رغم صخب أزمة الحزب الشيوعي، فالصمت والسريّة هما ما يطبع عملية التحضير لمؤتمره المؤجل أربع سنوات وأربع مرات. حتى ما كان تقليداً معتمداً، بنشر مشاريع وثائق المؤتمر قبل أشهر من إنعقاده، في وسائل الإعلام العامة والحزبية، بهدف عرض توجهات ومواقف الحزب من قضايا الوطن والمواطن وإثارة نقاش بشأنها، لم يخطر في بال أحد من المعنيين. ذلك أن كل الإهتمام محصور، من قبل الإدارة الحزبية، في الشأن التنظيمي وفي الآليات المتصلة بذلك، لفرض التجديد لتلك الإدارة خلافاً لنص النظام الداخلي الصريح والملزم (المادة الرابعة، البند الخامس). تقييم عمل الحزب خلال السنوات الثماني المنصرمة لم ينتهِ الا قبل أيام، أي أنه لن يكون مادة نقاش قبل المؤتمر وفيه (ولا بعده طبعاً)! تغييب التقييم يحصل للمرة الثانية (الأولى في المؤتمر العاشر قبل 8 سنوات) من قبل هذه الإدارة تهرّباً من وجع الرأس والمحاسبة وكشف الإرتكابات السياسية والتنظيمية والمالية والأخلاقية. لكن الإدارة الحالية الممدِّدة لنفسها، كالمجلس النيابي الحالي وقبله (!)، إضطرت لإجراء نقاش محصور وشكلي في التقييم بسبب إقدام المجموعة المعارضة في المكتب السياسي، على نشر تقييمها الخاص لعمل الحزب ولأسباب أزمته حمل توقيع عضو المكتب السياسي حنا غريب. وهي كانت قد هددت وعجزت، ثمّ ساومت، دون نجاح، على سحب التقييم المذكور الذي يحملها المسؤولية عن الطور الراهن من الأزمة وعن المستوى المخيف الذي بلغته. 
آخر عام ٢٠٠٣ انتُخِب معظم أعضاء القيادة الحالية. حرص هؤلاء، على مواصلة إطار تكتلي كانوا قد أنشأه بعضهم قبل سنوات بشكل سري وتآمري، وعلى إدارة عمل الحزب عبر هذا التكتُّل، ما جعل الهيئات الشرعية صاحبة القرار هيئات شكلية بالكامل (قدمتُ استقالتي من الأمانة المركزية، احتجاجاً، بداية عام ٢٠٠٧). تبيّن، تباعاًً، أن ما حصل، في المؤتمر التاسع المذكور، قد كان بداية إنقلاب شامل على مجمل السياسات والتوجهات الحيوية التجديدية التي تلاحقت، بهذه الدرجة أو تلك، منذ المؤتمر الثاني عام ١٩٦٨ حتى نهاية عام ٢٠٠٣. تبيّنَ أيضاً أن المجموعة تلك، استغلت الإنقسام السياسي الحاد الذي عصف بالحزب والبلد والمنطقة بعد الغزو الأميركي للعراق، لممارسة نشاط تنظيمي تكتلي فئوي مموّه وممرحل. ثمّ تبيّن أن تحضير وتنفيذ الإنقلاب قد تمّا بوسائل الخداع والمناورات والإشاعات الكاذبة والتزوير... ولقد تكثّفت هذه الأساليب الشاذة في السنوات الأربع الأخيرة إلى مستوى تعطيل النظام الداخلي (دستور الحزب) ولجنتي الرقابة القضائية والمالية، وتحويل الهيئات واللجان الشرعية إلى هياكل خاوية لا وظيفة لها إلا التصويت على قرارات متخذة سلفاً. وكان، قبل ذلك، قد تم إلغاء «المجلس الوطني» الذي كان يعادل برلماناً في مجال التشريع والرقابة، وإعادة العمل بصيغة اللجنة المركزية. وإستُكملت هذه جميعاً باستهداف المعارضين بالإتهامات والتحريض والتشكيك والاقصاء والفصل... وذلك عبر فبركة ملفات كاذبة دون تحقُّق أو تحقيق، وحيث كان الأمين العام هو الخصم والحكم في الوقت عينه! وكان «طبيعياً»، بالمقابل أن تُهمل ارتكابات سياسية، وسياسية ــ مالية (من نوع تلقي أموال في الإنتخابات النيابية الأخيرة دون قرار ولا معرفة من قبل المكتب السياسي لا قبل ولا بعد!)، وسياسية - مالية - إعلامية (كمشروع «اليسارية» الذي فشل قبل أن يبدأ وتحول من «حلم» الى كابوس)، وسلوكية (من نوع استخدام الموقع الحزبي من أجل الحصول على مكسب خاص عبر «الواسطة» كما كشفت جريدة «السفير»...
