للعراق دورٌ محوري في التحالف المشرقي الممكن والمأمول؛ فرغم ما يتعرض له العراق من حملة إرهابية وحشية مدعومة من الصهيو - وهابية وحكومة أردوغان العثمانية، والهادفة إلى تفكيك وحدة الدولة العراقية عبر تأجيج المشاعر الطائفية والعرقية، لا تزال فرص النهوض الوطني العراقي، كبيرة، ما سينعكس على المشرق كله.
يعاني العراق من نتائج حكم دموي عنيف ارتكب الجرائم بحق الشعب العراقي منذ عام 1963 وأوصل البلد إلى نتائج كارثية، استكملها الاحتلال الأميركي الإجرامي الذي تمكن من تدمير الدولة العراقية. ولا يزال العراق يعاني من نتائج هذا الاحتلال حتى بعد زواله.
يتميز العراق بفسيفساء رائعة من التنوع الإثني والديني تشكل، في أجواء صحية وطبيعية، مصدر تميز وإلهام للكثير من الشعوب الأخرى. لكن ما حصل للأسف خلال الخمسين سنة الماضية، حوّل غنى تركيبته إلى نقمة على الشعب العراقي. وتحتاج الدولة العراقية إلى كثير من الجهد والعمل الدؤوب والمتواصل لإعادة بناء العراق الحديث والقائم على التنوع والديموقراطية، آخذين في الاعتبار التجربة التاريخية المريرة التي تبين أن طريق العلمانية هو أحد أهم شروط بناء العراق الديموقراطي التعددي والتقدمي. وليس هناك من مناص أمام الوطنيين العراقيين للتهرب من أو تأجيل طرح أولوية العلمانية، بغض النظر عن فتاوى رجال الدين من الطوائف المختلفة.
ولعل انتصار الشعب السوري في معركته ضد الإرهاب التكفيري الطائفي والمذهبي، وإعادة بناء سوريا على أسس العلمانية والديموقراطية وثوابت المقاومة والتنمية المستقلة، أن يكون بداية الطريق لانتصار العراق، بدوره، في معركته ضد الإرهاب، واستعادة وحدة البلد والشروع في بناء الدولة الوطنية. وستقدم سوريا الجديدة خبراتها الكبيرة على الصعيد السياسي والقتالي معاً، ما يساعد الجيش العراقي على تطوير أساليبه وإمكاناته في النضال ضد الإرهاب الوحشي، كذلك إن اتجاه البناء القومي العلماني في سوريا، سيساعد العراقيين على تجاوز التفكك المذهبي والطائفي والعرقي، نحو استعادة الدولة الوطنية.
إن الآثار الايجابية للنهضة العراقية على مجمل الحركات الوطنية في المنطقة، هي السبب وراء الصمت الكثيف عن جرائم الإرهابيين وفظائعهم في العراق، من قبل الدول الغربية و«جامعة الدول العربية». وهو صمت يؤكد تواطؤ هذه الدول، سواء بتغذيته أو بالقبول به كواقع «محلي» بالادعاء أنه تعبير عن صراع طائفي. ولا ينكر أحد أن جملة من العوامل أدت وتؤدي إلى انقسامات طائفية وعرقية حادة في المجتمع العراقي، ولكن الحرب الدائرة في العراق الآن ليست حرباً بين العراقيين، بل هي حرب تشنها السعودية والخليج وتركيا لتحقيق هدفين معاً، الحيلولة دون استعادة العراق لقوته ودوره الإقليمي وتقويض جهود سوريا في مجابهة الإرهاب.
وعلى المستوى الدولي، فإن الولايات المتحدة ـ والغرب عامة ـ يغضان بصرهما عن تصاعد الإرهاب في العراق، لضمان استمرار الفوضى والدمار في هذا البلد الرئيسي في المحور العالمي الجديد الناشئ من الصين حتى سوريا.
بدأ السعار السعودي والخليجي والتركي ضد العراق، لدى تحقيق استقرار نسبي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة قبل ثلاثة أعوام، وفوز نوري المالكي في هذه الانتخابات، ما أوجد فرصة جدية لإعادة البناء الوطني بعد زوال الاحتلال الأميركي. وبينما أراد الأخير، معاقبة العراقيين على تمكنهم من طرده من دون الوقوع في حبائل القبول بالوجود الأجنبي في البلاد، بدأت الرياض والدوحة وأنقرة، بتحريض الإسلام السياسي السني المتمثل بالإخوان المسلمين بقيادة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ـ الذي فرّ إلى تركيا بعد انكشاف دوره في التحريض الطائفي بين السنة، وتأسيس جماعات مسلحة نفذت العديد من عمليات القتل والإرهاب ـ ولا يبدو غريباً احتضان أردوغان له تحت وهم العثمانية الجديدة «الصاعدة»، وقتذاك على وهم سقوط سوريا في أيدي الإسلاميين، وتحت حجج محاربة النفوذ الإيراني في العراق ومنع قيام «هلال شيعي» موهوم.
