لغةً، يقال: نَكأَ القَرْحةَ يَنْكَؤها نَكئاً، أي قشرها قبل أَن تَبرأَ فَنديتْ، بما يفيد إيلام المنكوء عن قصد بهدف تعذيبه، أو سهواً دون قصد. أما اصطلاحاً، فيقصد بالقتال النكائي، وهو في حقيقته الفعلية «قتلاً» وليس «قتالاً»، يقصد به قتل أو جرح العدو أو من يُنسب إليه نكاية به، دون أنْ يكون الهدف من ذلك إخراجه من المعركة أو تحقيق النصر عليه؛ بمعنى أن الهدف منه تحقيق هدف نفسي لا يتعدى فشّ الغل والتشفي بالعدو عبر الانتقام منه بإيذائه جسدياً. من الأمثلة على ذلك، ما فعله منفذو هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، حين أقدموا على ذبح بعض المسافرين في الطائرات التي خطفوها بسكاكين الطعام، رغم أنهم لم يكونوا في حاجة لفعل ذلك، فهم يعلمون أنهم سيموتون مع ضحاياهم بعد وقت قصير حين تصطدم الطائرات بأهدافها. وقد عثر المحققون في أغراض ومتعلقات أحد المنفذين، هو المصري محمد عطا، التي تركها في سيارته، رسالة مكتوبة باللغة العربية بخط اليد، تحتوي على توصيات ونصائح في أربع صفحات، جاء في واحدة منها «فإنْ مَنَّ الله عليك بذبح فأنخ بها عليه... واحرص أن يكون سكينك حاداً... ويجب أن تشعر بالسكينة لأنك تبعد مجرد خطوات عن الفردوس». وهذا يعني أن السلفيين الانتحاريين يعتبرون ذبح الضحية التي وقعت بأيديهم مِنّةً وهديةً من الله يمكنهم أن يتلذذوا بها، وهذا أمرٌ لا يخرج عن إطار الأمراض النفسية كأحد أنواع العصاب الاكتئابي وما هو أخطر منه.قديماً، ورد القتل النكائي بمعناه السالف الذكر في كتب دينية مقدسة، لا بل وردت فيها دعوة صريحة لإبادة شعب العدو، بعد الانتصار على جيشه، إبادة تامة لا تستثني حتى الحيوانات. ففي التوراة، سِفر صموئيل الأول: نقرأ: «فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً». وفي سفر العدد 31 نقرأ: «فالآنَ اَقْتُلوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأطفالِ وكل اَمرأةٍ ضاجعَت رَجلاً»، أما في سفر تثنية 20 فنقرأ: «فإذا استسلمت وفتحت لكم أبوابها، فجميع سكانها يكونون لكم تحت الجزية ويخدمونكم. وإنْ لم تسالمكم، بل حاربتكم فحاصرتموها فأسلَمها الرب إلهكم إلى أيديكم، فاضربوا كل ذكر فيها بِحد السيف... هكذا تفعلون بجميع المدن البعيدة منكم جداً... وأما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها لكم الرب إلهكم ملكاً، فلا تبقوا أحداً منها حياً بل تحللون إبادتهم، وهم الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون، كما أمركم الرب إلهكم».
أما حديثاً، فقد ورد هذا المصطلح (القتال النكائي) في رسالة البرقاوي إلى الزرقاوي «المناصحة والمناصرة» مرات عدة، وسنتوقف اليوم عند تجربة القاعدة في العراق كما رصدها البرقاوي.