لم تعبأ القيادة الممدّدة لنفسها بما أصاب الحزب من تفكك وتشتت وضياع وتراجع وخسائر سياسية ومعنوية وتنظيمية (رفعت شعار «منكمل بلّي بقيو»). هي واصلت نهجها الإنقلابي، بالتنسيق مع جهات سورية وعربية وخارجية مشابهة لها، مستلهمة سياسات وممارسات الزعيم الشيوعي السوري الراحل خالد بكداش، التي كان الشيوعيُون اللبنانيون قد انتفضوا عليها وعلى صاحبها في مؤتمرهم التاريخي عام 1968(الحزبان كانا موحدين حتى 1964). والبكداشية هي نهج قام على فردية تسلطية ستالينية مفرطة ومتعسفة (كان أبرز ضحاياها الشهيد القائد فرج الله الحلو ومئات المثقفين والمناضلين)، وعلى تنكُر وإنكار للقضايا القومية التحررية، وعلى تزمت وجمود عقائديين، وعلى ولاء مطلق لسياسة الدولة السوفياتية وتكرار ببغائي لمواقفها وشعاراتها ودعايتها... من نتائج ذلك، على البناء الداخلي للحزب، استشراء الفردية والتفرد، وتقديم الولاء للقيادة على الكفاءة والكفاحية، وإشاعة ذهنية الشك والحذر والتستر على حساب الشفافية والصراحة والمشاركة والثقة، وتعطيل شروط ومستلزمات بناء المؤسسة لحساب المزاج والإستنساب والمصالح الشخصية...
أُولى الضحايا كانت شبيبة الحزب وحضورها ودورها، في امتداد خسارة شاملة لمرتكزات هوية ونفوذ وقوة الحزب في الميادين والقطاعات الشعبية والعمالية والنقابية والطلابية والثقافية والإعلامية... ما جعل مسألة تهميشه مسؤولية قيادته قبل خصومه، وجعل الشعار الفعلي: «منكمل علّي بقيو» وليس معهم!
من خلال تمادي وتفاقم أزمة الحزب الشيوعي (لا يُذكر إلا للحديث عنها) فقد اليسار اللبناني والعربي قوة دفع ومبادرة قدمت إسهامات مشهودة في حقول عديدة: فكرية وسياسية وتنظيمية وإعلامية وتجديدية... وكانت الكتلة التي تسللت إلى قيادته قد باشرت نشاطها بتدمير علاقته وتحالفاته وإغراقه في عزلة داخلية وخارجية، ومحاولة تغطية ذلك بضجيج كلامي «يساري» دعائي يتميز بالتركيز على العصبيات والإنقطاع عن الواقع.
في مجرى ذلك أُخليت الساحة لتحالفي 8 و14 آذار، بل أن الحزب نفسه قد أصبح مادة تجاذب بينهما وإستقطاب للعديد من أعضائه من قبلهما، فأضاع موقعه، وبالتالي، الموقع التقدمي اليساري الديموقراطي المستقل الذي كان إيجاده وتفعليه في صلب أولويات الحزب، خصوصاً منذ أواخر ستينيات القرن الماضي (إحدى ثماره إنشاء جبهة المقاومة ضد العدو الصهيوني). ولقد أدى ذلك، في السنوات الأخيرة خصوصاً، إلى حرمان التحركات والمبادرات الشعبية والنقابية من الحاضنة السياسية المطلوبة، الحزبية والجبهوية، لمواجهة سياسات السلطة وفسادها واستهتارها بمصالح الوطن والمواطن.
يأتي الحزب اليوم إلى مؤتمره مضرّجاً بأزمته، مرهقاً بصراع مقطوع الصلة بالتنافس الصحي ومنحرف نحو الشخصانية والفئوية، ما يجعل مهمة القوى المعارضة الحريصة صعبة ومعقدة بعد أن نجحت القيادة في تخييب و«تطفيش» الأكثرية لتقتصر عضوية الحزب الفعلية على بضع مئات تحرك معظمهم دوافع عاطفية دون أي نشاطية أو تطلُب، الأمر الذي يطرح، بين أمور خطيرة أخرى، شرعية المؤتمر حيث تفرض اللوائح الداخلية مشاركة ثلثي أعضاء الحزب المسجلين فيه، ليكون مؤتمره شرعياً. الأسوأ، أن القيادة تتسلط بالكامل على عملية التحضير وتحديد اللوائح، بعد أن عطّلت «لجنة الإشراف»، ورفضت كل الدعوات المخلصة لتشكيل لجنة تحضيرية موسّعة وفاعلة تكون خطوة أولى في مسار طويل ومعقّد للخروج من الأزمة. لكن ينبغي القول بأن النقمة على القيادة قد بلغت ذروتها وأن جهودا متواصلة تبذل من أجل ترجمة ذلك في منتصف الشهر المقبل.
يحتاج الحزب الشيوعي وكل اليسار وقوى التغيير الديموقراطي إلى إعادة بلورة موقعهما وبرنامجهما المستقلين. لن يحصل ذلك إلا بإحداث تحوُّل جذري، بحجم انتفاضة، في المقاربات والإستنتاجات والصيغ.
* كاتب وسياسي لبناني