منذ بداية ما كان يُطلق عليه الربيع العربيّ، حاولت فضائية «الجزيرة» القطريّة استقطاب المشاهدين الناطقين بالضاد من جميع أصقاع العالم ونجحت، وتحولّت خلال أشهر إلى «سبونسر» (راعي أو وصيّ) الـ«ثورات» في تونس، مصر وليبيا، وباتت لاعباً مركزياً ومهماً ومفصلياً في مواكبة الأحداث على مدار الساعة، الأمر الذي رفع من شعبيتها ونسبة مشاهديها، ذلك أنّ المُشاهد العربيّ المتعطّش للرأي الآخر وجد في أخبارها وتقاريرها ضالّته، وأصبحت بالنسبة إليه مرجعية صادقة ومؤثرة جداً. ولكنّ برنامج «كشف المستور» الذي كانت تبثه الفضائية عينها، من الدوحة، وهي عاصمة أكثر الدول ديكتاتوريّةً في العالم، الذي كان ذُخراً وبات عبئاً، انقلب على نفسه، وأمسى بمثابة كيدٍ مرتدٍ على الفضائية. إذ إنّه مع اندلاع الأحداث في ليبيا، بدأ دور «الجزيرة» المشبوه ينكشف شيئاً فشيئاً. وكانت تقاريرها تتجاهل عن سبق الإصرار والترّصد أنّ طائرات حلف شمالي الأطلسيّ (الناتو) تقوم بقتل مئات آلاف المدنيين الليبيين، بعد حصول هذا الحلف العدوانيّ على غطاء أو تفويض من جامعة الدول العربيّة، أو جامعة النعاج العربيّة، التي سيطرت عليها إمارة قطر. أمّا بداية انهيار هذه الإمبراطورية الإعلاميّة، فقد سُجّلت مع بدء المؤامرة الكونيّة ضدّ سوريا المقاومة والممانعة، حيث أدّت هذه الفضائيّة، ولا تزال، دوراً مشبوهاً في شيطنة الدولة السوريّة، ونظام الحكم، وتدعم بكلّ ما أوتيت من قوة ما يسّمى الثورة السوريّة السلميّة. ووصل الصلف والوقاحة بها إلى حد لا يُطاق، فالجماعات التكفيريّة الإجراميّة تحوّلت بقدرة غير قادرٍ إلى تنظيمات تسعى إلى تحرير سوريا من «النظام الاستبداديّ». ومع مرور الأيّام، بدأ التقهقر في صدقية هذه الفضائيّة، لا لأنّها تغيّرت في توجهاتها، بل لأنّ الأحداث المتسارعة على الساحة في بلاد الشام أسقطت القناع عنها وعن الكثيرين من منظّري الثورة، الذين يتخذون من الدوحة مقراً لهم ولمخططاتهم الخبيثة ضدّ أيّ بلد عربي قومي، خدمةً للأجندات الغربيّة، التي تُمعن في إفقار العرب وإذلالهم وازدرائهم وتحقيرهم من منطلق الفوقيّة والدونيّة، بهدف مواصلة السيطرة عليهم، ونهب ثرواتهم. «الجزيرة» تقف اليوم على مفترق طرق صعب للغاية، ذلك أنّ دراسة نشرتها مجلة «لو ماغ» هذا العام بيّنت تراجع نسبة مشاهدة القناة القطرية من 43 مليوناً إلى 6 ملايين فقط. وبما أنني شخصياً عزفت عن متابعة هذه الفضائيّة، من حقّي، لا بل من واجبي أن أطرح سؤالاً في غاية الأهميّة: هل قامت الجزيرة بإعداد تقريرٍ عن قيام الدولة العبريّة، طبعاً من «دوافع إنسانيّة بحتة»، باستقبال جرحى «الثورة» السوريّة ومعالجتهم في مستشفياتها؟
■ ■ ■


