قضايا المشرق | رغم كل المظاهر التي تبدو معاكسة على السطح، تتشكل مسارات جديدة في السياسة الأردنية على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ فالانكفاء الأميركي سيُحتم على الدولة الأردنية أن تبدأ بالتفكير ملياً بالمستقبل الذي يبدو الآن غامضاً، بسبب مقدماته وظروفه غير المسبوقة. إلا أن دوائر صنع القرار الأردني، وعلى رأسها الملك عبد الله الثاني، تقدر جيداً أن الخيار الخاطئ سيكلفها، ويكلف الدولة والشعب الأردني الكثير، وخصوصاً في ضوء تسارع المتغيرات التي تعصف بالمنطقة، نتيجة للصمود السوري وانكسار حدة المؤامرة الدولية على سوريا، شعباً ودولةً، وبزوغ عالمٍ جديد من التحالفات متعدد القطبية، دولياً وإقليمياً.لم تعد الخيارات، بما فيها الحياد الإيجابي واللعب على التناقضات واتباع السياسات المزدوجة، مفتوحة كالسابق؛ إنها تضيق إلى خيارين عيانيين تفرضهما التطورات السياسية الواقعية، وهما: (1) الانخراط الكامل في التحالف الذي يُحضر له بين الخليج و«إسرائيل»، على أن يكون الأردن قاعدة الوصل الجغرافي الأمني في التكوينة الخليج ـ إسرائيلية. وسيكون كارثياً ألا تملك الدولة الأردنية والحركة الوطنية، القدرة، في الوقت الملائم، على ابتداع مقاربة جديدة ديناميكية للتوصل إلى صيغة تذهب بالأردن إلى الخيار الثاني، خيار التحالف المشرقي الصاعد والقائم على روح المقاومة وقهر «إسرائيل» وإطلاق طاقات المشروع التنموي التكاملي. وإذا كان من المفهوم أن اتجاه الأردن إلى الخيار المشرقي المقاوم التنموي التكاملي، ليس سهلاً، بل يحتاج إلى سلسلة معقدة من إعادة البناء السياسي ـ الاجتماعي وتوسيع قاعدة الحكم بحيث تشمل الأطراف الرئيسية من الحركة الوطنية والتقدمية، وضرب مصالح فئات اجتماعية متنفذة، وربما التعرض لضغوط قاسية، أميركية وخليجية وإسرائيلية، إذا كان ذلك، من دون شك، باهظ الكلفة، فإن الخيار الخليجي الإسرائيلي، هو وصفة للانتحار الذاتي، ليس فقط من زاوية أنه يكرّس الوهن الاقتصادي ويزيد في تعميق المشكلة الاجتماعية، بل، وأيضاً، لجهة أنه يهدد الأمن الوطني الأردني، تكتيكياً بالتغذية الإرهابية الراجعة وتزايد نفوذ السلفيين والوهابية، واستراتيجياً من خلال الاستفراد الإسرائيلي بالأردن، وتحميله أعباء تصفية القضية الفلسطينية؛ فهذه القضية هي الثمن الذي ستدفعه السعودية لقاء الاصطفاف الإسرائيلي إلى جانبها في سعيها إلى معاندة المتغيرات، واستمرار توقد روح الحرب مع إيران.
من المبكر استخلاص النتائج من زيارة الملك الأردني الأخيرة للسعودية، بما في ذلك الحديث عن تغييرات مهمة في السياسة الخارجية الأردنية التي يقود الملك شخصياً، توازناتها ويصوغ تعارضاتها، بحيث يكتنفها دائماً جانبٌ من الغموض والمراوغة، وتحتمل تفسيرات متناقضة عدة، كما هو الحال، مثلاً، في الموقف من الأزمة السورية؛ فمن جهة، تحمل التصريحات العلنية موقفاً مقبولاً يحث على السير باتجاه الحل السياسي في إطار «جنيف 2»، ومن جهة أخرى، لا تزال الحكومة الأردنية منخرطة في خطط دعم المجموعات الإرهابية في سوريا، بل إن أمير الإرهاب العالمي، بندر بن سلطان، يؤكد، في تصريحات علنية، أن الرياض ستستخدم الممر الأردني ـ بالتعاون مع فرنسا ـ لتعويض النكوص الأميركي عن مساعدة التمرد الإرهابي في سوريا.
