في الحرب التي نعيشها ثمّة منطق غير معلن للقتل. كنّا نتحدث في البدايات عن دور النظام وحده في قوننة ذلك، على اعتبار أنّه يملك بخلاف المسلّحين ما يكفي من الأدوات لجعل القتل غاية في حدّ ذاته. لكن مع مرور الوقت أصبح الأمر أكثر تعقيداً، ولم يعد النظام يحتكر مزاولة العنف الوظيفي ضدّ المجتمع. بالأساس كسرت السلطة لكي ينكشف مجتمعها أكثر، وبالتالي يصبح عرضة لعنف يمكن مقايضته بعنف السلطة وإجرامها. في الحالتين ينهض القتل بمهمّة واحدة: تدفيع المجتمع ثمن عدم انخراطه الكامل في ديناميّة الحرب. فعلى طرفي الصراع أناس يحملون قناعات راسخة بوجوب إسقاط النظام أو إبقائه، لكنهم يعلمون أنّ حدوث ذلك بمعيّة الحرب يعني فقدان المجتمع مناعته تجاه الاملاءات المفروضة عليه. حتّى وقت قريب كانت الاملاءات تلك محتملة وقابلة للاستيعاب، إلا أنها مع تطوّر الحرب وانتقالها إلى نسق التدمير الشامل بدأت تنعطف أكثر باتجاه المجتمع. بكلام آخر فقد مموّلو عمليات القتل اهتمامهم بتدمير السلطة وتفكيكها لأنّها أظهرت تماسكاً لا بأس به، وبدؤوا يركّزون بدلاً من ذلك على الحامل الاجتماعي لها، تماماً كما فعل النظام ومموّلوه من قبل تجاه البيئة الاجتماعية الحاضنة للمعارضة. في حالة النظام استخدمت أسلحة بإمكانها تدمير المدن (وهذا ما حصل بداية في حمص قبل أن يصبح مع التواتر «قانون الحرب» الوحيد بالنسبة إلى النظام وحلفائه)، وبالتالي حمل الناس على النزوح قسراً إلى أماكن لا يعودون قادرين عبرها على تشكيل حاضنة من أيّ نوع، وهو ما لا تستطيع المعارضة مجاراته لو أرادت، فكان خيارها اللجوء إلى أسلحة يستحيل على المدنيين من الجانب الآخر تفاديها. بالنسبة إلى النظام لم يكن الأمر مهمّاً كثيراً، فهو يستخدم إلى جانب السلاح الثقيل سلاحاً خفيفاً يتصيّد من خلاله من عجزت آلة الحرب المدمّرة عن إخراجه سواء من منزله أو من الحياة عموماً. بمعنى أنّه يدرك الأهمية التي يحوزها استهداف المدنيين خلال الحرب، ويدرك أكثر سهولة لجوء المعارضة المسلّحة إلى خيار كهذا، وعلى الرغم من إدراكه مضى في تركيزه على حماية المنشآت العسكرية التي يمكن حمايتها، وفي تخلّيه عن واجب وقاية المدنيين من خطر السلاح الذي تستعمله المعارضة بغية القتل العمد. للتذكير فقط فإنّ الهاون الذي تستعمله المعارضة بكثرة هذه الأيام ليس فعّالاً كثيراً ضدّ القوات العسكرية أو ضدّ المنشآت التي تتواجد فيها، وإذا كان ثمّة ضرورة فعلية له فلأجل إشغال القوّات عن التقدم، أو لتدمير حاجز صغير لا يتواجد فيه الكثير من العسكريين. لنقل إنّ «الحاجة اللوجستية» إليه بالنسبة إلى المعارضة شبه معدومة، ومع ذلك يجري استخدامه بوتيرة منتظمة! في السابق كنّا نفسّر ذلك بالإشارة إلى منطق «ردّ الفعل»، ونسبغ على المعارضة المسلحة شرعية استخدام العنف بدعوى أنّها تدافع عن بيئة مسحوقة، كما لا نخفي تعاطفنا مع مجموعات مقاتلة تبدو وكأنّها ترث أساليب حرب العصابات في مواجهة نظم عاتية وفاشية. هذا في الماضي القريب أما الآن فقد تغيّر المشهد جذرياً، وبات التعاطف مع هؤلاء يضع المرء في مواجهة بيئات اجتماعية لم تكن يوماً محسوبة على النظام، لا بل كان بعضها سبّاقاً إلى الانتفاض ضدّه قبل حملة السواطير وقاطعي الرؤوس (الأكراد مثلاً، وهم الآن يخوضون حرب التحرير الشعبية الفعلية ضدّ المسلحين الوهابيين ومن ورائهم المخابرات التركية والسعودية والقطرية). حتى البيئات الموالية واللصيقة بالنظام أضحت في موقع الضحية بعد «التحوّل» الذي طرأ على بنية المعارضة المسلحة، وأحالها في نظر كثيرين إلى مجرّد طرف يمارس القتل، ويقبض ثمن ضحاياه من العسكريين و... المدنيين. ثمّة إذا أكثر من قاتل هنا، وقد بدأ البعض يعترف بهذه الحقيقة نزولاً عند مقتضيات الواقع وتحوّلاته، وبالتالي أخذت تحلّ محلّ «الثورة» وسرديتها مفردات الحرب وأدبياتها، وهو ما يشير إلى تحوّل نوعي في خطاب المتحمّسين «للثورة». لم يحصل ذلك بين ليلة وضحاها، فالوقت الذي استغرقته عملية تحوّل المعارضة إلى سلطة كان بطيئاً، وقد احتاج المجتمع إلى الكثير من الصدمات حتّى يدرك أنّه إزاء لحظة انتقال من سلطة إلى... سلطة.
