في شهر أيار (مايو) من العام 2012، فجّر الصحافي العربيّ المصريّ محمد حسنين هيكل قنبلة من النوع الثقيل، إذ قال في حديث صحافيّ، تناقلته وسائل الإعلام العربيّة، التي تُغرّد خارج سرب أموال البترو دولار: «عندما اجتمعت بالعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، قضيت نصف ساعة شعرتها دهراً. سألني سؤالاً واحداً، ونحن على الغداء، قائلاً: شلون تدبّر راسك مع الحريم وأنت بعمر الثمانين؟ وأضاف: خرجت الصحف السعودية في اليوم التالي تقول إننّا استعرضنا الأوضاع الإقليميّة والدوليّة».
النظام الحاكم في الرياض التزم الصمت، ولم ينفِ أو يؤكّد، لسبب واحد، وهذا اجتهاد شخصيّ: صنّاع القرار في المملكة يعلمون أنّ هيكل ليس مجرّد صحافيّ يُمكن تغريره بالأموال المنهوبة من الشعب، علاوة على أنّه يتمتّع بصدقية كبيرة جداً في الوطن العربيّ من المحيط إلى الخليج، والكتب التي قام بتأليفها خلال سنوات عمله الصحافيّ ترتكز على تأريخ الأحداث وتدعيمها بالوثائق والمستندات، باختصار شديد، هيكل، ربّما هو المؤرخ العربيّ الوحيد الذي عاصر التطورات منذ عهد الرئيس المصريّ الراحل، القائد والمعلّم والمُلهم، جمال عبد الناصر وحتى يومنا هذا، وقام بنشر حيثياتها وتفاصيلها، وبات مرجعيّة تاريخيّة من الطراز الأوّل. كما أنّ من الأهمية بمكان الإشارة في هذه العُجالة، إلى أنّ مؤلفاته تُرجمت إلى العديد من اللغات، وأصبح هيكل معروفاً جداً في الأوساط الغربيّة. وعليه، نميل إلى الترجيح بأنّ حديثه عن الاجتماع مع العاهل السعوديّ كان صادقاً ودقيقاً مئة بالمئة، لأنّه من المسّلمات أنّ الرجل لم يتجنّ على أحد منذ بداية عمله الصحافيّ، ولم يُتّهم في يوم من الأيام، حتى من قبل خصومه وهم كثر، بأنّه انتهازيّ ويُزوّر الحقائق والتاريخ خدمةً لأجندات غريبة أو غربيّة أو عربيّة، ولم ينحن في يوم من الأيام لتأليه هذا الزعيم أو ذاك، أو للمسّ بذلك القائد من أجل تحقيق مآربه، وربّما أكبر دليل على التزامه بخطه الوطنيّ هو أنّه من على منبر فضائية «الجزيرة» القطريّة هاجم الفضائيّة نفسها لكيلها بمكيالين، على الرغم من أنّه قدّم برنامجاً فيها (مع هيكل)، والذي حاز نسبة مشاهدة واسعة جداً. وكان رد الفضائية التي تتغنى زوراً وبُهتاناً بالرأي والرأي الآخر، أن أقصته عن برنامجه، الذي كان يُبثّ أسبوعياً. وفي الحديث نفسه، الذي ذُكر آنفاً، قال هيكل: «التقيت حسن نصر الله لثماني ساعات، ولم نُنهِ سوى القليل مما رغبت في نقاشه».
