يزداد، بين الدول العربية والشرق أوسطية والأفريقية، عدد الدول «الفاشلة». يزداد أيضاً عدد الدول المرشحة لأن تصبح كذلك في وقت لم يعد بعيداً. و«الفشل»، بالنسبة إلى الدول، يعني العجز عن بناء آليات حكم وسلطة وتنمية ووحدة وطنية... بشكل راسخ ومديد، وفي مناح سلمي من التعاون والتبادل والتداول. ويكون من شأن ذلك العجز عن الحفاظ على سيادة البلد المعني وعلى وحدة أراضيه. كما يكون من شأنه أيضاً عدم القدرة على جبه المخاطر وعدم امتلاك القدرة الدفاعية اللازمة لذلك.«الفشل» المشار إليه هنا، هو بالدرجة الأولى ثمرة قرون أو عقود من السيطرة الاستعمارية. وهي سيطرة تميزت بنهب ثروات البلدان التي رزحت تحت نيرها، وبتشويه تطورها الطبيعي، وبإضعاف وحدة أبنائها وفق مبدأ «فرق تسد». لكن لهذه السيطرة التي انتهت، رسمياً أو سياسياً، في معظم البلدان في أواسط القرن الماضي، أشكالاً من الاستمرارية عبر منظومة التبعية التي استمرت اقتصادياً لتعود فتطلّ برأسها سياسياً، بصيغ جديدة: فرض الالتحاق بالأحلاف والمنظومات الأمنية. تعزيز استجداء الحمايات عبر إثارة المخاوف والنزاعات. استخدام المؤسسات الدولية كستار لفرض إرادة الأقوى... ولهذا الغرض، فقد عرف العالم أشكالاً جديدة من وسائل فرض التبعية والهيمنة: بدءاً من زرع القواعد العسكرية على امتداد العالم، إلى المنظومات التجارية القارية والدولية، إلى استخدام منجزات العلم والتكنولوجيا في حقول الاتصال والتواصل، إلى التجسس والمراقبة والمتابعة، إلى الترويج لأنماط الحياة والاستهلاك ومحاولة فرضها بالغزو المعنوي أو حتى المادي.
لقد أملى ذلك، على البلدان التي خضعت للاحتلال لفترات مديدة (المؤرخ والمنظر برنار لويس يعتبر ذلك نعمة وشرطاً للتطور!)، تشوهاً وقصوراً بالغي الخطورة. بالدرجة الأولى، فإن هذه الدول مُنعت من أن تطوّر قواها الاقتصادية المنتجة بشكل طبيعي. وهي حرمت، بسبب ذلك، من توليد الآليات وأنظمة الحكم المناسبة على غرار ما حصل في بلدان المتروبول الاستعمارية. وتداعت عن هذا التشوه اختلالات في جميع الحقول، وإن كان وقعها وتأثيرها يختلفان من مكان إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، وليس بعيداً، دائماً، من تأثير الدول الكبرى ومن مصالح احتكاراتها وصيغها الجديدة للنهب والسيطرة.
القوى التي رفعت شعارات التحرر من التبعية والهيمنة، لم تصب، بدورها، النجاح المطلوب، هذا إذا لم نقل إنها فشلت إلى حد كبير. نعني بذلك، خصوصاً، القوى التي رفعت شعارات قومية أو اشتراكية أو دينية.
وتقدم الوقائع والأرقام تباينات هائلة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعلمي بين الدول المتقدمة والدول النامية، وخصوصاً منها الدول «الفاشلة». كذلك على مستوى الاستقرار والأمن وحقوق الإنسان. هذا فضلاً عن النمو المقبول أو شبه المقبول، وما يتصل بذلك من خدمات وتقديمات عامة وخاصة. كذلك على مستوى التصرف بالثروات الوطنية والحفاظ على الحد الضروري من ممارسة السيادة.