كعادته، يبدأ البرقاوي نقده بنبرة تبريرية يراد منها تلطيف الأجواء استباقاً للآتي، فينتقل إلى مناقشة تجربة تلميذه المسلحة في العراق، مسجلاً أن الفوضى الحاصلة في العراق آنذاك يراد بها «تشويه الجهاد وصورته المشرقة من تفجير السيارات أو وضع العبوات الناسفة في طرقات العامة وقذف قذائف الهاون ونحوها في الشوارع والأسواق وغيرها من تجمعات عوام المسلمين، فيجب المحافظة على أيدي المجاهدين المتوضئة من أن تتلطخ بشيء من دماء المعصومين، ولو كانوا عصاة أو فجاراً... وأن يواكب جهادها دوماً لسان ناضج ناطق يذب عن المجاهدين ويبرئ ساحتهم من هذه الأعمال المشوهة أولاً بأول». يقوم البرقاوي هنا بعملية معقدة؛ فهو يحاول من جهة، تبرئة الزرقاوي ومجموعته من جرائم ذكرها بالاسم، ويريد من جهة أخرى تسجيل نقده لما يفعلونه بعد أنْ كرروا إعلان مسؤوليتهم عن الكثير من تلك العمليات وصوروا بعضها بأنفسهم. لهذا وضع في نهاية الفقرة شرط إعلان التبرؤ مما نسب إليهم من عمليات وأفعال وأن يكون هذا الإعلان مستمراً وأولاً بأول. ثم يسدي البرقاوي تحذيرات عدة صريحة يدور مضمون أغلبها حول رفض القاتل النكائي وما شابهه كالتورط في اختيار وسائل غير مشروعة، والتجاوز والتعدي بتقصد قتل أو خطف من لا يحل قتله من نساء وأطفال بعض الأعداء، سواء لعصمة أولئك النساء والأطفال بالإسلام، أو عصمتهم بالأنوثة والطفولة.
إنَّ الداعية العارف ضخامة جريمة سفك دماء الأبرياء ينهض عند الشيخ البرقاوي، ويتألق على حساب البرقاوي المحرض السلفي العنيف، حين يأتي على ذكر موضوع العصمتين الأنثوية والطفولية، الذي لم يسبق لغير الشيخ البرقاوي أن نبَّه إليه وذكَّر به فلم نرَ له أثراً في الكتابات السلفية الآخرين ولا في كتابات الباحثين المستقلين غير العارفين بتفاصيل وخبايا الخطاب السلفي فغاب عن أعينهم وأقلامهم.
إن هاتين الحصانتين أو العصمتين اللتين تتمتع بهما النساء والأطفال، أمر رفيع المغازي قانونياً وأخلاقياً، وجزء عضوي من الجوهر الحي للمثل القيمية الإسلامية التي داست عليها بفظاظة أغلب الزعامات والجماعات المسلحة التكفيرية. فحصانات الطفولة والأنوثة والإسلام تجعل قتل الأطفال والنساء من المسلمين جريمة كبرى، وتحصِّن وتعصم دماء الأطفال والنساء غير المسلمين أيضاً، فالحصانة الإلهية واحدة، وغير قابلة للشطر والاجتزاء، ولكنها قابلة للمرادفة، والمرادفة توسع دائرة نفاذ الحكم ولا تحصره. فما كان جريمة بخرق حصانتين أو ثلاث هو جريمة أيضاً بخرق حصانة إلهية واحدة، ولا يمكن أن يوجد خلاف على هذا الاستنباط المنطقي. فأين أمست هاتان العصمتان أو الثلاث للأطفال والنساء المسلمين وغير المسلمين بعد الذي ارتكبته الجماعات السلفية الانتحارية في العراق وسوريا وأفغانستان؟
ينتقل البرقاوي إلى لغة التحذير المباشر، معرفاً دعوتهم بأنها «دعوة التوحيد وملة إبراهيم وهي ليست كأي دعوة إصلاحية، ترقيعية، بل هي دعوة تغييرية استئصالية للطواغيت وشركهم، حرب على أوليائهم، تقوم على تجريد الولاء والبراء والحب والبغض والموالاة والمعاداة، وهي لهذه الأركان لا تربي بغاثاً أو تخرّج دراويش بل تربي صقوراً وتخرِّج أسوداً وسباعاً إن لم يضبطوا بضوابط الشرع ويربّوا على تعظيم حرمات المسلمين ودمائهم ويقيّدوا بقيود العلم والفقه في السياسة الشرعية «...» فسيثبون إلى القتال دون ضوابط وسيخرجون على الأمة لا يميزون بين بِرّها وفاجرها ولا يوازنون بين مصالحها ومفاسدها. وتجارب بعض الجماعات المتطرفة المغالية ما زالت ماثلةً للعيان، فحذار من اجترارها... فليتذكر كل مجاهد أننا أبناء دين عظيم؛ جهاده وغاياته ووسائله أنظف وأطهر وأعلى وأجل من أن تضاهي أو تحاكي أعمال عصابات المافيا التي تبرر الغايات عندهم الوسائل».
