في أول اتصال معلن عنه بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ونظيره السوري بشار الأسد، أعلن الكرملن أن بوتن أعرب عن قلقه إزاء وجود هجمة إرهابية منهجية ضد المسيحيين في سوريا. وهذه هي المرة الأولى التي تصف فيها موسكو الأعمال الإرهابية ضد مسيحيي سوريا بأنها منهجية؛ فمن تتبع الأحداث الأليمة في البلد الشقيق، لوحظ أنه بانتقال ملف العدوان على سوريا من قطر إلى السعودية، تحولت عمليات القتل والتهجير والاضطهاد، المتفرقة ولكن التي كانت تتم دائماً ضد المسيحيين والعلويين والشيعة والاسماعيليين، منذ أواسط 2011، إلى خطة مصممة تهدف إلى شن حرب إبادة ضد مسيحيي سوربا، ودفعهم إلى الهجرة خارج البلاد. وتعود هذه الخطة إلى مدير المخابرات السعودية بندر بن سلطان، وتنفّذها مجموعات تابعة، أهمها مجموعات الإرهابي زهران علّوش، المرتبط بالرياض، ورئيس ما يسمى «جيش الإسلام»، المنظمة التي تقدمها السعودية باعتبارها «معتدلة»! فما هي دوافع تلك الخطة؟
أولاً، التحشيد الطائفي واستثارة الغرائز، وتصوير الأعمال الإرهابية الموجهة، خصوصاً ضد مدينة دمشق، كأنها تستهدف «الكفّار»، في إطار فرضية تظن بأن من الممكن الحصول على تأييد بعض القطاعات لتلك الأعمال الوحشية.
ثانياً، الانتقام من الكتلة المسيحية السورية التي رفضت الانخراط في المشروع الغربي الخليجي التركي ضد الدولة الوطنية السورية.
ثالثاً، اغتنام فرصة الأوقات الأخيرة، الأكثر دموية من الحرب السورية، لتوجيه ضربات موجعة للمسيحيين تدفعهم إلى الهجرة على المديين، القريب والمتوسط، ما يحقق الأهداف الوهابية والصهيونية معاً، في إخلاء سوريا وبلاد الشام ــ بعد العراق ــ من المسيحيين، الأمر الذي يحقق الآتي: (1) إضعاف القوى الاجتماعية المؤيدة للعلمانية، (2) إضعاف قسم مهم من القواعد الاجتماعية للحركات القومية واليسارية، (3) إشعال الصراع الطائفي ــ إضافة إلى الصراع المذهبي ــ في لبنان لضرب حليفي النظام السوري في هذا البلد، حزب الله والتيار الوطني الحر، (4) منح فكرة الدولة اليهودية شرعية واقعية؛ فحين تغدو المنطقة بلا مسيحيين، أو أقله بلا مسيحيين فاعلين، وينقسم المسلمون إلى سنّة وشيعة، وتنعدم الأسس القومية والوطنية للكيانات، يحصل مشروع الدولة اليهودية، العنصري غير الواقعي تاريخياً، على تسويغ واقعي.
