى إنشاء تعارض مفتعل بين القومية العربية والمشرقية. بل لقد أصبح من الضروري أن يقال على الدوام (المشرق العربي)، وليس فقط (المشرق)»، وثالثاً، إن عروبة المشرق، «تكتسب أهمية إضافية في حالة جمهور العماد عون، لأنها تؤول إلى تثبيت تموضعه في تيار العروبة والقومية العربية، وتنأى به عن الطروحات المعادية للعرب»، ورابعاً، أنها «تكتسب أهمية أيضاً، لأنها تزيل الالتباس الذي يمكن أن يتواجد، ويقوم على فرز المشرقيين بين جمهور كبير تشكّل القومية العربية مرجعية ثابتة لديه، وجمهور أقلّوي ينكفئ تحت عنوان المشرقية».
وأُقر، بالطبع، أن لهذه الاشتراطات وجاهتها؛ فأما الجهد النظري الأوسع والأعمق، فهو، عندي، حاجة نضالية للحركة المشرقية الجديدة، بما يمكنها من السعي إلى توضيح تمايزها وضرورتها. إلا أن جهداً كذاك، يظلّ رهناً بالحوار المنظّم بين المثقفين الجادين، والمثقفين والمناضلين، في صيغة جديدة، تنأى بنفسها عن صولجان «المفكر» الفرد/ النبي، من دون أن يقع التسطيح المعروف في الحركات السياسية. ومن هنا، انطلقت فكرة «مركز التقدم المشرقي»؛ فهو يقع بين المركز البحثي الفكري والشبكة النضالية والسياسية: لا خطابات ولا تظاهرات للقيادات، بل ورشات عمل فكرية حرة مفتوحة الاحتمالات، وتتناول المحاور الفلسفية والجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفق محددات العلوم الاجتماعية الحديثة، وفي الوقت نفسه، لا كواليس نخبوية معزولة عن الحركة السياسية والنضالية. باختصار، نحن نتحرك لبناء حركة لا هي بالسيمينار الأكاديمي، ولا هي بالحزب العقدي. ونحن لا نخفي أن عديدنا وعدّتنا أقلّ من أن يسمحا لنا بتسريع العمل، لكننا ننطلق من أن المشرقية تحولت إلى ضرورة حياة بالنسبة إلى بلدان المشرق وأهلها، وأنها المدى الوحيد المفتوح أمام القوى الحية في هذه البلدان، وفي مقدمها المقاومة (حزب الله) وجمهور اليسار والقوميين الاجتماعيين والتقدميين، كذلك إنّ للمشرقية، قاعدة قومية تتمثل في الجمهورية العربية السورية. وهذه كلها عناصر قوة للمشروع الذي يجتذب إلى صفوفه، بانتظام، أوساطاً فكرية وسياسية ونضالية أوسع فأوسع.
أوضحت الوثيقة الأساسية للقاء المشرقي في بيروت، بجلاء تام، أن المشرقية الجديدة لا تعارض العروبة، ولا الآفاق المستقبلية للاتحاد العربي، ولكنها تصرّ، بالمقابل، على وجود روابط خاصة، في كافة المجالات، بين بلدان المشرق العربي. وقد أضاءت الحرب السورية على هذه الروابط، وكشفت أن بلدان المشرق، تشكّل إطاراً جيوسياسياً واحداً، وأن التوصل إلى بناء حركات شعبية نضالية على المستوى المشرقي، هو ضرورة تطرحها الحياة، سواء لجهة التحرر الوطني أو التكامل الاقتصادي التنموي أو حل مشكلة ما يسمى الأقليات أو تجاوز الانشقاقات الطائفية والمذهبية أو إطلاق مقاومة كلية (بعكس الجزئية: الجهوية أو المستندة إلى طائفة إلخ) في مواجهة إسرائيل والرجعية العربية الحاكمة في السعودية والخليج.
