جملة من التحولات الداخلية والدولية تفترض ضرورة التوجه لعقد مؤتمر «جنيف 2»، مع العلم بأن إمكانية تحوله إلى سلسلة من المؤتمرات تحت ذات المسمى تبقى ممكنة. لذا فإن انعقاده لن يشكّل وفق المعطيات الراهنة أكثر من محطة أولية لبحث القضايا الخلافية الأساسية، مع غياب إمكانية التوصل لحلول جذرية للأزمة السورية العميقة التي تحولت إلى أزمة دولية بامتياز. قبل المضي في نقاش حيثيات مؤتمر جنيف المزمع عقده منتصف تشرين الثاني، نتوقف عند بعض التحولات في الساحة السورية.
ــ الشعب السوري: لا أدّعي التعبير عنه. لكن بات واضحاً أنه يرفض استمرار الصراع، ويدعو إلى إيقافه بالتزامن مع إخراج الجماعات السلفية الجهادية التكفيرية من المشهد السوري. أما في ما يتعلق بالموقف من المعارضة السياسية الديمقراطية السلمية الداخلية، فإنها تحظى بقبول نسبي من قِبل الغالبية الشعبية. بينما ينحدر رصيد المعارضة المرتهنة للخارج إلى أدنى درجاته، وتحديداً المجموعات المعارضة التي تتخذ العنف سبيلاً وحيداً للوصول إلى السلطة.
ــ النظام السوري يحقق تقدماً سياسياً وعسكرياً واضحاً، وهذا يُكسبه المرونة والاستقرار والقوة لضمان المشاركة في أي تسوية سياسية دولية، أو إدارة حوار وطني داخلي، دون الخضوع إلى ضغوط دولية وإقليمية، وتحديداً من جهة الدول الداعمة للمعارضة الخارجية والمجموعات السلفية الجهادية. وقد تعزز هذا الواقع بعد تعاونه اللافت في ملف الأسلحة الكيميائية، وانكشاف هوية الجهاد التكفيري الذي ساهم في تكريس الصراع الطائفي.
ــ المعارضة الداخلية رغم أنها تقبض على تحليل سياسي موضوعي، وتقف على أرض فكرية وسياسية ثابتة تمكّنها من كسب دعم جماهيري مقبول. إلا أنها تعاني مزيداً من التشتت والتبعثر والانقسام. وبذات الوقت، غير قادرة بحكم تناقضاتها البينية السياسية والنظرية على تشكيل فريق عمل واحد يمثلها في مؤتمر «جنيف 2». فمعارضة الداخل منقسمة على ذاتها بين أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي تعمل في كنف السلطة، وبين هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي المتمسكة بلاءاتها الثلاث وبضرورة المشاركة في مؤتمر «جنيف 2» منطلقة من ضرورة الحل السياسي. وكذلك تيار بناء الدولة، ائتلاف التغيير السلمي، الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير .. . بينما العشرات من التشكيلات السياسية الجديدة المرخصة وغير المرخصة تتقاطع بشكل واضح في موقفها الرافض للعنف وتقسيم الدولة والتدخل الخارجي، وتتوافق نسبياً على شكل وبنية الدولة والنظام السياسي وكذلك هوية الاقتصاد. ومع هذا، فإن أطراف المعارضة الداخلية عاجزة عن تأسيس تحالف ديمقراطي قادر على التعامل الموضوعي مع الأزمة الراهنة. وأزمة المعارضة السياسية الداخلية والخارجية، لا تنحصر فقط في انعدام إمكانية مشاركتها بوفد يمثل كافة الطيف المعارض على طاولة الحوار. بل وفي تراجع إمكانية التنسيق في ما بينها، وتحديداً في ظل تعدد الولاءات والمصالح. وهذا يعطي النظام قوة إضافية أمام الداخل والخارج. أما في ما يتعلق بوضع أصحاب الرأي المستقلين، فإن إشكالية تمثيلهم في المؤتمر تشكّل احدى الإشكاليات التي يجب أن تبحث بشكّل جدي وموضوعي، وتحديداً كونهم يشكلون غالبية أصحاب الرأي غير المؤطرة سياسياً.
