في فترة ما بعد 8 آذار 1963 اختفى التيار الليبرالي السوري، وسادت ثلاثة تيارات سياسية الساحة السورية المعارضة: الاسلامي، والناصري العروبي، والماركسي. كانت التيارات الثلاثة تؤمن بـ«نظرية الطليعة»، التي تقول إنّ «الانسان غير المنظم في حزب لا يستطيع الوصول لأكثر من الوعي السياسي العفوي»، وهي كانت تتشارك في الاعتقاد بأن «الوعي السياسي يتم تصديره من قبل الطليعة المنظمة». عندما حصل السقوط السوفياتي في فترة 1989 ــ 1991 نشأ اتجاه نحو «الليبرالية الجديدة» في سوريا، أتى إليه أساساً ماركسيون سابقون، قال بدلاً من «نظرية الطليعة» بـ«التنوير»، الذي ينبني على نظرة للناس في المجتمع، خارج نطاق ما يطلق عليه اسم «النخبة»، تعتبرهم «جهلة» و«دهماء» و«ظلاميين يحتاجون لأنوار ما يسمى بالنخب المسيسة والمثقفة».في فترة 1964 ــ 1982، عندما كانت المعارضة السورية بتياراتها الثلاثة تلك بحالة مد ضد نظام حزب البعث، كانت نظرية الطليعة طافية على السطح، ولما ضربت المعارضة وأجبر المجتمع السوري على الصيام والصمت عن السياسة بتأثير أحداث حزيران 1979 ــ شباط 1982 طفت كثيراً نزعة نخبوية عند أغلبية كاسحة من الساسة والمثقفين المعارضين، أمام مجتمع عازف عن السياسة، أصبحت عندها مصطلحات مثل «الشعب» و«الجماهير» و«الثورة» مجالاً للسخرية والتندر، وهو ما كان متزامناً مع طفو مصطلح «التنوير» إلى سطح الثقافة السياسية عند معارضين أصبحوا مثل السمك خارج الماء مع عزوف المجتمع السوري عن السياسة في فترة ما بعد شباط 1982.
تغيّرت الأمور منذ يوم 18 آذار 2011 مع انطلاق الحراك السوري المعارض بدءاً من درعا: لم تكن السلطة وحيدة في الذهول والحيرة أمام كسر المجتمع السوري لصيامه عن السياسة بل كان المعارضون جميعاً في نفس الوضع. والحقيقة أن السلطة والمعارضة قد فوجئتا معاً بانطلاق هذا السيل في مجرى النهر القديم بكل الحمولات التي حملها بعد انقطاع دام تسعة وعشرين عاماً، وهي حمولات مجهولة للسلطة والمعارضة. لم يفعل المعارضون السوريون ما فعله لينين في نيسان 1917 في «موضوعات نيسان»، لما خلع قميص البرنامج القديم المقدم في ضوء ثورة 1905 في «خطتي الاشتراكية الديموقراطية»، والذي بان فشله مع فشل تلك الثورة ودخول المجتمع الروسي في الانكفاء السياسي أمام انتصار السلطة القيصرية على تلك الثورة، حيث كان يدرك لينين مع ثورة شباط 1917 بأن هناك حراكاً يحتاج إلى برنامج سياسي وهو ما لم يكن مقدماً من حزبه البلشفي ولا من المناشفة ولا من «الاشتراكيين الثوريين» ذوي النزعة الفلاحية ولا من حزب «الكاديت» الليبرالي. في «موضوعات نيسان» قدّم لينين برنامجاً نحو ثورة اشتراكية، وهو ما صادم فيه حزبه الذي كان ما زال مثبتاً عند «الثورة الديموقراطية»، كما في كتاب 1905، وكذلك باقي الأحزاب وحتى معظم أفراد الشعب الروسي وكل الرأي العام، قبل أن يستطيع لينين بعد ستة أشهر تحقيق «موضوعات نيسان» من خلال ثورة أوكتوبر.
لم يختر المعارضون السوريون بغالبيتهم تقديم برامج سياسية عام 2011 تلاقي أو تختبر وزنها عبر ميزان مجتمع يدخل من جديد في السياسة: في مقابلة مع جريدة «الحياة» يوم 29 تموز 2011 أعلن المعارض السوري الأبرز رياض الترك عن بلورة فكرية ــ سياسية لنزعة شعبوية، طغت أو لامست غالبية كاسحة من المعارضين السوريين في مرحلة «ما بعد 18 آذار2011»، عبر الكلمات التالية: «الآن الكلام للشارع. الكلام للشباب الثائر. الكلام لمن يصنع الحدث. الكلام للشعب الذي يخرج اليوم عن صمته ويقوض جدران مملكة الصمت». كانت «الأمانة العامة لاعلان دمشق» في 22 تموز 2011 قد سارت في هذا الاتجاه، وعلى الأرجح بوحي من الأستاذ الترك، في وثيقة حملت عنوان «رؤية لتأسيس العمل المشترك للمعارضة الديمقراطية»، قالت التالي: «نفهم المهمة الرئيسية للمعارضة السورية في هذه الأيام على أنها دعم الانتفاضة، والالتحام بها في كل مكان وزمان. لقد تبلور الصراع السياسي بين قطبين: النظام الاستبدادي من جهة، والشعب في الشارع، بشبابه خصوصاً، من جهة أخرى. ونحن ننحاز إلى هذا الطرف من دون التباس أو تردد...». كان هذا يعني السير وراء الشارع المتحرك وليس «في طليعته». كما أنّ هذا كان يعني تحديد البرنامج من خلال المقولة التي طرحت آنذاك: «الشعب يريد»، التي طغت على الأكثرية من المعارضين أو ألقت بظلالها حتى عند المعارضين السوريين الذين أرادوا طرح برنامج يقوم على مقولة «إدارة الممكنات السياسية»، كما جرى في اللقاء التأسيسي لهيئة التنسيق في دمشق (25حزيران) وفي مؤتمرها الأول في حلبون (17أيلول).