بالتركيز على المضمون العروبي الأساسي للمشرقية الجديدة، يغدو نوعاً من لزوم ما لا يلزم، توصيف المشرق، في كل مرة يرد ذكره فيها بأنه «عربي»، أو التأكيد اللفظي، في كل مقام، على المشرقية بأنها «عربية». قلب المشرق دمشق. ودمشق كانت، ولا تزال وستظل، «قلب العروبة النابض». ولا يوجد إقليم عربي آخر، بما في ذلك الخليج، يشتمل على عرب بالمعنيين، الإثني واللغوي ـ الثقافي، كما هي الحال في المشرق. العروبة، بالنسبة إلى المشرق، مكتوبة، قبل الإسلام بكثير، في جذره التكويني. وقبل نشوء الخلافة الأموية، كانت أجزاء أساسية من بلاد الشام، عربيةً، ديموغرافياً ولغوياً، إلى جانب الأقوام واللغات من العائلة المشرقية نفسها. ومما تجدر الإشارة إليه، هنا، أن انتشار المسيحية أدى، في العهد البيزنطي والأموي، معاً، دوراً لا يقل عن الدين اللاحق الإسلامي، في انتصار التعريب، في بلاد الشام والعراق؛ فلقد منحت المسيحية للغساسنة والمناذرة، اللحمة الأيديولوجية اللازمة لتكوين عصبيتين حاكمتين في الـ«دولتين» المشرقيتين هاتين. وتدلنا الآثار الباقية لمئات الكنائس في المناطق العشائرية النائية الخالصة العروبة في شرق الأردن، من العهدين البيزنطي والأموي، على الحيوية الدينية والسياسية للنحل المسيحية العربية في المجتمع القبلي العربي المشرقي. وأكتفي بهذه الإشارة، الآن، واعداً القراء بدراسة مفصلة في هذه القضية بالذات، أي الدور الخاص للمسيحية في إنجاز التعريب المشرقي؛ فالمسيحية لم تكن، فحسب، حاضرة في العروبة، بل كانت في قلب عملية التعريب ذاتها.
غير أن حدود القطيعة بين المشرقية الجديدة وكل ادعاء مشرقي غير عروبي، تتجسد في ما أكّده اللقاء المشرقي ببيروت، في كل مداولاته، من أنّ المشرقية الجديدة لا تنطلق من كونها «أمة تامة» وقومية خاصة أخرى غير القومية العربية، على نحو ما يذهب الحزب السوري القومي الاجتماعي. المشرق حقيقة جيوسياسية ـ وتنموية وثقافية ـ لكنه ليس أمة، بل جزء، بل ركيزة الأمة العربية. ولعل ضرورة قيام «مجلس التعاون المشرقي» قد تحولت اليوم، بعد تمفصل أزمات البلدان المشرقية على الأزمة السورية، إلى ضرورة مقاومة في مواجهة سايكس بيكو 2، أي في مواجهة انهيار أقطار المشرق العربي كلاً على حدة. وهي كلها تعاني من الانقسامات الطائفية والمذهبية والجهوية والديموغرافية ـ السياسية، والأزمات الاقتصادية والتنموية، بينما تواجه فلسطين كارثة تراجع حركتها الوطنية التي لا يمكن تعويضها إلا باستنهاض حركة التحرر الوطني في المشرق.
غير أن عروبة المشرقية الجديدة ليست نابذة للأقوام الإتنية غير العربية في المشرق من كرد وأرمن وشركس إلخ؛ فهؤلاء كالعرب المسلمين والمسيحيين واليهود، جزء من تركيبة المشرق، وتعترف المشرقية الجديدة بمواطنيتهم بلا التباس، كما بالحق الديموقراطي في الحكم الذاتي والتسيير الذاتي، وفقاً للحالة، في إطار الدولة والكونفدرالية اللتين تحترمان، من دون أي عجرفة قومية، حق جميع الثقافات واللغات المشرقية بالتعبير الحر عن نفسها.
