إن انتشار محطّات الـ«كيبل» في الثمانينيات من القرن الماضي أوجد حاجة ماسّة لسدّ الفراغ البرامجي في المحطات المتعدّدة والمتنوّعة في أميركا في فترة البثّ الليلي الطويل. لا يمكن إنتاج برامج تلفزيونيّة جديدة لما بعد مُنتصف الليل حيث يقلّ عدد المشاهدين والمُشاهدات، وحيث يكون الساهرون والساهرات يعانون إما من وطأة الخمر أو المخدّرات أو برم الأرق. ساعات طويلة من البثّ ولا ميزانيّات لملء الفراغ. طلعت الرأسماليّة الأميركيّة بنموذج جديد من البرامج «إنفوميرشل» (والكلمة مزيج من كلمتيْن: المعلومة والإعلان، أي المعلومة المُعلنة من قبل جهة تجاريّة) بعد عام 1984، عندما أزالت هيئة الاتصالات الفدراليّة قيوداً كانت موضوعة على البثّ الدعائي عبر التلفزيون (أو «المرناة» على قول عبدالله العلايلي). تفجّرت ظاهرة ما يُسمّى تقنيّاً بـ«تلفزيون التجاوب المُباشر»، والمصطلح يعود لأن هيكل البرنامج يختم بوضع رقم هاتف في أسفل الشاشة كي يتصل المُشاهد برقم تجاري (مجّاني) من أجل أن يدفع ثمن السلعة المُعلنة. وترواح مدة البرنامج بين الدقائق المعدودة وبين الساعة، ويسعى إلى حث المشاهد على الاتصال من أجل أن ينفق ماله ليلاً. وقد انتشرت الظاهرة أيضاً في لبنان والدول العربيّة، حيث يسود المشعوذون والسحرة ويعرضون بضاعة لا رقابة طبية أو علميّة عليها. واحد من هؤلاء يرى في نفسه خليفة للعبقري ابن سينا، ويبيع «شامبو» يصلح لعلاج الصلع والسمنة والتكلّس وأوجاع المفاصل في آن واحد (لكن هناك رقابة على مضمون البرامج في أميركا، أما في لبنان، فتكفي الشراكة مع مُتنفّذ أو زوجة مُتنفّذ من عشّاق أعمال الخير (بالمناسبة، هل لا يزال رامي مخلوف مُتفرّغاً لأعمال الخير؟).لكن في الإعلام هناك فارق كبير ــ أو يُفترض ــ بين البرنامج السياسي وبرامج «تلفزيون التجاوب المُباشر»: الأوّل مُموّل من قبل المحطة، ولا يقبل تمويلاً خارجيّاً بعكس الـ«إنفوميرشيل» التي تكون مموّلة بالكامل من قبل شركة أو فرد تدفع مقابل استخدام دقائق البثّ التلفزيوني. ماذا تقول في برنامج «كلام (بعض) الناس» مثلاً؟ هل هو يدخل في صنف البرنامج السياسي أو الـ«إنفوميرشيل»؟ للجواب عن السؤال، يمكن العودة إلى الحلقة التي استضاف فيها غانم «صديقه» إلياس المرّ.
غاب إلياس المرّ عن السمع منذ انفضاح أمره في وثائق «ويكيليكس». لم يحصل مع أي رجل سياسة ما حصل معه. تربّى في كنف ثري لبناني أتقن فن التقلّب، وانتقل من دور العرّاب للمرحلة الإسرائيليّة إلى دور العرّاب للمرحلة السوريّة برشاقة ما بعدها رشاقة. رجل يغدق دفع الأموال من أجل الحصول على المناصب والنفوذ. طبيب لرستم غزالة في بيروت يروي كيف كان غزالة يتلذّذ في إجبار المرّ على الانتظار على قارعة الطريق أمام منزله في الرملة البيضاء في الصباح الباكر. حقّق المرّ ما أراد، وازدادت حظوته بعد أن وصل عمّ ابنه إلياس (العماد اميل لحود) إلى سدّة الرئاسة، فحقّق له حلمه. إلياس، التحق بإيلي حبيقة، لازمه كالظلّ في أيّام «عزّ» الأخير الميليشاوي، إلى أن وقعت الواقعة وانقلب جعجع على حبيقة، كاد المرّ أن يقع شهيداً لقضيّة والده في شراء المناصب. أوردت الصحافة أخباراً عن اتصال من المرّ، الأب، بالجنرال عون آنذاك، واستجداه أن يتدخّل كي ينقذ ابنه من موت محتم. أنقذ عون للمرّ ابنه.