ــ المعارضة الخارجية تعاني من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والتناقض النظري وغياب المنهجية والرؤية الإستراتيجية المبنية على مشروع سياسي محدد وواضح، وأيضاً تعاني مزيداً من الانقسام والتفكك الذي يهدد بانهيار «الائتلاف الوطني». ورغم انحسار تأثيرها وتراجعها أمام تغيّر موازين القوى لصالح النظام والقوى السلفية الجهادية، فإنها ما زالت تراهن على دعم الخارج، ويتمسك بعض من فصائلها بإسقاط النظام قبل المشاركة في أي حوار سياسي، وفي أدنى الحدود فإنها تضع شروطاً وضمانات ليس فقط للمشاركة في أي مؤتمر يتم الدعوة إليه، بل لضمان دور فاعل في أي حكومة انتقالية. وهذا يتناقض مع آليات عملها وأهدافها السياسية الكبرى، وكذلك رهاناتها الفاشلة. وهذا يعيق الانتقال إلى تسوية سياسية تضع حد لمأساة الشعب السوري.
إن مكونات الائتلاف السياسية العلمانية واليسارية والإسلامية تعاني من تناقضات سياسية ونظرية تجعل من الصعوبة بمكان التوافق على رؤية سياسية للخروج من الأزمة الراهنة. بينما مشاركة الائتلاف في مؤتمر «جنيف 2» لا تهدد فقط بانقسامه، بل وحتى بانهياره. وهذا ما يؤكده تصريح رئيس المجلس الوطني جورج صبرا الذي يرفض المشاركة في المؤتمر، وإن قرّر الائتلاف المشاركة فعلياً، فإن المجلس الوطني سينسحب من الائتلاف. وكذلك تصريح عضو الائتلاف كمال اللبواني الذي أكد ضرورة حل الائتلاف وتشكيل جسم سياسي إسلامي بديلاً عنه. وتتفاقم أزمة الائتلاف نتيجة لازدياد عدد الأطراف التي ترفض تمثيل الائتلاف لها. فالائتلاف لم يعد يمثل المظلة الشرعية للمعارضة السياسية، وحتى الخارجية منه، وكذلك لم يعد الممثل السياسي للأجنحة العسكرية التي كانت تنضوي تحت لوائه، فأعداد الأطراف التي تنقض شرعية الائتلاف تزداد بشكل دراماتيكي.
وقد بات واضحاً أن التناقض بين مكونات الائتلاف وتحديداً بينه وبين المجلس الوطني، محمول على تناقض الدول الداعمة له. فالمجلس الوطني ساهم في ولادته السعودية وتركية... بينما الائتلاف الوطني كان نتيجة للضغوط القطرية. فالتناحر السعودي التركي القطري ينعكس على أداء مكونات الائتلاف، ويزيد من صعوبة مشاركته في مؤتمر «جنيف 2». ومن الممكن أن يساهم هذا التناقض في إجهاض المؤتمر. وهذا يعني مزيداً من التصعيد العسكري، وإغلاق أي مدخل سياسي يمكن أن يُخرج المجتمع السوري من أزمته المستعصية، التي تزداد صعوبة كلما استطال أمد الصراع الذي تتحكم بمفاعيله أطراف إقليمية ودولية.
لقد تحوّل الشعب السوري إلى رهينة لمزاج ومصالح وأهداف الدول الداعمة لصراع يدمر كيانية الدولة ويمزق نسيج المجتمع الذي دخل في صراع طائفي مدمّر.