هنا، نأتي إلى التمييز الجذري بين الدعوة السياسية العملية لبناء «مجلس التعاون المشرقي» كمجال لتعاون كيانات قائمة ومنهكة بالصراعات والتدخلات الأجنبية وبمراكمة الفشل على كافة الصعد، وبين الدعوة إلى الحركة المشرقية القائمة على توحيد المجال المشرقي في سياق غير طائفي ولا إتني ولا جهوي، بل في سياق حركة التحرر الوطني، أي السياق الوطني الاجتماعي التنموي الوحدوي المعادي للإمبريالية والرجعية. وهو ما يتطلب نضالاً شعبياً وثقافياً للانتقال إلى صيغة كونفدرالية للمشرق، تحرر أقطاره من انشقاقاتها وأزماتها الداخلية. وفي قلب هذه العملية النضالية، يأتي مشروع تعميم المقاومة ضد إسرائيل، على المستوى المشرقي، وكقضية مشرقية، لخلق التوازن الاستراتيجي مع العدو، وإدامة الصراع معه، وانتشال القضية الفلسطينية من وهدة الفشل العميق إلى كونها قضية داخلية للبناء المشرقي، تنهض على أساس استراتيجية تفكيك الكيان الصهيوني واستعادة فلسطين الانتدابية، بكل سكانها الراغبين في الحياة الحرة المشتركة، إلى الكونفدرالية المشرقية. ولا بد من القول، هنا، بأن مركزية الصراع مع إسرائيل، لا تنفي الصراع مع الخليج لردّ الهجمة الوهابية، السياسية والإرهابية والأيديولوجية، والتي كانت ولا تزال وستظلّ معادية لروح المشرق ووحدته، إلى أن يتم دحرها. وكذلك، فهي لا تعني إغفال وضع تحرير اللواء السوري السليب من الاحتلال التركي على جدول الأعمال. هنا، نصل إلى السيد إدكار طرابلسي، لنسأل: هل المشرقية هي قضية مسيحية؟ وهل هي، كما يريد قضية المسيحيين؟
المشرقية، بالطبع، مسيحية في خط أساسي من خطوطها، ولا يمكننا أن نتصور المشرقية من دون المكوّن الثقافي والسكاني المسيحي، بيد أن المشرقية الجديدة، ليست، بالتعريف، مسيحية أو اسلامية أو دينية. المشرقية، في طابعها الحاكم، علمانية. ولا وجود للمشرقية الاجتماعية السياسية الثقافية، إلا بعلمانية صريحة شاملة ونهائية تُبطل كل ادعاء ديني على الرابطة الدولتية الكونفدرالية. العلمانية ضرورة وجود وتنمية ودفاع وحياة، لإطار جيوسياسي واحد، لكنه متعدد الأديان والطوائف والمذاهب والثقافات الفرعية؛ فإما أنها تخضع جميعاً لهيمنة الدولة/ الكونفدرالية أو أنها ستمزق الكيانات الحالية إلى كيانات متعددة بقدر التعدد الديني الطائفي المذهبي. وعلى هذا، فإن النضال من أجل المشرقية، ليس واجب المسيحيين بصفتهم، كذلك، وإنما بصفتهم، بالدرجة الأولى، مواطنين. ولكننا، بالطبع، لا نغفل الدوافع الخاصة لمسيحيي المشرق في وحدته، لكونه يحافظ على حضورهم السكاني والثقافي والسياسي. لكن الدوافع شيء والحركة السياسية ومضمونها شيء آخر. وأريد التوضيح، هنا، أن دعوتنا للجنرال ميشيل عون لترك الشأن اللبناني الداخلي لبثّ الحيوية وحدة المسيحية المشرقية، ونضالها للبقاء، لا يأتي في السياق الطائفي اللبناني، بل في سياق المواطنية المشرقية. الحركة المطلوبة هي حفز المسيحيين في المشرق، لا نحو الانكفاء المسيحي، بل نحو الاندماج المواطني من موقع تنموي تقدمي. يحار إدكار طرابلسي في تعيين حدود المشرقية، وفقاً للترسيمات السابقة المستندة إلى هذا المعيار الأيديولوجي أو ذاك، ولكن المشرقية الجديدة، لا تحفل بكل هذه الترسيمات، وتنظر إلى المشرق (سوريا ـ بما الأراضي السليبة من قبل تركيا وإسرائيل ـ ولبنان والأردن وفلسطين والعراق) من منظور غير إيديولوجي، بل جيوسياسي، ويهدف إلى التحرر الوطني الاجتماعي في إطار منظومة تكامل تنموي ودفاعي.
غير أننا نتفق، تماماً، مع إدكار طرابلسي في أن «الهويّة المشرقيّة هويّة بالغة التعقيد يصعب تبسيطها عند شرح تكوينها، لكنّ فيها الكثير من العناصر المشتركة التي تؤكّد وجود حبل سرّيّ يربط بين ناسها ومجتمعاتها». وللحديث صلة.
* من أسرة «الأخبار»