لا يتجرّأ إعلام آل سعود على رئيس أميركي إلّا في سنته الأخيرة، عندما يصبح الرئيس بالمفهوم الأميركي «بطة عرجاء». لكن جرأة إعلام آل سعود لا تتناسق مع أمراء وملوك آل سعود: هؤلاء يستقبلون وينحنون أمام أي موظّف أميركي مارّ في بلادهم —حتى لو كان في مرتبة نائب مساعد مساعد نائب وزير. لكن أنظمة الخليج ضاقت ذرعاً بأوباما وهي أطلقت العنان لإعلامها الدعائي كي يعبّر عن حنقهم. هؤلاء عتبوا على أوباما لأنه لم يشنّ لهم حروباً أكثر، تزيح عن دروبهم بعض الأنظمة غير الخاضعة لمشيئة آل سعود. الحروب الأميركيّة حول العالم لا تكفيهم، ويطالبون بالمزيد. لقد جرح اوباما مشاعر حكّام الخليج وملك الأردن، وليس أمامه غير التذمّر. لم يعد التهديد بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي يخيف أحداً.
لم تكن المقالة الطويلة لجيفري غولدبرغ عن «عقيدة أوباما» في مجلّة «اتلانتك» عاديّة: المقالات الطويلة تغيب عن الإعلام في القرن الواحد والعشرين وعهد الكراريس والكتيّبات اندثر مع اندثار الاتحاد السوفياتي. والمقالة مبنيّة على محادثات طويلة بين أوباما وبين غولدبرغ. والطريف ان إعلام الخليج الذي ثارت ثائرته ضد المقالة حيّد في نقده الكاتب، مع ان موضوعه متلازم مع موضوع أوباما وعقيدته. وغولدبرغ قريب من فريق اللوبي السعودي في العاصمة واشنطن، لكنه أقرب حتماً إلى اللوبي الإسرائيلي الأم، وإن كان اللوبيان باتا مثل جناحيْن للوبي واحد فاعل ومؤثّر. وغولدبرغ حاز منذ بداية عهد أوباما (وحتى منذ سنواته في مجلس الشيوخ) على قرب استثنائي منه، والسبب في ذلك سياسيّ محض. لقد قرّر أوباما ان ينال رضى اللوبي الإسرائيلي وأدواته الطيّعة في الكونغرس فتقرّب من هذا الصهيوني الصادح. علم أوباما في بداية حملته الانتخابيّة في عام 2008 ان بعض كلامه عن الشرق الأوسط —وإن لم يحد يوماً عن دعم الكيان الصهيوني الغاصب— أزعج أقطاب اللوبي. فمفردات الكلام عن الشرق الأوسط في أميركا مُنتقاة بعناية شديدة خشية الخطل، ولهذا فإن خطاب هيلاري كلينتون عن الشرق الأوسط لا يختلف البتّة عن المرشحين الجمهوريّين لأن حفظ المفردات تلك هي من ضرورات العمل السياسي الطموح هنا. وأوباما، الواثق من نفسه في مجال السياسة الخارجيّة، لأنه وصل إلى سدّة الرئاسة عليماً بها خلافاً للكثير من الرؤساء، أراد التحرّر من تلك المفردات قليلاً لكنه عانى سياسيّاً جراء ذلك. وهكذا استعان أوباما بغولدبرغ لإرسال رسائل ودّ وحنان دوريّة لدولة العدوّ الإسرائيلي وأبواقها في الكونغرس الأميركي. وقد زاد أوباما من استعانته بغولدبرغ بعد ان لاحت في الأفق علامات التوصّل إلى اتفاق نووي بين إيران والدول الست. أي أن غولدبرغ هو صلة الوصل بين أوباما واللوبي الإسرائيلي ودولة الكيان الغاصب.