ــ القوى الكردية هي أيضاً تنقسم على ذاتها متوزعة بين «الائتلاف الوطني» و«المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق» و«تجمع اليسار الماركسي» (تيم) والمجلس الوطني الكردي. وتتوزع بين قوى راديكالية تطالب بإقامة كيان قومي منفصل عن الدولة السورية، وتقاتل من أجل إسقاط النظام. وقوى أخرى تريد ضمان حقوقها مع المحافظة على وحدة الجغرافيا السورية، وفي إطار دولة مركزية واحدة تضم كافة المكونات الاجتماعية القومية والإثنية والمذهبية. ورغم تصاعد حدة الخلافات ضمن المكون الكردي على كيفية تحقيق أهدافها الأساسية، وكذلك على المشاركة في مؤتمر جنيف. لكنها تتقاطع على ضرورة تأمين مصالحها القومية والثقافية. ومع هذا فإن مشاركتها في مؤتمر جنيف تتأثر بشكل مشاركة المعارضة السورية. فإذا شاركت المعارضة بوفد موحّد وهذا مستبعد حتى الآن، فإن التمثيل الكردي سيكون ضمن الوفد السوري المعارض، وإلا فستشارك بوفد مستقل. لكن مسألة الانفصال وإقامة حكومة فيدرالية، أو ضمان الحقوق القومية في إطار وحدة الأرض السورية لم يزل نقطة خلاف بين المكونات السياسية للأكراد، ويخضع إلى تجاذبات وتناقضات إقليمية (تركيا، العراق، إيران، سوريا) وأخرى دولية.
ــ الجيش الحر بات يفقد مضمونه تدريجياً نتيجة لازدياد تمزقه وارتهانه للدول الداعمة. فقوته في تراجع، والتناقض بين مكوناته وقياداتها السياسية والميدانية، ومجلسه الأعلى وهيئة الأركان في ازدياد. والمناطق التي استولى عليها تُنتزع منه في صراعه مع الجيش العربي السوري و«داعش» و«جبهة النصرة» وبعض الكتائب والألوية السلفية الجهادية التكفيرية. ومشاركته في أي حوار سياسي مع النظام مشروطة بتغيير الواقع الميداني وعدم مشاركة الرئيس السوري (رحيل النظام). لكن تحولات الواقع الميداني تخالف افتراضاته ورغبات قياداته. فالمجموعات السلفية الجهادية يزداد توسعها على حسابه، وتستقطب يومياً مزيداً من كتائبه. ورغم هذا لا يزال «الجيش الحر» وبعض قيادات الائتلاف يرى بأن كل البنادق الموجهة ضد النظام هي «بنادق الثورة». كذلك فإن الجيش السوري يحقق يومياً المزيد من الانتصارات الميدانية. وتشير التوقعات إلى توافق دولي مضمر يقضي بإخراج الفصائل السلفية الجهادية التكفيرية من المشهد السوري، إن لم يكن قبل البدء في حل سياسي، فإنه سيكون متزامناً معه. وهذا يدلل على أن الجيش السوري يواجه «الإرهاب» تحت غطاء دولي. ورغم هذه التحولات ما زالت بعض الدول الغربية تدعم هذه المجموعات، وتغض النظر عن الدعم العسكري للمجموعات الجهادية من قبل قطر والسعودية وتركيا.
ــ الفصائل الجهادية تحارب كما تدّعي، من أجل إسقاط نظام شيعي و«إقامة دولة الحاكمية الإسلامية». وبهذا فإن الأهداف الحقيقة لحربها الدينية موجهة للقضاء على التنوع الذي يذخر به المجتمع السوري. إن توجهات وآليات اشتغال هذه المجموعات تعادي مصالح السوريين وطموحاتهم وتوجهاتهم، وتكفّر أي شخص لا يرضخ لفكرها وأهدافها. وكذلك فإنها ترفض أي تحوّل سياسي وطني ديمقراطي، وتكفّر من يشارك به.
وقد جاء على لسان أبو مالك، وهو أحد أمراء جبهة النصرة: الجميع كفّار؟
اليهود والنصارى والبوذيون واليساريون والعلمانيون والقوميون هم كافرون برأي أبي مالك ولا نقاش في ذلك. أما بالنسبة إلى الطوائف الإسلامية فالشيعة كفرة وكذا الدروز، وفي ما يتعلق بالسنة، فإن كل من يشارك في العملية الديمقراطية والتشريعات المدنية هو كافر، وكل من ينتخب نواب الأمة هو كافر، وكل من لا يكفّر من ينتخب هو كافر، ودليله على ذلك: قول الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون («الحياة»، 13/ 10/ 2013).