في الواقع، إن المعركة الرئيسة الآن هي بين التحالف السعودي الوهابي ــ الإسرائيلي الصهيوني من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى. وفي هذا الصراع، يغدو التطهير الديني لمسيحيي المشرق «نتيجة عرضية» للصراع. هكذا هو بالنسبة إلى المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وممثلهم الحالي جون ماكين، كما بالنسبة إلى فرنسا، وكذلك بالنسبة إلى سمير جعجع وحزبه وأوساط مسيحيي 14 آذار. في نهاية شهر آب الفائت، قامت المجموعات التكفيرية الإرهابية، في إطار الخطة السعودية المشار إليها آنفاً، باقتحام بلدة معلولا المسيحية التاريخية، ووضعت أهلها بين خيارات اعتناق الاسلام أو الموت أو دفع الجزية. وهو ما يُعدّ انقلاباً كاملاً على أسس الوطنية السورية، وتهديداً عميقاً لمستقبل سوريا. بعدها، هاجم الإرهابيون بلدة مسيحية أخرى هي «صدد». وقد فشلت الجماعات الإرهابية في الحفاظ على سيطرتها على هاتين المدينتين، لكنها خلّفت وراءها ذلك الشعور الممض بانعدام الأمان والتفكير في الهجرة. ومع التقدم السريع الذي شرع الجيش السوري في تحقيقه، اتّبع تنظيم زهران علوش الوهابي تكتيكاً جديداً يتمثل في قصف الأحياء والمدارس المسيحية في دمشق بالهاونات والصواريخ، ما أدى، في آخر مجزرة، إلى استشهاد وجرح 42 طفلاً وطفلة في مدرسة يوحنا الدمشقي في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، ثم استهدفت قذائف أخرى مدرسة الرسالة في باب شرقي في دمشق، ما أدى إلى استشهاد خمسة أطفال وإصابة 27 آخرين. وتابعت الجماعات الإرهابية، كذلك، عمليات القصف وتفجير المفخخات في بلدتي دوما وجرمانا. والاعتداءات الموجهة نحو تجمعات مسيحية في دمشق مستمرة، وربما ستتصاعد في ربع الساعة الأخير من الحرب. جرى كل ذلك، ويجري مثله، تحت راية إسلامية. وبما أن الإرهابيين وجدوا ويجدون، هنا وهناك، عناصر مدنية محلية تؤيد أفعالهم ضد المسيحيين، كما حدث في معلولا نفسها، فمن المتوقع أن يتخثّر ذلك الشعور بالتهديد التاريخي في الوجدان الجمعي المسيحي، ويدفع، عاجلاً أو آجلاً، بالعائلات المسيحية إلى التخطيط لمغادرة البلد والمشرق كله. هنا، يظهر الاستهداف الوحشي للأطفال في المدارس كتكتيك لدفع الآباء والأمهات لاتخاذ القرار بالهجرة.
لا بد من ملاحظة أن مخاوف وجودية كتلك مرتبطة بالهلع على حياة الأبناء ومستقبلهم وبالمصاعب الاقتصادية والسياسية، تنتقل من سوريا إلى البلدان المشرقية. وقد أصبح من غير الممكن تجاهل ما جناه الإرهابيون من نجاح في نسف ما تبقى من اطمئنان لدى الجماعة المسيحية المشرقية، ما سيكون له آثار مريعة، حتى لو انتهت الحرب قريباً؛ سيتعاظم، أكثر فأكثر، الاتجاه نحو سيطرة سيكولوجية الانكفاء والهجرة لدى تلك الجماعة التي يتلهّف الغرب على تجديد شبابه بدمائها، بينما يُحرَم المشرق من فعالية واحدة من أكثر فئاته السكانية، حيوية، في المجالات الاقتصادية والثقافية. تحولت قضية المسيحية المشرقية، في الحرب السورية، إلى قضية سياسية، إقليمية ودولية، مطروحة بقوة، ما يفرض علينا مقاربتها وتحليلها وتظهير عناصرها، في واقعها الفعلي، لكن انطلاقاً من منظور قومي لا طائفي؛ فمن المؤسف أن جميع الفعاليات والنقاشات الجارية حتى الآن بصدد هذه القضية، هي فعاليات ونقاشات طائفية أو تتعامل مع المسيحيين المشرقيين كطائفة. ويصب ذلك، في الأخير، في المشروع الوهابي الصهيوني. لماذا نخصّ المسيحيين المشرقيين دون سواهم من الجماعات الاجتماعية الثقافية، الدينية والاتنية، التي تعرضت، وتتعرض، بالفعل، لهجمات التكفيريين الإرهابيين، كالشيعة والعلويين والاسماعيليين والدروز والأكراد وحتى السنّة المعتدلين الرافضين للنموذج الوهابي؟
في الإجابة عن هذا السؤال، يمكننا أن نلاحظ ما يأتي: (1) الأحجام الديموغرافية؛ فالشيعة، على مستوى المشرق، ليسوا أقلية عددية، وقد ظهرت الحرب السورية نوعاً من التشيع السياسي ضمّ العلويين والاسماعيليين وسواهم من المدارس غير السنيّة، وهؤلاء جميعاً يشكلون حوالى 40 في المئة من مواطني المشرق، وحين نضيف إلى هذه القوة الديموغرافية، العامل الإيراني، سوف نرى أن العداء التكفيري للشيعة بعامة، على بشاعته وضرره، لا يمثّل تهديداً وجودياً لهذه الجماعة. (2) تقاليد الحماية الذاتية المبنية على تضامن الجماعة المتراصة، في الإقامة والولاء السياسي الداخلي، المنظّمة المقاتلة كالدروز. (3) الاطمئنان إلى الانتماء الأغلبي كما هي حال السنّة المعتدلين المتمدنين. (4) وبالنسبة إلى الأكراد، فإن مشروعهم القومي المتّسم بتضامن داخلي كلي ومنظومة قتالية واعتراف دولي، يجعلهم مبادرين، كما رأينا في حال أكراد سوريا الذين صدّوا بأنفسهم اعتداءات التكفيريين الإرهابيين، وذهبواً، فوراً، إلى تنظيم حكم محلي.