ستزيد دول الخليج من تقرّبها من دولة العدوّ الإسرائيلي

لكن لماذا غولدبرغ؟ لأنه إسرائيلي (هو مزدوج الجنسيّة) تدرّب في العمل الصحافي في مطبوعات صهيونيّة (مثل «فوروارد» و«جيروزاليم بوست») قبل أن ينتقل إلى الصحافة الصهيونيّة «المحترمة»، مثل «واشنطن بوست» وغيرها. وتطوّع في جيش الاحتلال (هو يقول عن سنوات خدمته في جيش العدوّ أنه كان سجّاناً فقط، كأن قمع المساجين السياسيّين من الفلسطينيّين هو عمل سلمي) ويعمل في الصحافة فقط لرصد الأخطار المحيقة بدولة العدوّ. وهو كان قد أيّد بشدّة العدوان الأميركي على العراق قبل عام من بدئه (في عام 2010 نشر غولدبرغ مقالة على مدوّنته عنّي بعنوان «ومن يكون العربي الغاضب هذا»، أعلم فيها قراءه أنني أدعو —يا للهول— إلى «تدمير» دولة إسرائيل). أي ان اختيار غولدبرغ من قبل أوباما للإفصاح عن مكنوناته هو عمل سياسي مقصود.
هناك عدد من الإشارات التي أطلقها أوباما في المقالة. والكاتب في «واشنطن بوست» (والقريب من سلالات الأردن والسعوديّة)، ديفيد أغناتيوس، لاحظ أن الكلام المرسل للرئيس عن السياسة الخارجيّة ينتظر عادة تقاعد الرئيس عن منصبه: أي ان الصراحة في الحديث في السياسة الخارجيّة عادة لا ينقط بها رئيس إلا في مذكّراته، وبخفر. إن اختيار أوباما لهذه اللحظة (وقبل زيارته المُقرّرة إلى السعوديّة) فيه من الإشارات السلبيّة الواضحة والمهينة لدول الخليج. وهو أرسل لهم أن الشرق الأوسط لم يعد منطقة «مصالح حيويّة» لأميركا كما كانت قبل عقود: لا تستورد أميركا من النفط من الشرق الأوسط أكثر من ١٣٪ فقط (نحو ٨٪ من السعوديّة). لم تعد المملكة في الموقع التي كانت عليه في أوجّ قوّتها في السبعينيات من القرن الماضي. كما ان أوباما عبّر من دون مواربة عن ضيق من حكّام المنطقة ومن شعوبها. وهذا الضيق ليس محصوراً به (خلافاً لما يتمنّى طغاة الخليج): فالمرشّح دونالد ترمب صرّح عبر السنوات عن تبرّم من السعوديّة وعن عنصريّة ضد العرب، بالإضافة إلى عنصريّته الفاضحة هذه الأيّام (حتى جون كيري انتقد السعوديّة في حملته الانتخابيّة في عام ٢٠٠٤).
وعدم إيلاء مطالب حكّام الخليج الأولويّة التي يريدونها يترافق مع عنصر أساس في عقيدة أوباما، وفي العقائد الرئاسيّة التي ستليها: أن الصين ستكون على مدى سنوات وعقود الشغل الشاغل للحكومة الأميركيّة لأن واشنطن ترى فيها الخطر الرئيس ليس فقط بالنسبة إلى مصالحها الاقتصاديّة بل بالنسبة إلى هدف وحدانيّة سيطرتها العالميّة. لا تخشى أميركا من روسيا (على المدى الطويل) بقدر ما تخشى من الصين لما لها من ثروات وقدرات استراتيجيّة ومن تنامي قوّة مضطرد.
وقد أخذ أوباما الفرصة كي يردّ على أقاويل ونقد طغاة الخليج له. فمحمد بن زايد قال عنه إنه «ليس محلّ ثقة»، والطاغية الأردني قال إنه يثق «بالقوّة الأميركيّة أكثر من أوباما نفسه»، ولقد وصل هذا النقد لأوباما (يظنّ طغاة العرب ان الحكومة الأميركيّة التي تتجسّس على أنجيلا ميركل ستتردّد قبل ان تتجسّس على مكالماتهم) الذي انتحى جانباً بالملك الأردني وأعلمه أنه علم بأنه وجّه له نقداً أمام أعضاء الكونغرس وأنه يفضّل لو انه يصرّح بنقده له أمامه، وجهاً لوجه (طبعاً، فإن الملك أصيب بالذعر على الأرجح، ونفى لأوباما ما قاله). ومحمد بن زايد —مثله مثل نتنياهو وآل سعود— لم يغفر لأوباما عدم فرضه بالقوّة على الشعب المصري حكم حسني مبارك. قضيّة سقوط مبارك شكّلت عقدة للطغاة العرب ولنتنياهو. كانوا يريدون من أميركا ان تفرض حكم مبارك بالقوّة المسلّحة مهما سقط من ضحايا من الشعب المصري. استنتج طغاة الخليج ان الحاكم الأميركي سيتركهم وشأنهم لو تعرّضوا لانتفاضة أو ثورة. وقد يكون هذا العامل بالذّات هو الذي قوّى من أواصر التحالف بينهم وبين العدوّ الإسرائيلي، الذي سبق له في الأردن وفي المغرب وفي عُمان وفي السودان وفي البحرين وفي لبنان أن حافظ (أو حاول ان يحافظ) على حكم قائم بوجه شعبه.