سُقنا هذه المقدّمة على وقع إحياء الذكرى التاسعة لرحيل الرئيس الفلسطينيّ ياسر عرفات (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004). «الجزيرة»، التي تعلم وتدري أنّ هذه القضيّة لا تزال تقضّ مضاجع الشعب العربي الفلسطيني، وخصوصاً أنّ عرفات رحل إلى العالم الآخر في ظروف لا تزال غير معروفة حتى اليوم، انقضّت على هذا الموضوع، لعلمها بأنّ الفلسطينيين هم اليوم الرقم الضعيف جداً في المعادلة الإقليميّة والدوليّة، وأيضاً لإذكاء الخلاف القائم أصلاً بين فتح وحماس الذي يصبّ في خدمة الاحتلال وموبقاته وأدواته. التحقيق الصحافي الذي أجرته «الجزيرة»، ووصلت تكاليفه إلى ملايين الدولارات، حول ظروف وفاة عرفات، فتح الجرح من جديد، والفضائيّة القطريّة أرادت من وراء ذلك استعادة شيء من صدقيتها المفقودة، والرقص، كعادتها على الدم العربي. إلا أنّ السؤال الأوّل الذي يتبادر إلى الذهن في هذه العُجالة يتعلّق بالتوقيت: نسأل وبصوتٍ عالٍ: لماذا انتظرت الفضائية سنوات عديدة حتى أقدمت على إعداد التقرير؟ نميل إلى الترجيح بأنّ وراء الأكمة ما وراءها، فالمثل العربي القائل إنّه يجب «ضرب الحديد وهو حامي» ينسحب على تصرّف القناة في هذه المسألة العينيّة. ومع ذلك نُضيف أنّ الهدف من إثارة الموضوع الآن، مرده تقسيم المُقسّم وتجزئة المجزأ، وإغراق الشارع الفلسطينيّ بالتأويلات، وزرع بذور الشك والريب وخلاف اليقين، بين من تُطلق على نفسها القيادة وفي مقدّمها الرئيس غير الرئيس، محمود عبّاس، الذي لا يتعدّى كونه رئيساً لمجلس محلي المقاطعة المحتلّة في سلطة أوسلوستان. والشك، في هذا السياق، يُعتبر بحسب علم الاجتماع حالة نفسيّة يتردد معها الذهن بين الإثبات والنفي ويتوقّف عن الحكم.

■ ■ ■



إسرائيل، الدولة المارقة والمُعربدة في المنطقة، لم تنفِ يوماً أنّها تُلاحق القادة الفلسطينيين وتغتالهم، والأمثلة على هذا النهج، أي إرهاب الدولة المنظّم، كثيرة. وعندما توفي عرفات في ظروف غامضة، كانت الدولة العبريّة في مرمى الاتهامات الفلسطينيّة، ولكي نضع النقاط على الحروف نُشدّد على أنّ هدف هذا المقال ليس إضفاء دلائل وقرائن جديدة تثبت تورّط دولة الاحتلال في عملية الاغتيال، بل طرح بعض الأسئلة، التي نراها، باعتقادنا المتواضع مهمّة للغاية: علينا أن نتذكر أنّ محاصرة عرفات من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، المجرم بامتياز، أرييل شارون، فتحت الباب على مصراعيه أمام تل أبيب وواشنطن لفرض عبّاس على عرفات بمنصب مستحدث هو رئيس الوزراء، والسؤال الذي نستنبطه: هل كانت هذه الخطوة تهدف إلى تحديد وريث عرفات من قبل أميركا وإسرائيل، مع المتواطئين والمتخاذلين والمتآمرين العرب، بعد التخلّص منه؟ لأنّ هذا ما حدث فعلاً بعد موت عرفات. ولكي أكون صادقاً مع نفسي، وأكثر صدقاً مع قرائي، أُشدّد على أنني لم ألتق عرفات بتاتاً، لا كإنسان ولا كصحافيّ، كما أنني لم أُعلّق صورته على حائطي إلى جانب صورة القائد والمُعلّم والمُلهم، جمال عبد الناصر، الرجل الذي اتسعت همّته لآمال أمّته. مُضافاً إلى ذلك، انتقدت عرفات مراراً وتكراراً في وسائل الإعلام المختلفة بعدما وقّع مع الصهاينة على اتفاق أوسلو، اتفاق العار والمذلّة، وترك السلاح وتسلّح بغصن الزيتون، الذي لا يزال يُطاردنا حتى هذا اليوم. طلبت منه، عبر الإعلام طبعاً، أن يرحل، أن يستقيل، في الوقت الذي كان فيه السواد الأعظم من الشعب الفلسطينيّ يُقدّسه، وتعرّضت لحملة انتقادات سافرة من زمرة المنافقين، الذين يُضمِرون العداوةَ ويُظهرون الصداقة.