الأمر يختلف بالنسبة إلى المسيحيين المشرقيين؛ فهم يعانون، تاريخياً، من تناقص مستمر في حجمهم الديموغرافي، سواء بسبب الهجرة أو بسبب تنظيم الإنجاب. وإذا كانت هناك تجمعات مسيحية في هذه المنطقة أو تلك من بلدان المشرق، فإن مسيحيي المشرق، ومعظمهم متمدين، موزعون على كافة المناطق المشرقية بهذه النسبة أو تلك، ما يحرمهم من ميزة الكثافة. ومن الناحية السياسية، يتّسم المسيحيون المشارقة بالميول العلمانية، والتوزّع على التيارات السياسية المتصارعة. وما هو إيجابي، عندهم، من انعدام وجود تضامن سياسي طائفي داخلي في ما بينهم، وانغماسهم، كاتجاه عام، في التقاليد المدنية غير المقاتلة، يتحول في مجابهة حرب الاستئصال التكفيرية الإرهابية إلى نقطة ضعف. لكن الاختلاف الأساسي بين المسيحيين المشارقة وسواهم من جماعات المشرق، إنما يكمن في المستوى السوسيو ثقافي:
أولاً، المسيحية المشرقية لا تشير إلى عقيدة إيمانية؛ فالمسيحيون المشارقة، على العموم، علمانيون ــ بغض النظر عما إذا كانوا واعين أو غير واعين لعلمانيتهم الواقعية ــ ولا يعد المرء، في المشرق، مسيحياً، بسبب إيمانه أو ارتباطه بالعقائد المسيحية أو دفاعه عنها أو ارتباطه بالكنيسة إلخ، وإنما بسبب انتمائه إلى جماعة اجتماعية ثقافية ذات خصوصية ظاهرة؛ فسواء تحول المسيحي المشرقي إلى العلمانية الصريحة أو الإلحاد العلمي الصريح، وسواء أصبح شيوعياً أو بعثياً أو قومياً سورياً، يظل، رغم ذلك، مسيحياً، بل إن اعتناق المسيحي للإسلام قد يفيده لأغراض الزواج والطلاق أو حل مشكلات الإرث أو سوى ذلك، ولكنه لا يفيده من الناحية السياسية.
من هنا، يتضح ــ مع الاحترام لرجال الكنيسة، وخصوصاً الوطنيين منهم ــ أنهم لا يعبّرون، موضوعياً، عن الجماعة المسيحية المشرقية. ولا يقتصر الأمر على غير المؤمنين والعلمانيين والشيوعيين والقوميين والوطنيين والعشائريين إلخ، من المسيحيين، بل يشمل، أيضاً، التيار العام من الجمهور المسيحي المشرقي الذي يتوارث، في وجدانه الجمعي وبغض النظر عن اللوائح الإيمانية الكنسية، الميراث الثقافي الروحي للقديس بولس الرسول، مؤسس المسيحية المشرقية، المتحررة كلياً من أي تأثيرات دينية يهودية، والقائمة على نبذ الشريعة والتشريع أو إخضاع الإنسان لأي أوامر أو نواه، في مقابل التأكيد على إرادته الحرة ودافعيته الأخلاقية الذاتية: «أما الآن (أي بعد المسيح)، فقد حُللنا من الشريعة، وأصبحنا نعمل بنظام الروح الجديد» (رسالة إلى أهل روما، 7: 6ـ7).
