بعد استئذان الفهلويين الذين نهضوا إلى الكتابة والخطابة دعماً لما ظنّوه أو زعموا أنه ثورة وربيع للحريات، نُذكّر بأنه يوجد فرق ثقافي بين المجتمع اليمني من جهة، ونظيره البريطاني من جهة ثانية. ينبني عليه أن من المفترض أن يسلك اليمنيون نهجاً نحو الديموقراطية السياسية يلائم مصالحهم ومفاهيمهم، يتدرجون في منعرجاته ويتعلمون من هفواتهم. هذا إذا شاؤوا أولاً، أن يأتلفوا في إطار جماعة وطنية واحدة. أما أن يجبرهم المستعمرون القدامى على السير «ديموقراطياً» على نظام وضع الأخيرون قوانينه فهذا «تجديد ديموقراطي» للاستعمار. إلى أين وصلت الثورة في اليمن؟ أرادت الجامعة العربية، عندما تسلم قيادتها الشيخ القطري حمد بن جاسم، أن تطبق على سوريا ما سمّته الحل اليمني الذي يقضي كما تناهى إلى علمنا، بأن يتنحى الرئيس بعد أن يعهد بصلاحياته إلى نائبه، ليشرف هذا الأخير على مرحلة انتقالية، أو حوارية بين جميع الأفرقاء. كيف ينشأ الفريق، وما هي الشروط التي يجب أن تتوفر فيه حتى يحق له الاشتراك في الحوار؟ وما هي الغاية من الحوار؟ أسئلة لم تتمكن «الثورات» العربية من الإجابة عنها، بل يكاد المرء أن يجزم بأن الحوارات في دنيا العرب هي كمثل حوارات الطرشان. يكون الفصل فيها لميزان القوى أو للأصفر الرنان، لا للدليل والبرهان والعقل أو للمسؤولية الأخلاقية والوطنية.
هل قدمت الثورة اليمنية نموذجاً يحتذى؟ لقد جرت في مصر تجربة مشابهة للحل اليمني عندما عُيّن اللواء عمر سليمان نائباً للرئيس وأعطيت له مهمات الرئاسة (مات المسكين، كما مات عرفات في ظروف غامضة)، ولكن التجربة فشلت كما هو معروف. ربما جاز القول إنّها استكملت بتفويض أمر الحكم إلى تحالف يضم المجلس العسكري، بالإضافة إلى جماعة الإخوان المسلمين. أكتفي هنا بهذا الاستطراد لأقول إنّ هذا كله يشكل دلالة على أن المتغيرات والمتبدلات التي تطرأ في سياق ما اصطلح، أميركياً أو غربياً، على تسميته الربيع العربي، ليس ثورة على الإطلاق، وإنما هو أقرب إلى محاولة ترتيب أوضاع أو بالأحرى تمهيد أرضية لتنفيذ مشروع أميركي ـــ غربي جديد.
في السياق نفسه، لا شك في أن متابعة التطورات والأحداث التي يشهدها اليمن تسلط ضوءاً كاشفاً على بعض أوجه المأزق الخانق الذي دخلت فيه القضية العربية. لا توجد عوامل اجتماعية، معيشية وسياسية ذاتية، تعلّل انتقال عدوى «الثورات» من تونس إلى اليمن، إلى ليبيا، إلى مصر، وأخيراً إلى سوريا. وبالتالي يحق لنا أن نفترض تدخل عامل خارجي تسبب باشتعال هذه البؤر، الواحدة تلو الأخرى، وأحياناً اشتعالها معاً.
نستطيع بخصوص الأزمة السورية، أن نسمي جميع الأطراف الخارجية بأسمائها، فهذه الأخيرة تحركت منذ البدء بصفاقة وعنجهية أعادتا إلى الأذهان سلوك المستعمرين القدامى وغطرستهم. فلا بد إذاً، استناداً إليه من الاستفسار عن تأثير هذه الأطراف في ما يجري في اليمن. من البديهي أن المرحلة الانتقالية، أو الحوارية التي بدأت بعد تنحي الرئيس علي عبد الله صالح، وبرعاية سعودية، لم تضع حداً لـ«الثورة». فما يزال كل فريق من أفرقاء المنازعة في اليمن يحافظ عسكرياً على موقعه، ويشترك في الوقت نفسه في الحوار.
