«قل له سيدي ولا تنظر في عينيه أبداً»
من قصة «كوخ العم توم» لهارييت بيتشر ستاو

في بداية الأمر، يبدو ماثلاً لأي قارئ للصورة الواضحة، أن اليسار لا يعاني أزمةً عادية، بل لربما هي أزمة وجود حقيقية، ستغيّر إذا ما استمرت -أو حلّت- شكله وبصورةٍ كلّية. لم يسبق لاتجاه فكري أن عانى من مشاكل وأزمات كالتي عانى منها اليسار اللبناني/ العربي إذ بدا كما لو أنّه «جاذبٌ» للمشكلات من كل حدبٍ وصوب، ولِمَ لا؟ وهو الجامع لاتجاهات قلّما اجتمعت في مكانٍ واحدٍ سابقاً (من القومي العربي إلى الشيوعي التروتسكي، هل هناك أوسع؟). ولاتساع مروحة اليساريين ولأن الزمن بات يصنّفهم ضمن «دائرةٍ» أخرى حالياً، ظهرت طائفةٌ جديدة من مدّعي اليسار (السابقون أو اللاحقون) هم «يساريو» السفارات الغربية، حيث كنت أعتقد أنَّ هؤلاء يأتون ضمن تصنيف «عبيد الرجل الأبيض»، لكن الظاهر أنهم ليسوا بعبيد، بل يعتبرون أنفسهم أرقى، أي موظفون ذوو أجر؛ هي فكرة شديدة الإضحاك، كون الوظيفة هي «فعلٌ» محترم، أما «العمالة» فهي «فعل خيانة». طبعاً هنا ننتقل وبسرعة إلى الفكرة الثانية والأهم: «تهشيم المفاهيم»؛ يعني سيسأل أحدهم ماذا تعني «الخيانة»؟ وما هي «العمالة»؟ ولمن؟ البعض سيقول لك إن التعامل مع الكيان العبري هو خيانة، أما البعض فسيقول إنَّ التعامل مع إيران (أو سوريا) هو خيانة. هنا يتضح بوضوح ما تم العمل عليه خلال سنواتٍ طوال من عمل «مفكري» اليسار عينهم (ذلك أن بلادنا لم تمتلك مفكرين سواهم خلال عقودها الماضية)، أن تدمّر أي بنية حقيقية «للفكر» حتى نصل إلى ما نحن فيه اليوم وتصبح «الخيانة» و«العمالة» مجرد وجهة نظر، لديها من يدافع عنها وبكل ما أوتي من قوة، لا لأنه خائن، بل لأنه لا يفهم نهائياً ما معنى الكلمة. الفكرة الثالثة هي مبدأ الحاجة الى العمل/ المال؛ هذه الفكرة تشكّل ثقلاً استراتيجياً تعمل عليه «الجمعيات» وخصوصاً ذات الأبعاد الاجتماعية/ الخيرية/ الإنسانية منها.
تغلغلت الجمعيات
غير الحكومية في اليسار
بشكلٍ مخيف
تسعى الطبقات الفقيرة إلى إيجاد فرصٍ للعمل، خصوصاً مع الرغبة العالية بالاستهلاك، وكي أبسط الصورة؛ مثلاً يمكنك الحياة بسيارة موديل 2000، لكن مع هذا فأنت تستدين وتطلب قروضاً من كل مكان كي تحوز سيارةً حديثةً للغاية. ذاك يبتعد عن مفهوم «الترقي» أو «الحلم» بحياةٍ أفضل ليدخل في فكرة التشبّه بمجتمعات أنت لست منها أصلاً. يعني الكائن الذي تشاهده في إعلانٍ على التلفاز راكباً تلك السيارة لا يشبهك في شيء، لا يعيش حياتك، وبالتأكيد لا يمتلك خلفيتك الثقافية والاجتماعية (هل راقبتم أي اعلانٍ على قنوات التلفزة المحلّية؟ جربوا وقارنوها بأنفسكم، ماذا ستجدون؟). أتى اليسار بدايةً كاستجابةٍ لنبض الناس، وأحلامهم، من هنا اهتم اليساريون الأوائل بتدريس الناس وتثقيفهم، ثم تدريبهم على السلاح. امتزجت الفكرتان بشكل خارق في البداية، ما أفرز يساراً ثورياً مقاوماً، ومن هنا امتلكت الأحزاب والتنظيمات اليسارية شيئاً من «السحر» في الوجدان الشعبي المحكي. هذا الأمر انكفأ لاحقاً ثم انهار تحت ضرباتٍ قاسيةٍ من داخله وخارجه. لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي هو الطامة الكبرى، بل ببساطة كان سلوك كثير من قادة اليسار أنفسهم أكبر تأثيراً. لاحقاً تحوّل معظم هؤلاء القادة إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، فتوجّه أغلبهم لمن يبيع أكثر، قلةٌ قليلة حافظت على مبدأيتها وأخلاقها العليا، فيما قلةٌ أخرى قررت ببساطة أن تبقى تحارب لتحصل على فتات ما بقي من أحزابها (سواء لممتلكات أو لمنصب). آنذاك كان الشباب يغلي في الشارع، باحثاً عن بصيص أمل، امتص القادة أنفسهم كل هذا، كلٌ إلى جانبه (البعض باعهم للسفارات، البعض باعهم لأحزابٍ مهترئة، والبعض ببساطة جعلهم مقاومين حقيقيين). في لحظةٍ ما، صار «اليساري» كائناً آخر يختلف تماماً عما كان اليساريون الأصليون عليه حال نشوئهم.