وهذا يدلل على أن الأطراف الجهادية التكفيرية، تحارب أي حوار سياسي داخلي أو دولي. ولن يكون مستبعداً من منظور رؤيتها التكفيرية أن تقاتل وتكفّر كل من يشارك في أي عملية سياسية. لذا فهي تقع في تناقض جبهي مع الشعب السوري الذي يريد إيقاف الصراع والخروج من الأزمة عبر تحوّل سياسي يضمن حقوقه الأساسية في ظل دولة مدنية ديمقراطية.
في ضوء ما عرضناه، فإن انعقاد مؤتمر «جنيف 2» مهدد بالفشل رغم كافة المساعي والضغوط التي يمارسها المجتمع الدولي. وحتى في حال انعقاده فإن سقفه لن يكون ملبياً لمصالح وآمال الشعب السوري. ومن المرجح أن الأزمة السورية لن تنتهي عند حدود مؤتمر «جنيف 2». وقد يشهد السوريون العديد من المؤتمرات الدولية دون التوصل إلى حل يوقف نزيف الدم.
فالتناقض على آليات ومضمون المؤتمر وحتى المشاركة به لا ينحصر عل أطراف المعارضة السورية، بل يتعداها إلى الدول الداعمة له. فالتناقض بين الأطراف الدولية لا ينحصر في شكل إخراج شكل الحل السياسي ودور الرئيس الأسد والمرحلة الانتقالية والحكومة المؤقتة فقط، بل يتجاوزه إلى شكل الدولة السورية وبنيتها.
فالتناقض الحدي والجبهي بين أطراف الصراع العسكري والسياسي يعززه التناقض الدولي. لذا فإن الخروج من الأزمة السورية لن يكون مرتبطاً بالكامل في انعقاد المؤتمر أو عدم انعقاده. وفي أفضل الأحوال فإن انعقاد المؤتمر لن يشكل أكثر من مدخل لكسر الاستعصاء السياسي. بينما إيجاد حلول جذرية لأزمة السوريين العميقة لن يكون إلا من خلال حوار عميق وشامل بين السوريين أنفسهم. فالشعب السوري هو القادر على تحديد ملامح الخروج من الأزمة السورية وكذلك هو من تقع على عاتقه مسؤولية تحديد القوى التي تمثله في أي حوار سياسي. وكذلك تحديد شكل السلطة الدولة وهوية الاقتصاد.
فالخروج من الأزمة يجب أن يكون على قاعدة التمسك بالدولة الوطنية المدنية الديمقراطية، التي تضمن الحقوق السياسية الأساسية والعامة، والحريات السياسية للمواطن السوري أياً كان انتماؤه السياسي والإثني والمذهبي، دون إغفال العدالة الاجتماعية التي تشكّل أحد العناوين الرئيسة لأي تغيير سياسي مستقبلي. فالأزمة السورية لا تنحصر في مستواها السياسي رغم أهميته، هذا لأن الأزمة الاقتصادية تشكّل جوهرها. لذا فإن تحقيق الكرامة التي يطالب بها الشعب السوري يكمن في القطع مع الاقتصاد الليبرالي الحر الذي دمر الاقتصاد السوري، وبناء اقتصاد اجتماعي يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة الوطنية.
إن تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية، يجب أن يكون في سياق التحوّل إلى نظام سياسي ديمقراطي برلماني، يضمن بناء اقتصاد اجتماعي تنموي يحقق العدالة الاجتماعية، ويحافظ على دور الدولة الوطنية الديمقراطية في خندق المواطن الفقير والمضطهد الذي لا يرى بديلاً عن دعم الدولة للقطاع الزراعي الصناعي التعليمي الصحي وباقي القطاعات الخدمية. فالمواطن السوري لا يرى بديلاً من تعميق دور الدولة الاجتماعي الذي يحقق استقرار مستوى المعيشة ويضمن تحسينه.
* باحث وكاتب سوري