لكن المقلق، وسط هذا المخاض والصراع والتحديات، هو ما يظهر من قصور وعجز لدى مجموعات متزايدة من الدول، عن الحفاظ على الحد الأدنى من وحدتها، ولو الشكلية. يتصل ذلك طبعاً، وأساساً، بمشاريع التفتيت والفرز وإعادة التركيب. يتصل أيضاً بمخلفات نزاعات إثنية وعرقية وموروثة من عصور التخلف وأشكال صراعاتها واستقطاباتها. لكنه يشير أيضاً إلى قصور ذاتي إذا ما تمت محاكمته من زاوية ما رُفع من شعارات، وما اختُبر من تجارب، وما فُرض من آليات تقوم، أساساً، على التسلط والاستبداد في الداخل، وعلى التبعية والالتحاق للخارج. إنّ بلداناً عربية عديدة تواجه اليوم مشكلة «الفشل»: اليمن الذي لم يحافظ على وحدته وعلى توحّده، ولم يُقم سلطة مركزية تدير شؤون البلاد وفق مستلزمات تماسكها وأمنها ووحدتها وتنميتها وتطورها الاجتماعي والسياسي. العراق الذي كابد ديكتاتوريات عدة، كما اختبر الأخطر: وهو حالة الغزو والاحتلال وكل ما رافقها من بشاعات وما أعقبها من انقسامات وخسائر وتهديدات تطاول، أول ما تطاول، وحدة هذا البلد الذي يختزن باطنه ثروات أسطورية ويزخر تاريخه بكنوز تعود الى بدايات الحضارات الأولى. وماذا نقول عن السودان والصومال وليبيا... بل ماذا نقول عما يتهدد لبنان ومصر وسوريا والأردن والمملكة العربية السعودية. وماذا نقول عن شعب فلسطين ونكبته المتمادية، كما لم يحصل في كل التاريخ، على أيدي الصهاينة وداعميهم؟!
الاكتفاء بإيراد ما ذكرنا من الدول لا يعني أن سواها بألف خير! يحتّم كل ذلك مراجعة الشعارات والبرامج. إنه يحتم، في المقام الأول، اشتقاق استراتيجية تغيير جديدة تقوم على التزام صارم بعناوين: السيادة والتحرير والاستقلال الوطني والتنمية الشاملة. كذلك على التزام مماثل بمسألة الحقوق والحريات الفردية والعامة. أما العنصر الثالث فهو الكفاح من أجل عدالة اجتماعية تنحو باستمرار باتجاه توفير تكافؤ الفرص، وكذلك تأمين الحاجات الأساسية في حقول: التعليم والصحة والسكن والعمل والأمن...
يتجه البعض، الآن، إلى اقتراح صيغ جغرافية يغلب عليها الموقت أو الانفعال بالسياسات الآنية، لا بالمصالح العامة والحاجات الاستراتيجية. إن تشابه مستوى التخلف في عدد كبير من البلدان يستدعي، في الحقيقة، اعتماد توجهات ذات طابع أممي بالمعنى التقدمي الذي كان يرافق هذه الكلمة في مراحل الكفاح الشامل ضد النهب والاستغلال والغزو.
تمسّ الحاجة، على المستوى العربي، اليوم، لإطلاق ورشة نقاش شاملة بشأن مشروع النهوض المفترض وقواه ومداه وبرامجه وشركائه على امتداد المنطقة والعالم. لقد كشفت الانتفاضات الشبابية ـــ الشعبية العربية، ليس فقط الحاجة الى مثل هذا المشروع، بل الإمكانيات الكبيرة المتوافرة لارتياد مراحله ومحطاته. وبقدر متفاوت في الاتساع والأهمية والاستجابة، تحركت الانتفاضات، من المحيط إلى الخليج، لقد برز في مجرى ذلك أن مقولات الوحدة العربية والعروبة والقومية ليست مقولات مفتعلة، وإن جرى التعبير عنها، غالباً، بشكل قاصر أو انتهازي. هذا فضلاً عن أن في تاريخنا القديم والراهن إنجازات لا شك فيها.
تزداد الحاجة الى مثل هذه الاستراتيجية للرد على خيبات المشاريع السابقة، وعلى مخاطر التفتيت والتشرذم، ولمواجهة «الفشل»، ولاستحقاق مكان كريم تحت الشمس!
* كاتب وسياسي لبناني