لكن المقالة تضمّنت أيضاً ضيقاً يُقارب العنصريّة من أوباما نحو الشعب العربي برمّته. قد يكون بقي له من ترسّبات الأنثربولوجيا الأميركيّة (التي درستها ودرّستها والدته) ذلك الهوس بالهيكليّة الاجتماعيّة التقليديّة. تذمّر أوباما من ترسّخ القبيلة والعشيرة في المجتمع العربي (ما يجعله عصيّاً على التغيير الحديث) متناسياً ان مأسسة القبيلة والعشيرة ليس خياراً شعبيّاً حرّاً: إن الأنظمة المُرتبطة بالاستعمار والاحتلال (الإسرائيلي والأميركي) ربطت بين مصالحها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وبين ممانعة تحديث المجتمع بكل أوجهه. إن النظامين السعودي والأردني جعلا من القبيلة عماداً اجتماعيّاً للنظام. كما ان الاحتلال الأميركي فرض العودة إلى العشائر والقبائل في العراق لأن التنظيمات السياسيّة الحديثة تناقض مصالحه. والمفارقة ان الأنظمة العربيّة المعاصرة التي حاربت التنظيم القبلي والأواصر الاجتماعيّة التقليديّة (مثل النظام الناصري والبعثيّة في بداياتها) هي تلك التي عانت من العداء الأميركي الشديد، وتلك الأنظمة التي اعتمدت على القبليّة والعشائريّة والطائفيّة هي تلك التي نالت حظوة المُستعمِر الأميركي. إن الاحتلالين الأميركي والإسرائيلي أنعشا أكثر التنظيمات الاجتماعيّة تخلّفاً ومعاداة للمرأة.
لكن ردّة فعل أبواق أنظمة الخليج على مقالة «عقيدة أوباما» تأتّت أيضاً من هذا الاحتقار الذي ثبتَ ان أوباما يكنّه نحو آل سعود وزملائهم من الطغاة في الخليج والأردن. لم يخفِ احتقاره لهم. قال تعليقاً على نقد طاغية الأردن له بما معناه بالعربيّة: «كان ناقصني في آخرة الزمن تعليقات نقديّة من طغاة الشرق الأوسط». لا يمكن لمَن يقرأ المقالة إلّا ويخرج بانطباع أن اوباما يحتقر الحلفاء العرب ويُشكّك بجدوى تحالفهم. وهو عليم بحكم طفولته ونشأته وأصله بشؤون العالم الإسلامي أكثر من أسلافه، ولهذا فإنه لاحظ التغيّر في هويّة وطبيعة التديّن الإسلامي في أندونيسيا ولاحظ ان البلاد باتت أكثر تزمّتاً ومحافظة وهو عزى ذلك عن حق إلى الدعوة الوهابيّة العالميّة المُنتشية بالمال النفطي الوفير عبر العقود. لكن الذي لسع في كلام أوباما أكثر من غيره هو وصف طغاة الخليج العرب بـ«الركاب بالمجّان» (ترجمها الإعلام العربي خطأ لحظر المهانة)، وهذه العبارة مهينة في السياق السياسي والشعبي الأميركي وهي تُطلق على الكسالى وعلى عديمي المبادرة، والمنتفعين (هي تشير إلى نزوع البعض إلى الاستفادة من تضحيات وجهود وعمل الغير). وهذه العبارة شكّلت فحوى ردّ تركي بن فيصل على أوباما في جريدة الملك سلمان، «الشرق الأوسط». وحاول تركي تذكير أوباما بخدمات ومساهمات المملكة السعوديّة لصالح الولايات المتحدة عبر العقود. وقد أجحف أوباما في وصفه هذا. حتماً، ليس طغاة الخليج من الذين يمكن أن يُوصفوا بـ«الركّاب بالمجّان».