الكنائس المسيحية جميعها، بما فيها الكنائس المشرقية، لا تسير على إرث بولس الرسول الذي أحدث قطيعة معرفية وثقافية وأخلاقية مع اليهودية، بتوراتها ووصاياها وقيودها وأوامرها ونواهيها. المسيحية الكنسية تستلهم، كالمذاهب الإسلامية، إلى هذا الحد أو ذاك، روح الإبراهيمية، وتتشارك، إذاً، مع اليهودية في السعي إلى تقييد الإنسان في إطار تشريعي. وإنني لأجرؤ على القول إن المسيحية المشرقية المعيشة ليست إبراهيمية؛ على العكس، إنها تنهج تقليداً مضاداً للإبراهيمية؛ فالإنسان، هنا، ذو إرادة حرة والتزام ذاتي ــ غير مقيّد بنص أو بشرع أو منظومة وصايا أو تحليل أو تحريم ــ بمعايير أخلاقية تنبع من ضميره الشخصي والاجتماعي.
ومن الناحية الاجتماعية التاريخية، فإن هذا التقليد هو مكون أساس في الثقافة المشرقية. فهو يشمل جمهور المسلمين غير الملتزمين طائفياً أيضاً. وعلى هذه الأرضية، يجهد رجال الدين المسيحي، لكن خصوصاً الجماعات التبشيرية، في اجتذاب المسيحي المشرقي إلى الإيمان «الحقيقي»، أي وفق التقليد الإبراهيمي. وتنهش رجال الدين والمبشرين المسيحيين الغيرة للنجاحات التي يحققها نظراؤهم المسلمون في مجال اجتذاب المسلم المشرقي من المشرقية إلى الإبراهيمية.
ثانياً، المسيحية، في بلادنا، مشرقية بالضرورة، أي تستلهم تراث المشرق المتراكم عبر العصور، وتتطلع إلى المشرق كمدى واحد. توجد، بالطبع، نزعات طائفية لدى مسيحيي لبنان، وعروبية لدى مسيحيي سوريا والأردن، ووطنية محلية لدى مسيحيي فلسطين، وإتنية لدى مسيحيي العراق، إلا أن الجماعات المسيحية المحلية هذه تكتشف، في مواجهة الأزمات السياسية لأي منها، أنها تشكّل جماعة واحدة. وهو ما يفرض، بالتالي، انفكاكاً أكيداً عن الطائفية؛ فالطائفية مشروطة ببنية سياسية كيانية، بينما تتطلب المشرقية، في تجاوزها للحدود القطرية، نظرة وحدوية علمانية؛ فالقائل بوحدة المسيحيين المشارقة ملزوز للقول بوحدة المشرق بكل مكوناته.
المسيحية المشرقية، إذاً، ليست عقيدة إيمانية وليست تكويناً طائفياً.
تنشأ عن ذلك مشكلة واقعية؛ فإذا كانت الكنيسة لا تمثل، موضوعياً، الجماعة المسيحية المشرقية، وإذا كانت هذه الجماعة ذات توجهات عامة، علمانية، وليست، في الوقت نفسه، طائفة، فمن، إذاً، يمثّلها؟
أترك هذا السؤال للنقاش، ولكنني أشير إلى مفارقة أخرى، هذه المرة، تاريخية. وقد وثقها المستشرق برنارد لويس. فحين صدر القرار العثماني، عام 1856، بإلغاء نظام الجزية، وإعلان المساواة بين مواطني الدولة، كان هناك معترضون كثر، من بينهم بالطبع الرجعيون السلفيون المتعصبون، لكن كان من بينهم أيضاً... رجال الكنيسة والوجهاء والأثرياء؛ لقد خسر هؤلاء قيودهم، لكنهم خسروا أيضاً امتيازاتهم لدى السلطات في تمثيل «الطوائف». هكذا نستطيع أن نفهم ديناميكية التمثيل الطائفي لدى قسم من رجال الدين المسيحي كما لدى الوجهاء والأثرياء والمنظمات اليمينية مثل حزب سمير جعجع في لبنان.
قدر الجماعة المسيحية المشرقية أن تتمثل وطنياً وقومياً، ووسائلها الانخراط في الأحزاب والتيارات الجامعة، والعمل الصريح من أجل نشر العلمانية، وسيادة الدولة الوطنية القومية التي يتشارك المواطنون في عضويتها بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس.