ولقد كان لإعلان الدولة العراقية خططها للوصول إلى إنتاج 10 ملايين برميل من النفط يومياً ابتداءً من عام 2017، بمثابة انذار للسعودية، بانتهاء عصر تحكمها في سوق النفط. وقد اقترن هذا الانذار مع التحولات الدولية الجديدة القائمة على تعدد الأقطاب، ما يعني، بالنسبة إلى الرياض، تراجع دورها وانحسار تأثير البترودولار على السياسات الدولية والإقليمية، وإمكانية قيام تحالف نفطي جديد يستعيد طموحات الراحل الخالد عبد الكريم قاسم، الذي كان قد دعا إلى إنشاء منظمة «أوبك» لكي تكون أداة للتخلص من سيطرة الاحتكارات الدولية على النفط، ووضع الثروة النفطية في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستقلة لبلدان العالم الثالث. ولما كانت الطموحات العراقية مؤسسة في قلب جيوسياسية العراق ومجتمعه، وتتخطى السياسات اليومية لحكامه، فإن السعودية صاحبة الدور البارز في تحويل «أوبك» إلى أداة استعمارية ورجعية، تدرك، جيداً، معنى استعادة العراق لمكانته كمنتج رئيسي للنفط، وخصوصاً أن بغداد تسعى، منذ الآن، لضمان خطوط جديدة لصادراتها النفطية، ومنها مشروع أنبوب البصرة العقبة، الجاري، بالفعل، تنفيذه.
وفي هذا المشروع الحيوي بالنسبة إلى البلدين المشرقيين، تكمن إشارة مبكرة إلى الاتجاه الذي تفرضه الضرورة الاقتصادية لانخراط العراق في التحالف المشرقي؛ فبهذا الانخراط يتخلص البلد من العقدة التاريخية التي صنعها الاستعمار البريطاني في احتجاز أراضيه عن السواحل وخطوط النقل البحري؛ فالتحالف المشرقي يقدم منافذ بحرية متعددة للعراق على البحر الأبيض المتوسط، وعبر خليج العقبة إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، ما يحقق الحلم التاريخي العراقي، في الوصول المباشر الآمن إلى الأسواق الدولية وما يترتب على هذا من احتلال العراق لمركزٍ مرموق في تجارة النفط الدولية وتوفير إمكانية مالية هائلة تحقق طموحات الشعب العراقي في تحقيق اختراق تنموي. وهو مشروع عراقي تاريخي أصبح واضحاً أنه ليس ممكناً خارج التكامل الاقتصادي المشرقي.
وهناك ميزة مهمة في التحالف المشرقي حتى بالنسبة إلى الكتل الطائفية والعرقية المختلفة في العراق؛ وذلك بأنها ستشعر بالاطمئنان إلى حجمها ودورها ومستقبلها في هذا التحالف؛ فسنّة العراق مثلاً سيشعرون بالعمق الخاص بهم في سوريا والأردن وفلسطين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطوائف الشيعية في لبنان وسوريا حيث ستطمئن إلى امتدادها في العمق العراقي. وينطبق الأمر، كذلك، على المسيحيين والأكراد. وهذا الشعور بالاطمئنان سيؤدي إلى تراجع الاحتقانات والمخاوف الطائفية والعرقية، على أن ذلك كله يظل مرهوناً بقيام الدولة العلمانية والديموقراطية. يبدو واضحاً أن العراق بقيادة رئيس الوزراء نوري المالكي يدرك تماماً أهمية الفضاء المشرقي للعراق؛ فلقد نجح المالكي بتحقيق خطوة جوهرية على طريق استقلال العراق الكامل، واستعادته دوره الإقليمي، سواء بإصراره على خروج كافة قوات الاحتلال الأميركي من البلاد وعدم السماح بقيام أي قاعدة أميركية على الأراضي العراقية، أو بإدراكه لحجم المؤامرة الدولية على سوريا، وشجاعته في إعلان موقف مبكر من تلك المؤامرة في مواجهة واشنطن، بل ومساندته العلنية للدولة والجيش السوري، مدركاً أنه، بذلك، يخوض أيضاً معركة العراق ضد الإرهاب في المواجهة المشرقية المشتركة مع الأعداء التاريخيين: الصهيو - وهابية والأردوغانية العثمانية. وتنبغي الإشارة، هنا، إلى أهمية مبادرات بغداد، الاقتصادية والسياسية، نحو الأردن، لاستعادة التحالف بين البلدين، ومساعدة عمان على الاستقلال المالي والنفطي عن السعودية، من خلال عقد اتفاقية مد أنبوب نفط عراقي إلى خليج العقبة الأردني على البحر الأحمر.
* عضو الأمانة العامة
لحركة اليسار الاجتماعي الأردني