يلفت انتباهنا هنا، استشراف البرقاوي الذكي، رغم أنه قد لا يخلو من الشواش والضبابية، لآليات التحول التي تحكم سيرورة المنظمات السرية المسلحة، وخصوصاً ذات المناشئ والمرجعيات الأيديولوجية الدينية وتحولها إلى منظمات دموية فالتة تقتل الإنسان الذي جاءت لتخرجه «من الظلام إلى النور ومن الجحيم إلى الجنة».
من الواضح أن عين البرقاوي على تجارب حركات إسلامية قديمة كبعض فرق الخوارج، وخصوصاً «الأزارقة» الذين أباحوا لأنفسهم قتل أطفال أعدائهم، و«الصفرية» وهم خوارج أيضاً، ولكنهم تمسكوا بعصمة الطفولة والأنوثة؛ وها هو يلمح إلى ذلك بقوله «وتجارب بعض الجماعات المتطرفة المغالية ما زالت ماثلةً للعيان، فحذار من اجترارها»، بل هو يتقدم أكثر في هذا الشأن ويحذر الزرقاوي والذين معه من التحول إلى عصابات «مافيا»، لكن الواقع يقول إنّ بعض الجماعات السلفية الانتحارية فاقت المافيا بأشواط كثيرة.
إن ما لم يستشرفه البرقاوي هو أن الكلمات الإنشائية والنيات الحسنة «التي تُعَبِّد الطريق إلى الجحيم دائماً، كما يقول المثل»، ليست هي التي تقرر سيرورة ومآل حركة الواقع والظواهر التاريخية فيه، بل هي القوانين والآليات وموازين القوى الحقيقية التي تعطي في النهاية لكل ثمرة لونها ومذاقها وحجمها، ولو كان التاريخ يصنع بالأماني والنيات الطيبة والتحذيرات الإنشائية لكان العالم بألف خير، غير أنَّ هذا «حديث خرافة يا أم عمرو...» فلا هو يستقيم مع علم الاجتماع الحديث بكافة فروعه ومشمولاته ولا مع التاريخ الفعلي للقصة الإنسانية.
ثم، يحذر البرقاوي تلميذه من جملة أمور منها: تشتيت دائرة الصراع والخروج بها عن المحتل وأذنابه الموالين له، ومن توسيع تلك الدائرة أيضاً فيما لا طائل تحته وتضييع جهد المجاهدين، ومن التورط في القتل النكائي والأعمال الثأرية التي تذعر الناس بل والعالم كله على المجاهدين وتدفعه إلى المزيد من التألب والتكالب عليهم، ومن الانجرار وراء استهداف عموم الشيعة. ومن أنّ إعلان الحرب على «هذه الطوائف المحسوبة على الإسلام والمسلمين في ظل احتلال صليبي مجرم لا يفرق بين سني وشيعي لأن ذلك ليس من السياسة الشرعية في شيء». وبعبارة حاسمة يحذر البرقاوي تلميذه ومَن معه من «تقزيم الجهاد وتحجيمه في القتال النكائي وحسب، أو اختزاله في ردود الأفعال الثأرية فقط». ويبدو الشيخ على اطلاع جيد على ما فعله الزرقاوي وجماعته حيث تحولوا إلى منظمة مسلحة هستيرية لا تفعل شيئاً سوى القتل النكائي.