لم يكن الشعب السوري موحداً تجاه «الحراك» منذ 18 آذار 2011 وما زال، حتى الآن بعد سنتين وسبعة أشهر، منقسماً بين ثلاثة أثلاث متساوية: موال ومتردد ومعارض. لم يأخذ المعارضون السوريون الذين ساروا وراء مقولة «الشعب يريد» ذلك بعين الاعتبار، من حيث إن الشعب السوري ليس موحداً تجاه الحراك. تعامل المعارضون بغالبيتهم العظمى مع الحراك باستغلالية من انتقل، من دون جسور، من «النزعة الطليعية ــ التنويرية» إلى «النزعة الشعبوية» لملاقاة «حراك شعبي» قام به غالبية من الشباب لا خبرة سياسية سابقة لهم، حيث تصرف المتمرسون السياسيون، وهم خارجون من العمل السري ضمن بقايا أحزاب محطمة ظلت لثلاثة عقود تكافح للبقاء التنظيمي ولو في الحد الأدنى، بمنطق السمكة التي هي خارج الماء ثم لقيت نهراً يمكن أن تعود للعوم فيه. في تلك الفترة كانت هناك سطوة وقوة للشارع المتحرك على المعارضين، وكانت وضعية الأخيرين أمام الأول أقرب لوضعية عامل المقهى الذي يطلب منه رواد المقهى طلبات محددة للقيام بها، أولاً لأنه صاحب المهنة وثانياً لأن أولئك الرواد لا يملكون خبرة تلك المهنة التي اسمها السياسة. من استجاب لإرادة الشارع المتحرك لاقى شعبية، ومن لم يستجب لاقى النبذ والشتائم والاتهامات ولو كان خريج الأقبية والزنازين والمعتقلات. أتى المأزق من واقع أن «الحراك» لم يستطع تحقيق أهدافه المتصاعدة السقف التي وصلت إلى شعار «اسقاط النظام» في تموز 2011. كان المثال الليبي، مع سقوط القذافي من باب العزيزية في 23 آب 2011، مغرياً للشارع المتحرك لكي ينتقل إلى شعار «طلب الحماية الدولية» الذي كان عنوان حراك جمعة 9 أيلول 2011، وهو ما تبعه فيه سياسيون، من يساريين سابقين واسلاميين كان لهم اتجاه الاستعانة بالخارج منذ «اعلان دمشق» (16 تشرين أول 2005)، الذي كان ملهماً له ما حصله معارضو صدام حسين على يد الأميركي الغازي عام 2003، رأوا في تجربة مصطفى عبد الجليل ومجلسه مثالاً يحتذى في الاستعانة بالخارج لحسم ما لم يستطيعوا حسمه بالوسائل الذاتية. أتى تشكيل «المجلس الوطني السوري» في 2 تشرين الأول 2011 على خلفية امتزاج النزعة الشعبوية مع نزعة الاستعانة بالأجنبي عند سياسيين قدماء وعند ساسة جدد جاءوا للمعارضة في ربع الساعة الأخيرة، وهو مزيج كان له شعبية كبيرة في الشارع المتحرك بالربع الأخير من عام 2011. عندما وضح انسداد عملية تكرار السيناريو الليبي سورياً، عقب «فيتو» 4 تشرين الأول 2011 وفيتو 4 شباط 2012، اللذين مارستاهما موسكو، حصل اتجاه في الشارع المتحرك المعارض نحو «العنف»، كوسيلة لتحقيق الأهداف السياسية، وهو ما تبع فيه وسار وراءه أولئك الساسة القدماء والجدد على مبدأ «ما يطلبه الجمهور».
في أول النصف الثاني من عام 2013 ارتطم «العنف المعارض» بالحائط بعد عام كامل من تجريبه الكثيف، ليختم الفصل الثالث من «الحراك السوري المعارض» بعد فصلي «الحراك الداخلي السلمي: 18 آذار 2011 ــ 9 أيلول 2011» و«نزعة الاستعانة بالخارج: حتى تموز2012»، وليلحق بهما من حيث تماثله معهما في عدم تحقيق الأهداف. أتى هذا حصيلة لجملة توازنات أنتجت بناءً بطبقات ثلاث: داخلية واقليمية ودولية حكمت مسار الأزمة السورية. في خريف 2013 أصبح التدويل (والأقلمة) هو المتحكم بمسار هذه الأزمة، وليصبح العامل المحلي هو الأقل من حيث الفاعلية والتأثير.
خلال النصف الثاني من عام 2013، تغيّر المزاج الشعبي وأصبحت الأثلاث الثلاثة، في المعارضة والموالاة والمترددون، في حالة انزياح نحو «التسوية»، وليشكل أنصار «الحل الوسط» المتمثل في «جنيف 2» و«جنيف 1» غالبية شعبية عابرة لتلك الأثلاث. وهو ما يمكن لمسه بوضوح الآن في عموم الشارع السوري: أمام هذه الحالة الشعبية وقف أولئك المعارضون السوريون الذين مارسوا تلك «النزعة الشعبوية» في حالة عجز عن عكس مزاج الشارع ليصبحوا أسرى طروحاتهم السابقة. ولم يستطيعوا النزول من أعلى الشجرة لكي يعكسوا هذا التحول الشعبي السوري الحقيقي نحو «التسوية» المترافق مع رياح دولية ــ اقليمية ملائمة.
* كاتب سوري