ويعاني إلياس المرّ من عوارض أولاد الأثرياء. عادة تلجأ الحاشية كما الأهل إلى اقناع الابن البكر بأنه خلاصة العبقريّة والكفاءة. لكن المرّ الأب، يمتاز عن سياسيّي لبنان باستعداده للإنفاق الغزير (تعلّم رفيق الحريري مهنة تمويل الارتزاق السياسي والإعلامي منه) على إعلاميّي لبنان من أجل الحصول على تغطية تبجيليّة. لا تجد من قال كلمة سلبيّة عن ميشال المرّ في الإعلام اللبناني، ربما خارج صفحات هذه الجريدة. وكان المرّ الإبن ــ عليك أن تصدّق ــ رئيساً لتحرير جريدة منذ سنواته العشرين، مع أن اللغة العربيّة تعصى عليه وهو شارف على سنّ الخمسين.
تستطيع أن تقول عن إميل لحّود إنه كان من القلائل الذين لم يقعوا أسرى لرشى رفيق الحريري، وأنه كان رئيس الجمهوريّة الوحيد الذي رفض تلقّي الرشى التقليديّة التي تصل إلى الرؤساء الثلاثة بمجرّد وصولهم إلى مواقعهم من سلالات النفط، وأنه الرئيس اللبناني الوحيد الذي كان ولا يزال معادياً للصهيونيّة وللاحتلال الإسرائيلي (مع أن هوسه بـ«توطين الفلسطينيّين»، كما ورد في كتاب كريم بقرادوني، «صدمة وصمود» يؤدّي به إلى اعتناق فكر بشير الجميّل في رغبته ــ ذات السمة الطائفيّة ــ بطرد الفلسطينيّين من لبنان) لكن لا تغفر له أبداً تعيينه لصهره إلياس المرّ في وزارات نافذة في الدولة.
لا همّ. ابتاع له الوالد مجموعة من الإعلاميّين المتفرّغين لتظهير صورة الابن. وتدرّب على الكلام البطيء من أجل أن يوهم المُستمع أنّه على وشك أن يقول كلاماً خطيراً ومهماً. لا يذكر اللبنانيّين من سنوات المرّ في وزارة الداخليّة والدفاع إلا حادثتيْن: الأولى عندما تصدّى ببطولة باهرة لخطر عبدة الشيطان. وهو كافحهم بقوّة فيما كان لبنان يرزح تحت احتلال العدوّ الإسرائيلي. والثانية عندما ظهر في بداية حرب تموز وأعلن أن الجيش اللبناني سيعلّم إسرائيل درساً لن تنساه، ليعود ويختفي طيلة أيّام الحرب.
ثرثر المرّ كثيراً في أحاديثه في «ويكيليكس» وفي «الحقيقة ليكس». في «ويكيليكس» أظهر المرّ نفسه طائفيّاً يكنّ عداء لمعظم أبناء وبنات الطوائف الإسلاميّة. أراد أن يبهر الأميركي، فدمّر صورته إلى الأبد (طبعاً، في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، لا شيء محسوماً. مثلما زار وفد من حزب الله وليد جنبلاط وقبّله على وجنتيه بعد دوره الخبيث والمتآمر في حرب تمّوز، تستطيع أن ترى وفداً من حزب الله وهو يزور المرّ ويقبّله على وجنتيه). أما في «حقيقة ليكس»، فقد ظهر كما هو: صبي ثري يزهو بمنجزات لا يعلم انها من مقتنيات والده. شُبّه للمرّ انه هو الذي ابتاع لوالده المناصب، لا العكس. لكن تسريب «ويكيليكس» أوقعه في إحراج يماثل ذلك «الإحراج» الذي يقع فيه من ضُبط متلبّساً بأمور تعاند مصالح شعبه.