السيدة اليمنية توكل كرمان، الحائزة جائزة نوبل للسلام، التي حاولت الانضمام إلى المعتصمين المصريين في رابعة العدوية، لكنها لم تفلح، تدعو إلى ثورة جديدة في اليمن ضد حكومة الوفاق، وضد نظام الحكم الذي لم يعد يرأسه علي عبد الله صالح. فهي من قادة ما يسمى الثورة السلمية التي تضم، كما تفيد الأخبار، حركات إسلامية في مقدمها الإخوان المسلمون وجماعات تدور في فلك تنظيم القاعدة.
في شمال اليمن، وفي محافظة صعدة المحاذية للحدود مع مملكة آل سعود، يحتدم القتال بين الحوثيين من جهة، والسلفين من جهة ثانية. يرى البعض أنّ تبدل حدة هذا القتال شدة وهدوءاً يتم بنسبة كبيرة على نسق التناقضات والصراعات بين آل سعود والحكومة الإيرانية.
وبموازاة هذا كله، هناك حركة انفصالية في جنوب اليمن إلى جانب جماعات القاعدة التي تلاحق الطائرات الأميركية المسيّرة عن بعد، بعضها، كما هي الحال في باكستان. بالإضافة إلى ذلك، تتوالى الانشقاقات في صفوف الجيش اليمني وتتوزع فرقه بين أطراف النزاع. لا تسل عن الاغتيالات والانفجارات وغيرها من أعمال العنف والخطف، وكأن الغاية من الفوضى العارمة هي إلغاء الدولة وتفتيت البلاد اليمنية وتفرقة الناس.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن نفوذ آل السعود كبير في اليمن، على القبائل والمشايخ والقادة العسكريين، وعلى صناع الرأي أيضاً. فالمواقف والولاءات تشترى وتباع في اليمن السعيد!
من المرجح أنّ آل سعود يطمئنون إلى وجود يمن مجزّأ أكثر من اطمئنانهم إلى يمن موحّد ذي كثافة سكانية عالية، تقوده دولة متماسكة. ليس مؤكداً أن حسابات آل سعود صحيحة. ولكن هذا موضوع آخر. أغلب الظن أن المستعمرين الإسرائيليين يقدّرون الأمور بنفس الطريقة أيضاً. لعل هذا ما أوصلهم إلى الاستنتاج بأن تقسيم العراق وسوريا ومصر يلائم مشروعهم ويزيل كل العقبات من أمامهم. ولكن من المحتمل جداً أن لا تصدق توقعاتهم. فالنفط في شبه جزيرة العرب هو أصل المشكلة. يتقاسم الأمراء والمستعمرون عائداته، فيغرون الناس العاديين بالأجور ويستهوونهم من أجل الدخول في خدمتهم، هذا من ناحية.
أما ناحية ثانية، فتاريخ السلطة في بلاد العرب مليء بالأمثلة على أن قادة العسكر كانوا يقتلون دائماً، في النهاية، الحكام ويجلسون مكانهم على العروش. سوف نرى أية سياسة ستتبع جماعات القاعدة إذا استولت على منطقة في العراق أو في سوريا أو في غيرها من بلاد العرب. لا شك في أن مشي القهقرى من النقطة التي وصلنا إليها في الراهن، رغم ما يتهددنا من خطورة الأعداء وطغيان الحكام وإفساد أمراء النفط وابتزاز تجار الدين، إلى النقطة التي بلغها الأفغان تحت قيادة جماعات القاعدة وطالبان وجيوش الوكالات الأمنية الأميركية، سيكون مشي القهقرى بين هاتين النقطتين أو الدرجتين دموياً
ومؤلماً.
* كاتبة لبنانية