هل تمضي عمان إلى النهاية وراء المغامر الرجعي المجرم، بندر بن سلطان؟ إن مجرد التفكير في هذا الخيار، يدلّ على فقدان البصر والبصيرة بالنسبة إلى صناع القرار الأردني؛ فهل هؤلاء غير واعين حقاً بالمتغيرات الإقليمية والدولية وانعكاساتها على دول المنطقة، أي إنهم قرروا، جراء حسابات فئوية مصلحية، المغامرة بالأردن، ووضعه على خط النار مع الحلف المقاوم الناهض بتحالفاته الدولية.
نحن، اليساريين الأردنيين، حين نفكر بالذهاب إلى مقاربة تفاهم وارتباط بمحور موسكو ـ طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت، لا تحفزنا، فقط، الاعتبارات الأيديولوجية، بل نفكر، بالأساس، بجدوى السياسة التي نقترحها من وجهة نظر المصالح الفعلية للأردن، دولة وشعباً. ونحن نرى أن أطروحة التحالف المشرقي (الممكن الآن بالمشاركة، في خطوة أولى، مع سوريا والعراق) ذات جدوى وصدقية حتى من وجهة نظر السياسيين التقليديين؛ فالشروط الموضوعية لولادة التحالف المشرقي متوافرة بالفعل، جراء انتصار الدولة السورية على المؤامرة الغربية والصهيو - وهابية؛ يمكننا، إذاً، أن نتسلح بالأمل الواقعي لإنقاذ بلدنا من براثن الصهاينة والوهابيين معاً، بالارتكاز على الجناحين السوري والعراقي.
تقوم فكرة التحالف المشرقي، أساساً، على التجانس الاجتماعي التعددي والوحدة الجغرافية التاريخية والسياسية التي تجمع بلاد الشام والعراق، إضافة إلى المصالح والأهداف والطموحات المشتركة بين شعوبها، وخصوصاً في المجال التنموي الذي تتضح شروطه التكاملية، سنة وراء أخرى.
المشرق، من الناحية الجيوسياسية، محاط بثلاثة أعداء تاريخيين: الوهابية في السعودية، والحركة الإخوانية العثمانية في تركيا، والكيان الصهيوني التوسعي. وكان هؤلاء الأعداء دائماً قوة قاهرة للطموحات المشروعة لشعوب المشرق في تحقيق التنمية والديموقراطية وتعزيز الاستقلال الوطني. ومن بين هذه القوى، تبرز إسرائيل بوصفها القاعدة الثابتة لكل الاتجاهات والقوى المعادية لحركة التحرر الوطني في المشرق. وهو واقع يفرض القول إن الشرط الأساسي لإنجاز التحالف المشرقي، ونجاحه في تحقيق مهماته التنموية الوطنية التحديثية، إنما يكمن في بنائه استناداً إلى خط المقاومة؛ ومهمتها التاريخية تفكيك الدولة «الإسرائيلية»، كمهاد لا مناص منه لنهضة المشرق. ولا يمكن حركةَ المقاومة المشرقية، استبعاد الأردن أو تحييده من القيام بدوره في مقاومة إسرائيل ومحاصرتها وإضعافها؛ فالجبهة الأردنية هي الأطول مع إسرائيل، بالإضافة إلى أنها، من الناحية الجيودفاعية، الأكثر إيذاءً للجغرافيا العسكرية والمدنية الإسرائيلية. وإلى ذلك، الأردن يملك قوات مسلحة ذات كفاءة عالية، وروح قتالية معروفة، وسيكون من العبث، من وجهة نظر المقاومة، تحييد هذه القوات التي، بغض النظر عن السياسات الرسمية، أثبتت قدرات استثنائية في كل الحروب التي خاضتها مع العدو الصهيوني. وإلى ذلك، فالجغرافيا الأردنية المتشابكة مع الجغرافيا الفلسطينية، تجعل من المستحيل، بالنسبة إلى الأردنيين، استغلال مواردهم الطبيعية، وإنشاء مشاريع تنموية كبرى من دون التحرر من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وأخيراً، علينا أن نتذكر، دائماً، أن الأردن هو أكبر مضيف للاجئين والنازحين الفلسطينيين الذين ينبغي توفير شروط عودتهم الحرة الكريمة إلى ديارهم. ما يساعد الأردن على السير المتدرج وإنما الثابت في مسار الخيار المشرقي، تسارع المتغيرات العالمية ذاتها، ومن أهمها الانكفاء الأميركي من المنطقة، وزوال النفوذ الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، ما يفتح الطريق أمام تجديد الدولة الأردنية على أسس أكثر استقلالية إزاء النفوذ الأميركي الأوروبي التقليدي.