واضح بصورة جلية أن أميركا تدين له بالكثير. قل ما تشاء في أميركا، لكنها (في الغالب، مع استثناءات غير قليلة تتعلّق بالمصلحة الأميركيّة العليا) وفيّة لوكلائها حول العالم. من يشاهد مداولات الأمم المتحدة على مرّ السنوات الماضية يلاحظ أن المُترجمين والمترجمات إلى العربيّة يتحدّثون بلهجة عراقيّة لأن هؤلاء عملوا كمترجمين في صفوف الجيش الأميركي المُحتل في العراق، وأرادت أميركا أن تكافئهم على أفعالهم فأتت بهم مترجمين في الأمم المتحدة ــ المنظمة المطواعة في يدها). وعندما زار جيفري فيلتمان لبنان في آخر زياره له كمسؤول عن الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، تقصّد أن يزور إلياس المرّ وحده في منزله وذلك من باب الوفاء، بالنيابة عن أميركا. وقد سعى فيلتمان (الذي كافأ طارق متري بمنصب لا قيمة له في ليبيا منتدباً من قبل الأمم المتحدة، من باب ردّ الجميل أيضاً) للعثور على منصب يقبل به المرّ. وقد سرّب المرّ قبل أشهر إلى باب الأسرار في واحدة من الصحف اللبنانيّة أن مرجعاً حكوميّاً يدرس عرضاً من الأمم المتحدة لتولّي منصب لم يشغره لبناني من قبل. كان المرّ يحضّر الرأي العام. وتم إعلان المنصب من أسابيع ووقعت الواقعة.
إبن بتغرين سيصبح «رئيساً» لـ«صندوق الإنتربول لعالم أكثر أماناً». رئيساً لصندوق. يعني المرّ رئيس صوري لصندوق لم تكتمل معالمه بعد. انفجرت السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، والقليل من الصحف غير الخاضعة. ارتبك فريق المرّ الإعلامي، وعبثاً حاول أن يقبض الإعلام المنصب الجديد على محمل الجدّ. اتصل مستشار المرّ الإعلامي بوسائل الإعلام وأكّد لهم أن المرّ سيصبح رئيساً للإنتربول (والمنظمة بالمناسبة ليست أكثر من رابطة بين الدول للتنسيق بين أجهزة الشرطة لملاحقة المجرمين، ليس أكثر. وهي تعمل بميزانيّة لا تزيد ــ كما احتسب الرفيق عامر محسن ــ على ضعف ميزانيّة المدينة التي أقيم فيها في كاليفورنيا. أما صندوق الإنتربول لعالم أكثر ألواناً فلا ميزانيّة مرصودة له بعد). نسي فريق المرّ الإعلامي أننا نعيش في عصر الإنترنت. واسم إنشاء الصندوق كان على موقع «الإنتربول» الرسمي، ولم تكترث الصحافة العالميّة لخبر الإعلان عن الصندوق. وقع المرّ في إحراج من ضُبط متلبّساً. طلب من مارسيل غانم أن ينقذ الأمر.
اللافت أن منظمة الـ«إنتربول» تعاملت مع الأمر على الطريقة اللبنانية. فجأة أزيل عن موقع المنظمة الالكتروني اسم «الصندوق» وتحوّل بين ليلة وضحاها إلى «مؤسّسة» من دون تغيير الصلاحية. والصندوق لا يحتلّ أياً من أخبار العالم وأخبار المنظمة نفسها. لكن المرّ نسي أن موقع المنظمة يحمل اسم الأمين العام ورئيسة الإنتربول. الحكومة الأميركيّة أرادت أن تعطيه جائزة ترضية شرفيّة لا قيمة لها. ومستشاره جورج سولاج أخبر الإعلاميّين بعد انتشار السخرية أن المرّ هو سيكون رئيس المنظمة.
لكن ماذا عن مارسيل غانم؟ كيف تصنّف الرجل؟ هل يدخل برنامجه في خانة الإعلام أم في اي خانة؟ غضب رامي الأمين ــ وعن حق ــ على إعلامي لبناني، اعترف بأنه تلقّى هديّة سيّارة وشقّة من أثرياء عرضهم على برنامجه. لكن هناك مستويات ومستويات من الفساد في الإعلام اللبناني. إن حلقة غانم عن المرّ (مثل حلقته معه في قضيّة عبدة الشيطان أو في قصّة طائرات الميغ) هي برامج إعلانيّة محضة تفتقد المهنيّة الإعلاميّة. لكن ما هي علاقة غانم بالأثرياء الذين يستضيفهم؟ لماذا يتسضيف بعض المشعوذين الذين يزعمون أنهم «اكتشفوا» دواء شافياً للسرطان؟ هل يتوجّب على مارسيل غانم ارتداء حلّة مثل المتبارين في سباق السيّارات العالميّة حيث تحتل الإعلانات مساحات متجاورة من ملابسهم؟
ثم ما هي القيمة الإعلاميّة للبرنامج الدعائي (الـ«إنفوميرشيل») الطويل والمملّ خصوصاً أن غانم تعامل مع الضيف بالضبط كما يتعاملون مع الضيوف في برامج الـ«إنفوميرشيل». هل هناك مرّة واحدة ساءل فيها غانم ضيفه في الساعات الطوال؟ والغرض من البرنامج كان واضحاً: إن الكلام المُفرط والمصطنع في مديح المرّ من قبل نوبل كان مؤشّراً إلى أنه جاء بمهمّة لإرضاء غرور المرّ ومحاولة المشاركة في الخداع الذي لجأت إليه عائلة المرّ. لكن حجم الصندوق الجديد تكشّف في آخر الحلقة فقط عندما اعترف المرّ (من دون أن يدري) بأن منصبه شرفي وأنه لا يحتاج منه حتى للمداومة. قال إنه سيبقى في لبنان أثناء رئاسته للصندوق. وتلافياً للإحراج وللإمعان في الزهو، أخرج المرّ على الهواء من جيبه جواز سفره الخاص بمنظمة الإنتربول، كان هذا قبل (أو بعد) أن حدّثنا المرّ عن الـ«ماكنة». والمرّ، لمزيد من الإبهار، طفق يردّد أنّه انتخب من نحو 190 دولة: ممثّلو 190 دولة في العالم يعرفون بتغرين ويعرفون من هو أبو إلياس وابنه (غير) النجيب إلياس. لكن نسي إلياس أن موقع الـ«إنتربول» لا يترك مجالاً للشك: الهيئة التنفيذيّة هي التي عيّنته بأمر أميركي: لا انتخاب ولا من يحزنون.