إن حجم الخدمات السياسية والماليّة لطغاة الخليج للصالح الأميركي والغربي لا تُقدّر بأثمان. ذكّر تركي ببعضها فقط، لأن بعضها الآخر سيصيب عائلته المالكة بالإحراج. لقد ساهم النظام السعودي في حروب أميركيّة حول العالم، بما فيها حرب الـ«كونترا»، كما أنّ النظام السعودي لم يرَ حرباً أميركيّاً إلا وشارك فيها في خندق الولايات المتحدة (باستثناء الحروب العربيّة - الإسرائيليّة حيث التزم النظام السعودي بالحياد فعلاً —أو بالانحياز للعدوّ كما في عدوان تمّوز، وبالجهاد اللفظي في العلن). وكانت أنظمة الخليج شريكة نشطة للولايات المتحدة في الحرب الباردة الطويلة وهي طوّعت الدين الإسلامي لصالح العقيدة الأميركيّة الرجعيّة، وحاربت الفكر اليساري والتقدمي النيّر بحماسة شديدة. وهي أنفقت المليارات في شراء سلاح أميركي وغربي (وهي خزّنت معظمه، إذ ان شراء السلاح الغربي هو نوع من الخوّة التي تدفعها تلك الأنظمة مقابل الحماية التي تتلقّاها من الغرب المُستعمِر). إن النفقات الباهظة التي يبذلها حكّام الخليج هي نوع من الدعم الخارجي لصناعات السلاح والطيران الغربيّة. هو إنفاق بلا طائل. ولم ينسَ تركي الفيصل ان يُذكّر أوباما بدعم بلاده لسندات الخزانة الأميركيّة. والحكم الذي هدّد لبنان بأقلّ من مليار دولار في مصارفه، لا يجرؤ أن يهدّد أميركا بمئات المليارات السعوديّة المودَعة في المصارف الأميركيّة، والتي قد تقوم أميركا بتجميدها لو هدّد آل سعود بسحبها. كما ان النظام الخليجي الإقليمي حوّل منطقته إلى قاعدة عسكريّة عملاقة، وهو يُخضع سقف الإنتاج الأميركي للصالح الأميركي. وقد أنفقت السعوديّة من مالها ومن مال حلفائها على الحرب الأميركيّة في العراق في ١٩٩١، وعلى الغزو الأميركي في عام ٢٠٠٣. لا، أجحف أوباما بحقّ أنظمة الخليج في اتهامه الجائر لهم بـ«الركاب بالمجّان». والأمير السعودي امتعض من دعوة أوباما لهم بالتعايش مع إيران، فيما هم يتعايشون بحبور مع الكيان الإسرائيلي الغاصب.
لا يجرؤ إعلام آل سعود على رئيس أميركي إلّا في سنته الأخيرة

لكن مقالة «عقيدة أوباما» أشارت إلى ظاهرة مُستجدّة في صنع السياسة الخارجيّة الأميركيّة في واشنطن. لم يعد اللوبي الإسرائيلي وحده يُقرّر ويهيمن ويؤثّر على الخطاب والسياسات. إن الظاهرة الكبرى تكمن في صعود مراكز أبحاث جديدة خاضعة لأنظمة الخليج، وتكمن أيضاً في ضخّ المال الخليجي في مراكز الأبحاث التقليديّة في شارع ماساشوستس. هذا ما يسمّيه البعض في البيت الأبيض بـ«الأراضي المحتلّة من قبل العرب» (لا يجرؤ الساسة في واشنطن على الإشارة إلى اللوبي الإسرائيلي العملاق لأن أي تعيير ممكن ان يؤدّي إلى تهم معاداة اليهوديّة).