■ ■ ■
سُقنا هذه المقدّمة على وقع الأنباء المتواترة التي تتحدث عن أنّ مملكة آل سعود، وهي بالمناسبة الدولة الوحيدة إلى جانب المملكة الأردنية الهاشمية في العالم، التي تُسّمى على اسم حكّامها، قررت خفض تعاونها السياسيّ والأمنيّ مع الولايات المتحدة الأميركيّة، الحليفة الاستراتيجيّة للمملكة، احتجاجاً على عدم حلّ القضية الفلسطينيّة، وعجز واشنطن عن إيجاد المخرج للأزمة السوريّة، بالإضافة إلى الملّف النوويّ الإيرانيّ. والأدهى من ذلك، أنّ الرياض تعمل بدون كلل أو ملل على إقناع المعارضة السوريّة في الخارج، المنقسمة على نفسها، والتي باتت الشرذمة شعارها المركزيّ، بمقاطعة مؤتمر جنيف الثاني، الذي سيُعقد في أواخر الشهر المقبل، بهدف البحث عن حلّ دبلوماسي يُخرج سوريا من نزف الدم الذي تعيشه منذ آذار (مارس) من العام 2011. والأمر المثير للسخرية أنّ الولايات المتحدّة، التي تُقدّم الحماية للسعودية وفق مبدأ: النفط مقابل الأمن، ستُشارك في المؤتمر المذكور بموجب اتفاقٍ مع الدبّ الروسيّ، الذي عاد إلى منطقة الشرق الأوسط بقوة، فهل انقلب السحر على الساحر؟ أم أنّ الساحر انقلب على السحر؟ فالجميع يعرف أنّ العلاقات الدوليّة محكومة بموازين القوى، وأنّ السعودية بدون الحماية الأميركيّة المشدّدة لن تتمكّن من الحفاظ على نفسها، إن كان من الداخل أو من الخارج، فالرقم القويّ في المعادلة هو أميركا، رأس حربة الإمبرياليّة في العالم. وبالتالي في ظلّ عدم التكافؤ في القوة بين الرياض وواشنطن، يتحوّل التهديد السعوديّ بخفض مستوى التعاون مع أميركا إلى أسخف نكتة تفتقر إلى اللباقة السياسيّة، أو يُمكن الاستعانة بالمثل القائل: إنّ شرّ البليّة ما يُضحك؟ وقد يمكننا القول، أيضاً، إنّ هذا هو الغنج السياسيّ لحفظ ماء الوجه حينما يتلّقى العبد صفعةً من سيّده على الملأ.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ أميركا لن تكون قاسية على السعودية، لأن السعودية ضرورية لها، وإسرائيل لإبقاء عدائها المصطنع مع إيران، حيث تزعم السعودية أنّ إيران سوف تحتل الخليج. هذه الفزاعة هي أساساً في خدمة السيطرة الأميركيّة والصهيونيّة على المنطقة.
■ ■ ■
من نافلة القول إنّ المملكة العربيّة السعودية هي بلد رجعيّ بامتياز ولا يحترم أدنى الحريات الإنسانيّة، وللتدليل على ذلك، نُورد في هذا السياق أنّ سعوديات يطالبن بمنح المرأة حقّ قيادة السيارات في تحدّ للحظر، الذي لا يزال مفروضاً في المملكة، والذي يمنع النساء من قيادة السيارة. وتحت شعار «القيادة اختيار وليس إجباراً»، دعت ناشطات عبر شبكات التواصل الاجتماعي النساء إلى المشاركة في حملة قيادة السيارات في بلدهن، وهو البلد الوحيد في العالم الذي يمنع المرأة من قيادة السيارات. والطريف أنه قبل بضعة أيام، احتشد 150 رجل دين أمام قصر الملك السعودي احتجاجاً على قيادة النساء للسيارات. وزارة الداخلية في المملكة حذّرت في بيان رسميّ السعوديات اللواتي دعونَ إلى النزول للشارع لقيادة السيارة، بأنّها ستتعامل بكلّ حزم وقوة مع المخالفات لأنظمة القوانين. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق: بأيّ حق وطنيّ أو أخلاقيّ تمنح المملكة الرجعيّة نفسها بالتحدّث عن حقوق الإنسان في سوريا؟ ذلك أنّه من المعروف أنّ الذي بيته من زجاج لا يرمي بيوت الناس بالحجارة، كما يقول المثل العربيّ. إضافة إلى ذلك، فإنّ السعودية، التي تحاول الظهور كحامية للإسلام وتلعب على الوتر الطائفيّ، أدخلت قواتها إلى البحرين وقمعت ثورة سلميّة وقتلت في غير أراضيها، وبالتالي لا يحقّ لها الكلام عن الجيش العربيّ السوريّ وأعماله في بلاد الشام. هذا من ناحية، أمّا من الناحية الأخرى، فإنّ حكّام الرياض، وتحديداً الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات، لا ينفون قيامهم بتزويد التنظيمات المتشدّدة التي تُحارب النظام الحاكم في دمشق وتعمل على إسقاطه بالأسلحة والعتاد والمقاتلين والأموال. ولا بدّ في هذا السياق من التذكير بأنّ منظمة «هيومان رايتس ووتش»، التي تُعنى بحقوق الإنسان، اتهمت في تقرير موثّق، أصدرته أخيراً، هذه التنظيمات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة في ريف اللاذقية في سوريا. وكما في الرشى، فإنّ من يرشو الآخر يرتكب جريمة، كذلك فإنّ متلقّي الرشوة يُخالف القانون، كذلك الأمر مع السعودية، فَمَنْ يدعم هذه التنظيمات التي تقترف الجرائم التي يندى لها الجبين، هو شريك فعليّ في الجرائم التي تقشعرّ لها الأبدان. أي أنّ السعودية، التي ترفض المشاركة في مؤتمر «جنيف 2»، تتحمّل مسؤولية قتل المدنيين من أطفال ونساء ورجال ومسنّين من قبل الجماعات التي تدعمها. من هنا، يُمكننا التوصّل إلى نتيجة بأنّ مملكة الدم، لا ترغب بالمشاركة في المؤتمر المذكور، لأنّه يوجد احتمال، ولو ضئيل، لوقف سفك الدماء السوريّة عن طريق الحلّ الدبلوماسيّ.
■ ■ ■
أمّا في ما يتعلّق بفلسطين والاحتجاج السعوديّ على عدم تمكّن أميركا من حلّ مشكلة هذا الشعب الذي يرزح تحت نير الاحتلال الإسرائيليّ، فمن حقّنا ومن واجبنا أن نسأل حكّام المملكة: لماذا لم تعملوا على تنظيم مؤتمرات أصدقاء الشعب العربيّ الفلسطينيّ، كما فعلتم مع ما يُسمى مؤتمر أصدقاء سوريا؟ هل الدم الفلسطينيّ بات مُباحاً؟ أم أنّ تساوق المصالح بينكم وبين العدو الصهيونيّ يمنعكم من القيام بذلك؟ هل تعتقدون أنّ الشعب الفلسطينيّ نسي أو تناسى المبادرة التي أطلقها العاهل السعوديّ، والتي هي أساساً فكرة الأميركيّ الصهيونيّ، توماس فريدمان. هذه الفكرة _ المبادرة التي تحوّلت إلى مبادرة عربيّة، أقرّت في مؤتمر القمة العربيّة في آذار (مارس) من العام 2002 في عاصمة بلاد الأرز، بيروت. وهذه المبادرة، على الرغم من أنّها أسقطت حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شُرّدوا منها، وعلى الرغم من أنّها استجدت إسرائيل بالانسحاب من المناطق العربيّة التي احتلتها في عدوان العام 1967 مقابل السلام الشامل والتطبيع الكامل مع جميع الدول العربيّة، فقد رفضتها دولة الاحتلال، ووصفها وزير الأمن الإسرائيليّ الأسبق، بنيامين بن إليعزر، بأنّها أكبر إنجاز حققته الحركة الصهيونيّة منذ تأسيسها؟ بناءً على ذلك، نطلب منكم، يا آل سعود، عدم الزجّ بفلسطين في مؤامراتكم التي باتت مكشوفة: رفضكم المشاركة في مؤتمر «جنيف 2» نابع من أنّه لا يتساوق مع مصالحكم بالقضاء على الدولة السوريّة، وتهديدكم بخفض التعاون الأمنيّ والسياسيّ مع أميركا، على الرغم من أنّه هُراء، يأتي بسبب خوفكم وقلق إسرائيل من البرنامج النوويّ الإيرانيّ، ذلك أنّ مصالحكم، وليس في القضية الإيرانيّة فقط، تتساوق وتتماشى مع مصالح الحركة الصهيونيّة وصنيعتها إسرائيل.
* كاتب من فلسطينيّي الـ 48