خجل كثيرٌ من بعض يساريي العصر الحديث من لكناتهم القروية والجبلية والريفية، فباتوا يلوون ألسنتهم كي لا يظهروا بمظهر المتخلّف أمام أصدقائهم المدينيين. كذلك دعا كثيرٌ من هؤلاء إلى تدمير البنية المجتمعية، لأن المجتمع ذكوري/ أبوي حسب ادعائهم، ومع هذا ظلوا ذكوريين أكثر من ادعائهم النقيض: فلم تحصل الرفيقات مثلاً على مراكز «قيادية» كثيرة في أغلب انتخابات هذه التجمعات، مع أن المرشحات في كثيرٍ من الأماكن كن كثيرات. في إطارٍ نقيض، وجدت الجمعيات (الممولة غربياً) ضالتها كثيراً بين الفتيات/ الرفيقات، إذ أنّها تنبهت لدور المرأة في المجتمع الشرقي، وقوته وتأثيره، فأصرت على إدخالهن إلى سوق «عملها»، والتأثير عليهن أكثر من نظرائهن الذكور. طبعاً هذا التوفير والتسهيل كان للمساعدة للمضي قدماً في تطبيق تعاليم الكائن الأبيض السامي؛ المستعدة للتنازل (ولا أعني به الجنسي أبداً، فهو ليس شرطاً) عن مبادئ كثيرة وأهمها «قتال الأعداء»، فهذا شائنٌ محرّم؛ فنحن مسالمون وإنسانيون، وفوق كل هذا البشر كلهم إخوتنا!
تغلغلت الجمعيات في اليسار بشكلٍ مخيف، دخلته بداية الأمر عبر ذات «القادة» الذين أشرنا إليهم في منتصف المقال. وجد هؤلاء القادة مالاً كثيراً أمامهم، كنز علي بابا الشهير مفتوحاً كي يغرفوا منه، فتركوا للجمعيات الغربية الباب مشرّعاً. دخلت الجمعيات وبدأت مرحلةٌ جديدة من لعبة تهشيم اليسار بشكلٍ كلي. خسر اليسار للمرة الثانية معركته مع كل شيء. ظهرت مفاهيم لا تنتمي الى الفكر اليساري بشيء، فباتت أمور صغيرة وهامشية أساسيةً للنقاش وللصراع من أجلها، وتركت الأمور الأشد ضرورة ووسمت بأنها باتت «خشبية» متخلّفة. كان سهلاً مثلاً أن تجد يسارياً من شارع الحمرا (وليس الموضوع إهانةً للشارع أبداً) مستعداً للنزول في مسيرة للمطالبة بحقوق المثليين أكثر من استعداده للنزول ضد عدوان جيش الاحتلال الصهيوني على غزّة وقتله لآلاف الفلسطينيين العزّل. لم يتوقّف الأمر المتماهي عبر الجمعيات عند هذا الحد، فحينما حدثت هجمات «شارلي إيبدو»، تضامن يساريون (سابقون ولاحقون) مع الجريدة وحاربوا لأجلها (على الفيسبوك ومواقع التواصل) وتحدثوا عن «شهدائها» مع العلم أنَّ كثيراً من هؤلاء مروا فوق جثث أطفال فلسطين/ سوريا/ لبنان كما لو أنّه لا يعنيهم. إلى هذا الحد تغلغلت أفكار «المحتل الأبيض» في عقول بعض اليساريين الشباب. هذه الحالة ليست جديدة، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، إذ يروي منير العكش في كتابه «دولة فلسطينية للهنود الحمر» أن واحدةً من كبرى قبائل الشيكاوا من سكان أميركا الأصليين كانت شديدة العداء للقبائل الأصلية الأخرى، لا بل إنّها ساهمت بشكلٍ أساسي ورئيسي في القضاء على الشعوب الأصلية بالتعاون مع المحتل الأبيض، بماذا كافأها هذا المحتل عند النهاية؟ قتل رئيسها بطعامٍ مسموم، ثم باع بقية أفراد القبيلة بين عبيدٍ وعاهرات.
* كاتب فلسطيني