على الجهة المقابلة، بدأ المحور الدولي الإقليمي المضاد، يعبّر عن احتمالات صعود غير مسبوقة حتى بالنسبة إلى عصر الحرب الباردة. وعلى المعنيين ألا يستخفوا، في بناء تصوراتهم السياسية الجديدة، بالإمكانات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الضخمة، القائمة والواعدة، لدول البريكس وإيران، امتداداً حتى العراق وسوريا ولبنان. وتكفي نظرة إلى الخريطة، لكي نكتشف أنه لم يبقَ من بلد مشرقي خارج دائرة هذا الطوق الكبير، سوى فلسطين المحتلة، ما يطرح على جدول أعمالها تكوين حركة مقاومة جديدة، وسوى الأردن مما يضعه أمام خيار واحد سليم ومفيد معاً على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والدفاعية الاجتماعية والثقافية، هو الخيار المشرقي.
سنغضّ الطرف هنا عن المناقشات السفسطائية حول مضمون الصعود الروسي. (ونحن نعتبره، ببساطة ووضوح، صعوداً تحررياً لدولة قومية تنموية تواجه الاضطهاد الإمبريالي، وتتقيد بثقافة السلام والإخاء بين الشعوب)، لنؤكد أن التحالف الدولي المتمحور حول روسيا يخلق، بسرعة وكفاءة مدهشتين، كافة الشروط اللازمة لإنهاء السيطرة التاريخية للإمبراطوريات البحرية لأول مرة منذ الثورة الصناعية. وأهم هذه الشروط هو تمكين قلب آسيا ودولهِ البرية من الصين إلى الأردن، من إنشاء سوق ضخمة وشبكة من العلاقات الاقتصادية المتحررة من الهيمنة والاستغلال والقائمة على العلاقات الدولية الإنسانية المتكافئة واحترام المصالح المتبادلة، وإعادة بناء وتنشيط طرق التجارة البرية الداخلية التي قضى عليها الاستعمار بقوته البحرية إما بالغزو أو التقسيم أو الاحتلال العسكري المباشر.
إن الخيار الذكي، وليس حسب الوطني، للسياسة الأردنية هو الانخراط الفاعل في التحالف المشرقي، القائم على روح المقاومة وتعزيز الانتماء الوطني والإيمان بقدرات شعوب المنطقة على استغلال الظروف الإقليمية والمحلية لإنجاز مهام التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وخلق الشروط الملائمة ضمن هذا التحالف لإعادة هيكلة الاقتصاد الأردني بما يخدم مصالح الشعب الأردني.
ولا يعني هذا الخيار، الانقلاب نحو سياسة الصدام مع الولايات المتحدة والغرب والخليج، وإنما بناء مقاربة مستقلة في إخضاع العلاقات الخارجية للمصالح الوطنية الأردنية.
* عضو الأمانة العامة
لحركة اليسار الاجتماعي الأردني