والسفير الإماراتي الحالي في واشنطن، يوسف العتيبة (الذي يزهو بصداقته مع السفير الإسرائيلي أمام الصحافيّين الأميركيّين) بات يبني على إرث بندر بن سلطان: ليس فقط من ناحية العلاقة الحميمة مع اللوبي الإسرائيلي بل أيضاً من ناحية تمويل مراكز الأبحاث الأميركيّة. إن التقارير التي نقرأها من «مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة في واشنطن (والذي قطعت جامعة جورج تاون كل صلاتها به منذ ١٩٨٦ بسبب ضحالة إنتاجه الأكاديمي وغلبة الوجهة السياسيّة على أعماله) من خبراء مثل أنتوني كوردسمان أو غيره مضمّخة بالتمويل الخليجي. ويتلقّى خبراء وإعلاميّون في واشنطن دعوات مجانيّة لجولات بالطائرات الخاصّة التي يوفّرها لهم يوسف العتيبي وغيره في دول الخليج. لكن قدرة اللوبي الخليجي على التأثير ليست إلّا واحدة من ثمار التحالف السعودي ــ الإسرائيلي. لو أن اللوبي الإسرائيلي أراد أن يحارب اللوبي الخليجي (كما فعل في السبعينيات والثمانينيات) فإنه يقدر على «طرده من المدينة» بلغة أفلام رعاة البقر. إن قدرة اللوبي الخليجي على العمل والتأثير (في الكونغرس والإعلام) هو في الدرجة الذي أصبح فيها هذا اللوبي رديفاً للوبي الإسرائيلي.
لكن بالغ أبواق آل سعود في ردود الفعل على المقالة. لم يكن كلام أوباما إلّا تفريجاً عن المكبوت السياسي. والمقالة عينها لم تتضمّن نقداً واحداً ضد العدوّ الإسرائيلي باستثناء سياسة الحفاظ على التفوّق الإسرائيلي العسكري والاستخباراتي النوعي ضد كل الأنظمة العربيّة. لكن كلام أوباما لم يُشكّك في التحالف مع العدوّ ولم يعيد النظر في وعده بالذهاب إلى الحرب للدفاع عن الكيان الصهيوني. لكنه خلافاً لانتقادات المحافظين الجديد، لا يرى في نفسه نموذجَ السياسة المثاليّة في العلاقات الدوليّة التي تعتمد على القانون الدولية والمنظمّات الدوليّة والدبلوماسية. أوضح أن منطلقات سياسته الخارجيّة تدور حول العنصر الأساس في نظريّة الواقعيّة، ألا وهي القوّة. لكن طرق الاعتماد على القوّة، وظروف استخدامها تختلف بين حاكم وآخر. كما ان أوباما ميّز بين الخطر القريب والخطر البعيد (الذي لا يستحقّ استخدام القوّة العسكريّة ضدّه). وهذه النقطة بالذات هي التي استخدمها ضد أوباما الكاتب الألماني اليميني (المُستقرّ في «مؤسّسة هوفر» اليمينيّة)، جوزيف جوفي. صنّف جوفي أوباما على أنّه ينتمي إلى مدرسة الانعزاليّة في السياسة الخارجيّة في مقالة بعنوان «أوباما لا ينتمي إلى المدرسة الواقعيّة (في العلاقات الدوليّة)». وجوفي وفريقه في المحافظين الجدد يخافون من سقوط أميركا عن مرتبة القوّة العظمى الوحيدة في العالم، ويرون ان أوباما فوّت فرصاً عظيمة لاستعمال القوّة.
لكن من السذاجة التعويل على كلام أوباما على أنه مؤشّر إلى قطع بين سياسة أميركيّة خارجيّة وأخرى. قد يتذمّر أوباما وقد يعبّر عن حنق، لكنه في نهاية المطاف سينحني هو أمام ملك السعوديّة في زيارته المقبلة في الرياض، ولو طُلب منه سيشاهد رقصة العرضة من أمراء آل سعود وسيحمل سيفهم امام الكاميرات. وملك السعوديّة والأمراء لا يجرأون على معارضة مشيئة حاكم أميركا. هؤلاء الذين أصرّوا ان حرب اليمن لن تتوقّف إلا بطرد الحوثيّين من صنعاء، رضخوا لأوامر الحكومة الأميركيّة باستضافة الحوثيّين أنفسهم في المملكة للبحث في وقف الحرب. وعندما سيطلب هذا الرئيس أو مَن يخلفه أمراً من آل سعود، سينفّذون صاغرين على عادتهم.