في الثورة ثمّة ما يسمّى بحرق المراحل، وقد استخدمه المسلّحون على طريقتهم. اسقطوا السلطة والمجتمع معاً وزجّوا بأنفسهم في مواجهة خاسرة سلفاً. لم يتعلّم هؤلاء من تجارب سابقة، ولا من دروس المعركة الحالية أيضاً، فالأرض هنا ليست كلّ شيء، والاستحواذ عليها في ظلّ خسارة أهلها لا يمكن اعتباره مكسباً على المدى الطويل. الجميع هنا جرّب الأمر وخسر بما فيهم النظام، إلا أنّ هذا الأخير يستعمل، بخلاف المسلّحين، «منطق الاستقرار» لابتزاز ضحاياه، وجعلهم يقنعون بالانتقال إلى أرض أكثر أماناً. يفعل ذلك بكلّ الأسلحة الممكنة، ومن يعترض على آلية التدمير هذه أمامه السجن أو المنفى (طبعاً الموت حاضر في كلّ لحظة).
هو لا يقدّم خيارات بهذا المعنى، وإنّما يفرض خياره على ضحاياه، ثم يترك لهم منفذا يسمّيه «العودة إلى كنف الدولة». نموذج ريف دمشق قائم بمعظمه على هذه المعادلة، بمعنى أنّ هنالك سلطة فاشية توظّف عنفها ضدّ المجتمع لكي تجبره على القبول بما تريد، وما تريده قائم فعلاً وموجود في «كنف دولة» أصبحت بالنسبة إلى البيئة المدمّرة «هي البديل» فعلاً. السلطة هنا بفعل قدرتها على التحكّم والسيطرة وامتلاك الموارد و«احتكارها القتل» والعنف تملك أن تقدّم «البديل» لضحاياها. تهجّرهم من المعضمية وداريا ودوما وجوبر وبيت سحم والذيابية و... إلخ ثم تسكنهم في جرمانا وقدسيّا وصحنايا و... إلخ.
الناس في البلد أضحوا بحاجة إلى من يوفّر لهم مسكناً فحسب، وهذا ما يلعب عليه النظام ويقدر على توفيره بخلاف المعارضة المسلّحة التي تتصرّف أيضاً كسلطة، تهجّر وتقتل وتحطّم بيئات اجتماعية، ولكنها تعجز عن تقديم «البدائل» لضحاياها. بالأساس لا تقوم سياستها على منطق متماسك يحفظ للمجتمع توازنه بعد تفكيك السلطة الحالية، لا بل أثبتت مع مرور الوقت أنّها معنية فقط بقيام سلطتها، سواء حصل ذلك بمعيّة المجتمع أو على أنقاضه. وهذا ما جعل منها على الدوام سلطة مكروهة بالنسبة إلى البيئات المحاذية لبيئتها الاجتماعية. بالنسبة إلى كثيرين بدا ذلك هو الأفق الوحيد الممكن لانتقال المعارضة من موقع الانتفاض إلى موقع التسلّط وإجبار الناس على الإذعان.