■ ■ ■


اليوم، وبعدما أصدر المعهد الطبي السويسري تقريره حول وجود آثار لمادة البلوتونيوم في جسد عرفات قبيل وفاته، تزايدت الشكوك بأنّ إسرائيل، المختصّة في الاغتيال عن طرق إدخال مواد سامّة إلى أجسام القادة الفلسطينيين، نذكر منهم، على سبيل الذكر لا الحصر، الدكتور وديع حداد، من مؤسسي الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، والذي اعترف الموساد الإسرائيلي قبل سنوات بالمسؤولية عن اغتياله، وبات الجميع يُكيل التهم لدولة الاحتلال بقتل عرفات عن طريق السم. إلا أنّ هذه الاتهامات لا تُسمِن ولا تُغني عن جوع، فقادة تل أبيب لم يُكلّفوا أنفسهم عناء الردّ على هذه الاتهامات، اللهم، إلا اتهام أرملة عرفات بالمسؤولية عن قتله. ومن هنا نصل إلى بيت القصيد: هل نفذت إسرائيل عملية الاغتيال وحدها؟ أم هي تلقت المساعدة من وكلائها وأدواتها في سلطة أوسلوستان؟ ولكي لا نتجنّى على أحد من «القيادة»، نرى أنّ من الأهمية بمكان ملاحقة العيّار حتى باب الدار، كما يقول المثل العربي العامي، لكنّه الفصيح جداً. السلطة، بفتح السين واللام، كانت قد توجهت إلى محكمة الجنايات الدوليّة في لاهاي ضدّ قيام الاحتلال ببناء جدار العزل العنصريّ، واستجاب القضاة للدعوى وأصدروا حكماً يدين إسرائيل، ولكن بما أنّ هذه الدولة المارقة مع علامة الجودة والامتياز لم تنصع للقرار، طبعاً بدعم من أميركا. وهذا يقودنا إلى المعضلة المفصليّة، أي إلى المسألة المُشكلة التي لا يُهتدى لوجهها: ما هو السبب الذي يمنع السلطة من التوجه إلى المحكمة عينها في قضية عرفات؟ نحن أمام فرصة ذهبيّة لكي نُثبت لأنفسنا وللعالم برمته أنّ إسرائيل هي دولة إرهابيّة. ونخلص إلى القول: إذا لم تتوجّه «القيادة» إلى المحكمة، فإنّ الشبهات حول تورّطها المباشر أو غير المباشر في عملية الاغتيال ستزداد، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان، فعلامَ الانتظار؟ ولكن نستدرك ونقول ونفصل ونجزم: عن أيّ رجال نتحدث!

■ ■ ■


وهنا يفرض التاريخ نفسه. التاريخ القريب. فرغم الأدلّة الواضحة على جريمة الحرب ضد أهل غزة في عدوان أواخر 2008 وأوائل 2009، ورغم تقرير غولدستون، إلا أنّ سلطة رام الله سحبت الشكوى كي لا تُحرج إسرائيل، ولكي تكسب دعم أميركا لها في عضوية غير حقيقيّة في الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي لم يحصل. ويبدو أنّ هذه السلطة تريد اختصار الطريق، لا تشتكي ولا تسحب الشكوى.
* كاتب من فلسطينيي الـ48