إن عقيدة أوباما ليست إلا امتداداً لعقيدة بوش. ليست عقائد الرؤساء في عصر الإمبراطوريّة إلا اختلافاً في الأسلوب. هذه الإمبراطوريّة في عصر السيطرة الوحدانيّة تفرض العقائد والسياسات والاستراتيجيّات على الرؤساء، وليس بمستطاع الرؤساء إلا تغيير الأساليب وأشكال الحكم فقط. الرئاسة اكبر من شخص الرئيس الذي يُلقّب هنا «بزعيم العالم الحرّ» (وينقل هذا الوصف بعض الإعلام العربي، كأن «العالم الحرّ» —الذي يضمّ الديكتاتوريّات المطيعة للحكم الأميركي— أجرى انتخابات وقرّر فيها رفع الرئيس الأميركي إلى مرتبة زعيم الكرة الأرضيّة والمَجرّات). لكن عقيدة أوباما تأخذ في عين الاعتبار متغيّرات استراتيجيّة: ان الصين هي الخطر الداهم، وهي مصدر الخطر وهدف الاهتمام والترصّد، فيما تلقى أنظمة الخليج الاهتمام الذي يُقرّره اللوبي الصهيوني بحكم صلة القرابة المُستجدّة.
لن تتغيّر طبيعة علاقة الرئيس الأميركي المُقبل (كائناً من كان أو كانت) مع منطقة الشرق الأوسط. ستبقى إسرائيل قرّة العين، وسيبقى طغاة الخليج مطيعين صاغرين، وإن حاولوا التمرّد في بعض المفاصل لجرّ أميركا للمواجهة مع إيران. تتبع أنظمة الخليج سياسة «التوريط» التي انتهجتها حركة «فتح» في منتصف الستينيات مع الأنظمة العربيّة، والتي لم تؤدّ إلى توريط الأنظمة العربيّة في حروب مع إسرائيل لأن مصلحة الأنظمة كانت أعلى مرتبة من أي اعتبار، بل أدّت إلى وأد الكفاح المسلّح الذي بشّرت به «فتح». فشلت كل مساعي دول الخليج لتوريط أميركا في حروب ضد إيران وسوريا وحزب الله، غير الحروب السريّة والعلنيّة التي تقرّرها أميركا وإسرائيل من دون مشورة طغاة الخليج. لكن تذمّر حكّام الخليج زاد مع وصول رئيس أسود إلى سدّة الرئاسة. هؤلاء نشأوا في قصور كان الرجال السود فيها مُستعبدين قانوناً. وردود الفعل على تصاريح أوباما لم تخلُ من الإشارات إلى لون البشرة. وسمير عطالله اعترض على كلمة نابية استعملها أوباما في المقالة. الأبواق اللبنانيّة لآل سعود أكثر حرصاً على سمعة آل سعود من آل سعود.
إن التقليل من شأن دول الخليج في العقائد الرئاسيّة الأميركيّة سيكون له تأثيره على منطقة الشرق الأوسط. ستزيد دول الخليج من تقرّبها من دولة العدوّ الإسرائيلي وستستعين إسرائيل بدول الخليج لتزيد من حجّتها في تأجيج العداء ضد إيران وضد أي حركة تقاوم إسرائيل في المنطقة العربيّة. كما ان دول الخليج ستستعين بإسرائيل من أجل ان تحصل على مكاسب معيّنة من الكونغرس الأميركي خصوصاً إذا أرادت تجاوز رئيس لا ينتمي إلى حزب الأغلبيّة في الكونغرس. أي ان ليس مِن خيار لدول الخليج إلا التبعيّة: تبعيّة لأميركا وتبعيّة لدولة العدوّ الإسرائيلي. أي ان عقيدة طغاة الخليج هي التمسّك بوصفة رديفة للصهيونيّة —لكن باسم رداء العروبة والإسلام الذي بات حكّام إسرائيل يرفلون به.