المشرق، كما أوضحنا مراراً، مجال جيوسياسي واحد كما أثبتت تجربة الحرب السورية، لكنه أيضاً مجال ثقافي واحد يتصف بالتكوين التراكمي للحضارات والثقافات والأديان الوثنية والمسيحية والاسلامية واللغات، وأهمها الآرامية والعربية. وقبل ظهور الاسلام بكثير، كان انتشار المسيحية هو الذي أدى إلى تعريب قسم أساسي من بلاد الشام والعراق، وخصوصاً في دولتي الغساسنة والمناذرة، وسواها من «الدول» العربية المسيحية في المشرق، ما منح المسيحي العربي تراثاً للفخر. قال الزبرقان بن بدر التميمي، مفاخراً، بين يدي محمد (ص):
نحنُ الكرامُ ولا حيٌ يعادلنا
منّا الملوكُ وفينا تُنصَبُ البيَعُ
والملوك كناية عن الدول، والبيع هي الكنائس.
ثم جاء الإسلام لاستكمال ثورة التعريب. وفي تاريخ المدّ الاسلامي لم يكن ممكناً، من ناحية واقعية، تخيير التكوينات السياسية المحلية، والاتحادات القبلية المسيحية، بين الإسلام أو القتل أو الجزية، وموقف «تغلب» من هذه القضية واضح، فهي رفضت تغيير دينها وقبلت تحدي القتال، ولكنها عرضت، في المقابل، الشراكة القومية في فتح العراق.
إن التكوين المسيحي للمشرق والمشرقية أساسي وعضوي، فلا مشرقية من دون المسيحية. وقد ظل المشرق مسيحياً في أغلبيته حتى الحروب الصليبية؛ ولقد كانت الحملات الصليبية معادية للمسيحية المشرقية بقدر عدائها للإسلام، وهي استولدت السلفية والتعصب وفتحت الباب أمام فترة طويلة من سلطة أقوام غير عربية ولا تتقيد بالتقاليد العربية في المشرق، من الأيوبيين إلى المماليك إلى الأتراك، ومع ذلك، فإن تكوين المشرق التعددي بقي قائماً، ولذا، فإن الوجود المسيحي وإن تضاءل عددياً في المشرق، فإن المسيحية المشرقية ظلّت ماثلة في الإسلام المشرقي التاريخي الذي يغلّب الضمير على الشرع، والاندماج التعددي على التنابذ الطائفي والمذهبي، وفي النزعات الصوفية والروح الحسينية، وظل، كتقليد اجتماعي ثقافي، ضرورة تكوينية نوعية لا يمكن شطبها إلا بشطب المشرقية والعروبة.
وأريد أن أوضّح، هنا، ما تداولته أوساط سلفية من فتاوى مكتوبة ومعلَن عنها في مؤتمرات ولقاءات، تُخرج المسيحيين المشارقة من «الذمة»، وتعتبرهم هدفاً للقتل بسبب وقوفهم إلى جانب النظام السوري في مواجهة الحرب الغربية الصهيوهابية، التي مُنحَتْ ثوب حرب السنّة والجماعة.
سنلاحظ، أولاً، أن المسيحيين السوريين لم يتصرفوا، إزاء الأزمة السورية، كطائفة، بل كمنخرطين في تيارات سياسية، بل إن بعضهم ذهب مع الإخوان المسلمين والوهابية حتى النهاية، كجورج صبرا وميشيل كيلو، وهما ليسا مجرد سياسيين معزولين، بل لهما أنصار ــ على قلتهم ــ كما بدا من قيام كيلو بتأسيس «هيئة المسيحيين السوريين» المعارضة، التابعة للسعودية.
إلا أننا، ثانياً، لا ننكر أن الاتجاه العام بين المسيحيين السوريين والمشارقة تحوّل، مع تحول الحراك الداخلي إلى حرب شاملة ضد الدولة الوطنية السورية، إلى مناصرة الأخيرة، والدفاع عنها. وذلك لسبب بسيط وعميق في آن واحد، وهو أن الدولة الوطنية السورية، بغض النظر عما تحتاج إليه من إصلاح وتجديد... إلخ، هي، بالنسبة إلى الوجدان المسيحي العام، الممثّل السياسي للمسيحيين السوريين، الذين لا يتحقق وجودهم إلا بتلك الدولة.