لطالما كتبت هنا عن فكرة توسيع القاعدة الاجتماعية للانتفاض، بحيث تصبح عابرة فعلياً للطبقات والطوائف والمناطق، وهو الشرط الوحيد تقريباً لإمكانية استمرار المعارضة في عملها المناوئ جذرياً للنظام. لكن ما قامت به المعارضة مدعومة بقاعدة اجتماعية عريضة كان العكس تماماً، فقد قوّضت النظام في الأطراف لتحلّ محلّه في عملية ابتزاز المجتمع (خارج بيئتها المباشرة) وإخضاعه لسلطتها، ثمّ حين بدأت تستعمل أدوات الحرب اختارت أسوأها وأكثرها قدرة على تحطيم الطبقات الشعبية التي عاودت الحرب تهميشها. سأعود قليلاً إلى قضية استخدام المعارضة الهاون كسلاح «فعّال» ضدّ السلطة و«جمهورها»، وهو بالمناسبة من أكثر الأسلحة فتكاً بالفقراء. فحين تسقط قذيفة هاون على كشك للصحف ومحلّ لبيع بطاقات «الموبايل» في حيّ القصّاع لا تكون الغاية منها وقف تقدّم الجيش السوري باتجاه جوبر على ما أظن! القتل يحدث هنا بغرض القتل، إذ إنّ الوسائل الأخرى لم تعد متوافرة بالقدر ذاته لمسلّحي المعارضة، وبالتالي أصبح خيار الترويع واستهداف الفقراء دون غيرهم ذا عائد أكبر على المعارضة في المرحلة الحالية. ماذا بقي لديهم أصلاً ليفعلوه غير استخدام «سلاح الفقراء» ضدّ الفقراء. أليست هذه هي «وظيفة الهاون» بالأساس؟ أن يكسر الاختلال في موازين القوى بين الجيوش المدجّجة بالسلاح الثقيل وحركات التمرّد المزودة بسلاح خفيف.
من المؤكّد طبعاً أنّ استخدامه في الحروب يختلف بحسب الأطراف المستعملة له، فهنا مثلاً لا يستخدمه النظام كثيراً نظراً لمردوده الضعيف داخل المعركة، فيما تعتبره المعارضة ذخراً لها في مواجهة المدنيين المحسوبين على السلطة، وخصوصاً أنّها تعرف مقدار الخفّة التي تتعاطى بها هذه الأخيرة مع فكرة حماية المدنيين. لذلك تحديداً كثر استخدامه في الآونة الأخيرة من جانب المسلّحين، فمثلما يمتلك النظام الفاشي منذ البداية منطقاً للقتل و«إبادة» الكتل البشرية المناوئة له، كذلك باتت تفعل المعارضة الفاشية المجرمة الآن. كلاهما يمتلك تصوّراً معيّناً للعنف الممارس ضدّ المجتمع، بمعنى أنّ جرائمهما ليست اعتباطية، كما أنّها لا تسير في اتجاه واحد حصراً. تتغيّر الإستراتيجية هنا وفقاً لما يبديه المجتمع من ردود أفعال، فإذا قاوم عملية تفكيكه كما يحصل في دوما وجرمانا تتضاعف كمّية العنف الممارسة ضدّه، أمّا إذا انهار بسرعة ومن دون مقاومة تذكر فحينها لن تكون الفاشيّة (سواء السلطوية أو المعارضة) بحاجة إلى تكثيف عمليات القتل والتهجير. أحياناً يكون الطرفان بحاجة إلى توزيع للأدوار، إذ بينما يقوم النظام بالاستيلاء على قرى بعينها وتهجير أهلها بمساعدة ميليشيات حليفة، تضاعف المعارضة المسلّحة من عمليات القتل تجاه المدنيين المتواجدين في أماكن محاذية ومحسوبة على السلطة. تفرغ منطقة معارضة من أهلها لتمتلئ أخرى موالية بهم، لكن من دون ضمانات تذكر بعدم التعرّض لهؤلاء جميعاً بالقتل من جديد. منذ أيّام مثلاً قتل أفراد عائلة نزحت إلى جرمانا من الريف القريب. سقطت قذيفة الهاون عليهم وهم مقيمون في مبنى قيد الإنشاء داخل المدينة. الإيجارات أصبحت مرتفعة جدّاً في الضواحي، لذا يتحايل النازحون الفقراء على العملية الاقتصادية التي تقذفهم خارج بيوتهم وقراهم، ويلجأون إلى العيش بأقلّ الوسائل كلفة. يعتقدون أنّ فعل ذلك في «بيئة موالية» سيجلب لهم الأمان، فهي ليست مستهدفة من النظام كقراهم، كما أنّ فيها إمكانية لتحصيل لقمة عيش بالحدّ الأدنى. لم يخبرهم أحد على ما يبدو بما يفعله الهاون في هذه المنطقة. لم يعرفوا أيضاً أنّ النظام قد هجّرهم بالسلاح الثقيل، لكي تستقبلهم المعارضة بسلاحها الخفيف! لا تعريف واضحاً لهذه «العملية» في العلوم السياسية، ففيها تأويلات قد لا تأخذ عادة بعين الاعتبار. كما قلت سابقاً الحرب هنا باتت تصوغ معرفتنا عن المجتمع وتفرض منطقها علينا. وفي هذه الحالة تحديداً تدخّلت الحرب بشدّة لترسي مفهوماً جديداً للقتل. لنسمّه «القتل بالتراضي»، فهو مثل الأمن بالتراضي صادر عن منطق واضح ومتماسك. منطق يجبّ «الثورة» و»المؤامرة» معاً، ويضعهما في جيبه.
* كاتب سوري