ولكي نأخذ فكرة واضحة عن القتل النكائي بالتفجيرات فقط، لنلقِ نظرة على إحصائية أجرتها جهة إحصائية دولية وأوردها الكاتب العراقي عبد الأمير الركابي في إحدى مقالاته، وتقول إنّ «عدد التفجيرات التي عرفها العراق بين سنة 2005 وسنة 2010، بلغ أربعة وعشرين ألف تفجير، أي ما يفوق ما عرفته الكرة الأرضية من تفجيرات خلال نصف قرن، وأن ثمانية عشر ألفاً من تلك التفجيرات استهدفت المدنيين العراقيين حصراً، وما بقي استهدف مؤسسات ومباني أو أهدافاً عائدة لجهات غير مدنية تابعة لقوات الاحتلال والقوات العراقية أو مؤسسات حكومية رسمية». ولتقدير حجم الدمار الهائل والقتل الفظيع الذي سببته العمليات الانتحارية، تخبرنا إحصائية أمنية عراقية، نرجح أن تكون مأخوذة من وثائق القاعدة التي ضبطها القوات الأمنية، أنّ العمليات الانتحارية المنفذة فعلاً فاقت ألفي عملية، قام بها انتحاريون من جنسيات مختلفة، وأن عدد الفلسطينيين هو الأعلى بينهم، ويقدر بـ1201 انتحاري، تلاهم السعوديون بـ300 انتحاري، ثم اليمنيون بـ246، ثم السوريون بـ197، فالمصريون 88، فالتونيسون 44، فالليبيون بـ41 انتحارياً. وجاءت الإمارات العربية وقطر والبحرين في المؤخرة، بأقل من 20 انتحارياً لكل دولة منها!
في الختام، ينصح البرقاوي تلميذه «بتصدير المجاهدين من أهل العراق» أي جعلهم في الصدارة لقيادة العمل المسلح؛ لأنهم أهل البلاد وأعرف بها وبظروفها، وكأنه يلمّح إلى أنّ دور الزرقاوي قد شارف على الانتهاء، وأن عليه أن يسلم قيادة العمل السلفي المسلح لغيره، وتحديداً لقائد من أهل العراق، وبعد بضعة أشهر قُتِلَ الزرقاوي، ولكن خليفته كان أبو أيوب المصري من محافظة سوهاج المصرية لأشهر معدودة قبل أن يصل أبو عمر البغدادي إلى زعامة التنظيم ويصبح المصري نائباً له ووزيراً للحرب.
انتهى استعراضنا لرسالة البرقاوي، فكيف جاء رد فعل الزرقاوي عليها؟ لقد حكم عليها جملة وتفصيلاً بأنها ظالمة وغير مبنية على معلومات دقيقة، ولأن الزرقاوي يعلم علم اليقين أن المعلومات عن الفظاعات التي ارتكبها هو ومنظمته حتى لو صح منها ربعها أو ما هو أقل لكان ذلك كافياً لأن يقول فيه علماء الدين والشيوخ السلفيون ممن لا يخافون سكاكين الذباحين أضعاف ما قاله البرقاوي. وبعد فترة رد الزرقاوي على رسالة شيخه رداً مختلفاً، فقد دافع صراحة عن مبادئه المتطرفة التي تعتمد تعميم التكفير والتخوين واعتماد العمليات الانتحارية والقتل النكائي كشكل رئيسي في القتال، رافضاً نصيحة الزرقاوي المستندة إلى فتوى ابن تيمية بعدم جواز تعميم التكفير، ومعتبراً أن هذه الفتوى فات زمانها «ومن الظلم تطبيقها في عراق اليوم». وقد أصدر شريطاً مسجلاً سخر فيه من آراء البرقاوي سخرية بيّنة، رافضاً التفريق بين مقاومة تستهدف الاحتلال وأخرى تستهدف العراقيين. وبهذا يكون الزرقاوي قد أعلن رفضه لأفكار شيخه وأصبح مستقلاً عنه ومختلفاً عنه ومخالفاً له في أهم قضية، ألا وهي تكفير المسلمين المخالفين والمختلفين ومساواتهم بالغزاة الأجانب المحتلين.
* كاتب عراقي