وفي الواقع، فإن الجمهورية العربية السورية تشكل، منذ نشأتها، دولة وطنية علمانية؛ فهي نشأت في سياق معاد للإمبريالية والصهيونية والرجعية والتجزئة الإقليمية والتفتت الطائفي والمذهبي والإتني، وسعت، سعياً عضوياً، إلى التطابق مع مكوناتها التعددية المنخرطة في وحدة الوطن. وبالنظر إلى هذه التعددية بالذات، فقد كانت الايديولوجيا القومية لاحماً أساسياً للدولة السورية؛ فالخيار العلماني القومي لم يفرضه حزب على سوريا، بل فرضه واقعها الاجتماعي الثقافي السياسي التكويني. وبخلاف أي من الدول اللاعلمانية أو نصف العلمانية في العالم العربي، فإن الانتماء إلى دين أو عرق لا يشكل سقفاً سياسياً لأي مواطن؛ فأول زعيم وطني لسوريا كلها في عهد الانتداب كان سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة الوطنية السورية في العشرينيات، وأول رئيس وزراء سوري في عهد الاستقلال كان مسيحياً وهو الزعيم الوطني فارس الخوري، ومؤسس الحزب الحاكم هو أيضاً مسيحي، ميشيل عفلق. وزعيم الحزب الشيوعي التاريخي في سوريا هو مسلم سنّي كردي مستعرب، وهو خالد بكداش، ومؤسس وزعيم القومية السورية، الحزب المخضرم في الجمهورية، هو أنطون سعادة ــ وهو مسيحي لبناني ــ وباني سوريا الحديثة كقوة إقليمية فاعلة هو الرئيس حافظ الأسد، وهو من أسرة علوية. وحتى الآن، رغم الضغوط الطائفية التي فرضت نوعاً من التوازنات في تولي المناصب الحكومية، لا يزال التقليد العلماني مؤثراً في الجيش العربي السوري والمؤسسات الأمنية السورية؛ ففيها لا يحدّ الانتماء الديني أو العرقي من تولي المناصب؛ فقد تولى قيادة الجيش العربي السوري مسلم سني تركماني هو حسن تركماني ومسيحي هو داوود راجحة.
عانى العديد من السوريين بالطبع من التمييز والاستبداد لأسباب سياسية، ولكن لم يعان أحد في الجمهورية العربية السورية لأسباب دينية أو فكرية أو عقائدية. والبلد العربي الوحيد الذي تنشر فيه كتب لادينية ولا يتعرض فيه الملحد لأي أذى هو سوريا.
وبعد،
فماذا يفعل المسيحي المشرقي إزاء العدوان والتهديد الحاليين؟
هل يهاجر؟ إن الهجرة غير الاختيارية، إضافة إلى كونها تشريداً وإهانة، لا تحل المشكلة الاساسية، مشكلة الهوية للمسيحي المشرقي. فهو سينظر إليه في المغتربات الغربية كمشرقي وعربي لا كمسيحي. وبذلك لن يتغير وضعه الأقلوي.
هل ينكفئ طائفياً؟
إن ذلك غير ممكن، لأن الطائفية تنسف المسيحية المشرقية وتراثها، وتحول المسيحيين المشارقة من مكون وطني قومي أساسي إلى طائفة يتحدث باسمها رجال الدين.
هل ينكفئ عن الصراع؟ سوف يخسر إذاً دوره.
لا مناص أمام المسيحي المشرقي سوى الانخراط في الصراع، لا من موقع طائفي، بل من موقع تقدمي وطني قومي، تنويري، كما كانت الحال منذ أواسط القرن التاسع عشر، لا مناص من العودة إلى الانخراط الكثيف في الأحزاب والحركة الوطنية، كما كانت الحال حتى الخمسينيات والستينيات، والتمسك بالحق في دولة وطنية مدنية علمانية، والمساهمة في النضال من أجل قيام الاتحاد المشرقي، حيث يتحول المسيحيون من «أقليات» عددية متناثرة بين كيانات المشرق إلى كتلة اجتماعية رئيسة، كماً ونوعاً، في اتحاد مشرقي هو مثابة الخلاص للمسيحية المشرقية، وجودياً وسياسياً وثقافياً.
(نص محاضرة ألقيت
في «منتدى الفحيص الثقافي» في مدينة الفحيص، الأردن، مساء الاثنين 18 تشرين الثاني 2013)