ليس فقط لأنّ العصر هو عصر التكتّلات الكبرى، أو لأنّ الحيتان الاستعمارية القديمة المتجدّدة، تعمل جاهدةً على ابتلاع الأسماك الصغيرة على طريقة «آل مديتشي» في إيطاليا (اقْتُلْ، ولكن لِيَكُنْ قَتْلُكَ جميلاً)، بل لأنّ الكيانات الصغيرة أصبحت أمام تحدِّيين مصيريين: إمّا الانضواء في تكتّلات اقتصادية وسياسية أكبر، وإمّا التحلّل إلى كيانات قَزَمِيّة متصارعة في ما بينها، سواء بفعل التراكمات التاريخية السلبية، أو بفِعْلِ الأيادي الاستعمارية القديمة الجديدة، أو بفعل الاثنين معاً .
والتحدّي الوجودي الآن، هو أنّ هذا الشرق العربي، الذي هو قَلْبُ العالَم، ومركز الحضارات ومنبع الأديان السماوية الثلاثة تعرّض ويتعرّض من القِدَم، حتى الآن، لما اصْطُلِح على تسميته «مؤامرة»، بينما هو يتعرّض في الحقيقة لما هو أكثر من مؤامرة. لقد واجَهَ عبر مئات السنين، خططاً ومشاريع مختلفة من محاولات الاحتلال والغزو والسيطرة والهيمنة والتجزئة، إلى أن جرى تتويج تلك المحاولات، باغتصاب كامل أرض فلسطين وزرع كيانٍ عنصري صهيوني استيطاني في قلب هذا الشرق، ولتكون «إسرائيل» قاعدة سياسية وعسكرية وأمنية في خدمة الاستعمار الجديد، بمواجهة الوطن العربي عامّةً، وبمواجهة أهل الشرق العربي، خاصّةً.
وأيّ دولة في هذا الشرق العربي، تعتقد أنّها قادرة على أن تحمي نفسها، بِمُفْرَدِها، تكون واهِمَة، أو تعتقد بأنّها تستطيع الحفاظ على نفسها كما هي، بإمكاناتها الذاتية فقط، تكون واهِمَة أيضاً. وهذا ما يستدعي من دول بلاد الشام وبلاد الرافدين، أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية التاريخية التي تقع على كاهلها، وأن لا تستخفّ بالتحدّيات الكبرى التي تواجهها شعوبها ومستقبل بلدانها، وأن تخفّف من التحفّظات المحليّة التي تتوهّم أنّها تَمَسُّ بحريّة القرار لديها. ذلك أنّ ما يجري التخلّي عنه، مِمّا يُعتقد أنّه حَدٌّ من حريّة القرار الوطني المستقلّ، هو في حقيقة الأمر، توسيع وتعميق وتجذير لحريّة القرار، عَبْرَ توسيع ومراكمة الطاقات والقدرات الماديّة والمعنوية المتناثرة، في حال تجميعها في بوتقة واسعة، تكون قادرة على تحويل الكمّ إلى نوع، بدلاً من تفتيت الكمّ إلى ذرّات متناثرة متطايرة في الهواء.
والمسألة ليست تَرَفاً ثقافياً ولا أحلاماً نخبويّة، بل أَضْحَتْ حاجةً ماسّة، كالماء والهواء، وإذا لم يَقُمْ أبناء هذا الشرق العربي، من نُظُم سياسية ونُخَب سياسية وثقافية، بالبدء، اليوم قبل الغد، بمواجهة هذا التحدّي المصيري الوجودي، بما يليق به من صياغة وحياكة الأُطُر الاقتصادية والسياسية الناظمة والكفيلة بترجمة وقائع وحقائق هذا الشرق العربي، إلى تكتّل اقتصادي وسياسي مشرقي، فإنّ هذا الشرق العربي سوف يسير باتّجاه معاكِس، هو التفتّت والتفسّخ، وصولاً إلى الذوبان في إطار عشرات الكيانات الطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية الجديدة. وذلك وفقاً لمشروع الشرق الأوسط الصهيوني الجديد، الذي تُشكّل «إسرائيل» قاعدته وقَلْبَه وقائده، وتشكّل الكيانات المتفسّخة المنتظَرة، أجراماً تدور في فَلَكه.
ولا بُدّ أن تقوم بلدان الشرق العربي في بلاد الشام والرافدين، بالانضواء في إطار تكتّل مشرقي اقتصادي وسياسي، ليس فقط لأنّ بلدان هذا الشرق، تشكّل حوضاً جغرافياً واحداً، بل وحوضاً جيوبولتيكياً وجيو استراتيجياً واحداً، يحتاج إلى التكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي، في مواجهة الاستعمار الجديد، بأطرافه الصهيو - أميركية، والعثمانية الجديدة، وأذنابه الإخونجية، والوهّابية. ومن البديهي، أنّ مواجهة أذناب الاستعمار الجديد من إخونجية ووهّابية، ليست أقلّ ضرورةً ولا إلحاحاً من مواجهة الرأس الاستعماري الصهيو - أميركي.
وإذا كان الاستعمار القديم، لم يسمح في الماضي، تحت أيّ ظرف، حتّى بتقارُب سوري عراقي، وكان يعمل على إجهاض أيّ تقارب، وهو جنين أو في المهد، خشية تحوّله إلى تحالف وتعاون كامل، فإنّ حجم التحدّي الوجودي الماثل أمام هذا الشرق، بمختلف أطيافه وتنوّعاته وتموّجاته، دون استثناء، يقتضي من الأنظمة السياسية أن ترتقي إلى مستوى القدرة على مواجهة هذا التحدّي، أو أن تُخْلِي الطريق لمَن هو قادرٌ على مواجهة التحدّي، إذا كانت عاجزةً عن القيام بما يقتضي منها القيام به، في هذا الميدان.
وعلى النخب المشرقية، بمختلف ألوانها وفصائلها، أن تجعل من قيام «المشرقية العربية» أو «الشرق العربي» قضيّتها الأولى والأعظم، لكي تكون جديرةً بتسمية النُّخَب، تحت طائلة تَحَوُّلِها إلى ما يشبه الوضع المخزي والمشين الذي سقطت فيه بعض النخب «الثقافية والفكرية» العربية والسورية، في همروجة «الثورات المضادّة» التي سَمّوها «ربيعاً عربياً»، وخاصة المستعربين... وأن تتحوّل النخب المشرقية، إلى طليعة حقيقية تستشرف المستقبل، بدلاً من الالتحاق بأذناب النواطير، والتعلّق بأذيال الماضي السحيق.
وتبقى نقطتان أخيرتان، لا بُدّ من تأكيدهما، هما أنّ إطلاق تسمية «المشرقية العربية» أو «الشرق العربي» لا ينال أو يمَسُّ من حقوق الشرائح والجماعات غير العربية، المتجذّرة في المنطقة، بل هي شريكة عضوية وبنيويّة وأصيلة في بناء هذا الشرق العربي الجديد. ومن البديهي إطلاق التسمية العربية على هذا الشرق، لأنّ أكثرية أبنائه هم من العرب.
والنقطة الثانية: هي عندما تتحقَّق وحدة أو اتحاد هذا الشرق العربي، سوف يكون قاعدةً وتُكَأَةً، ومنطلقاً، راسخاً ومتيناً، صوب الوحدة العربية الشاملة التي كانت وستبقى الهدف الأسمى للشعوب العربية.
* سفير الجمهورية العربية السورية لدى الأردن