وكان إخراج الحلقة مُضحكاً أكثر منه مُبهراً. ما معنى النزول من المصعد؟ ولم ينس غانم أن يستهلّ الحلقة بتذكيرنا أن هذه أول مرّة يُصوّر فيها برنامج من مبنى الـ«إنتربول». السبب يا مارسيل أن أحداً لم يكترث من قبل لتصوير برنامج سياسي في مبنى الـ«إنتربول» أو مركز للشرطة. كأن تدخل كاميرات «كلام (بعض) الناس» لتصوير حلقة خاصّة في مخفر حبيش، مثلاً، أو في حمّام عمومي، وأن يقول لنا مارسيل مزهواً: هذه أوّل مرّة يُصوّر فيها برنامج سياسي في مخفر أو في حمّام عمومي... تشرّفنا. ولم يكن هناك من مادة للحديث إلا المراوغة والرياء. والمرّ حضّر مع فكرة واحدة أراد منها أن يقنعنا أنه سيكون مولجاً بمكافحة الإرهاب حول العالم (وهذا ليس حتى من صلاحيّات الرئيسة الحقيقيّة للإنتربول فما بالك برئيس الصندوق)؟ ما هي فكرة المرّ؟ قال إنه سيقترح ابتكار «ماكنة» لحمل معلومات شخصيّة عن كل سكان الأرض. أوّلاً، من لاحظ أن هذه الكلمة (الـ«ماكنة») ــ التي لا يستعملها إلا من كان فوق سن التسعين في لبنان ــ لا تعني شيئاً في عصر التكنولوجيا؟ هل لا يزال المرّ العلمي يستعمل إلـ«ترانزيستور» أيضاً؟ ثانياً، ألا يعلم رئيس الصندوق الذي كان يجود بمعلومات عن الشعب اللبناني لمن يطلبها في الخارج (على الأقل كان ذلك واضحاً في «ويكيليكس») أن الشعوب تحترم خصوصيّتها وأن فكرة «الماكنة» لن تتعدّى حدود بتغرين؟
قد يعتب البعض على التركيز على المرّ. صحيح، ليس هو وحده من ورث منصباً من والده، وليس وحده من عُيّن لأنه صهر لمسؤول. لكن هناك خصوصيّات ومزايا في حالة المرّ: الرجل لا يأبه لقول الحقيقة. لا تعني له شيئاً البتّة. الرجل الذي وعد الشعب اللبناني بطائرات «ميغ» كان يقول (حسب وثائق ويكيليكس) للحكومة الأميركيّة إنّه سيكافح ضد الحصول عليها.
قد تكون حالة المرّ عويصة لدرجة أنه صدّق أنه سيطير بصندوق الإنتربول حول العالم، مبعوثاً كونيّاً. بمعنى آخر، قد تكون حالة المرّ شبيهة بحالة رامي عليّق وثورته. وإذا كان غانم يستضيف مشعوذين يبيعون عقاقير ضد السرطان، فلماذا لا يستضيف زين الأتات لعلّ مستحضراً أو شامبو من صنعه يشفي من أمراض جنون العظمة المستعصية. واستضافة زين الأتات على «كلام (بعض) الناس» تليق ببرنامج هو محض «إنفوميرشيل».
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)