لم يكن خافياً الدور الذي أدّته الأجهزة الأمنية الغربية، والإقليمية، والعربية في الأزمة السورية منذ بدايتها، في خدمة أجندات دولها الخاصة، مستغلةً حراك الشعب السوري في سبيل بعض حقوقه، أسوة ببقية الشعوب العربية التي انتفضت ضد أنظمتها مطالبة بالحرية والديمقراطية، لكن اللافت هو أن تتحدّد سياسات الدول الغربية والإقليمية والعربية الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السورية من قبل الأجهزة الأمنية فيها، أو أن يكون لها الدور الحاسم، على الأقل، كما تشي بذلك وقائع كثيرة. فبين مؤتمر «برلين» الأمني، الذي عقد بمشاركة رؤساء الأجهزة الأمنية في كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية وقطر وتركيا، ومؤتمر «كان» الذي اقتصر الحضور فيه على رؤساء الأجهزة الأمنية في كل من السعودية وأميركا وفرنسا وبريطانيا، جرت تحولات مهمة وذات مغذى على صعيد سياسات هذه الدول، بل سياسات ما يمكن تسميته الحلف الغربي عموماً، تجاه سوريا.من المعلوم أنّ تركيا وقطر كانتا دولتين صديقتين للنظام السوري، قبل بدء انتفاضة الشعب السوري في أواسط شهر آذار من عام 2011 ضده. وكان للنظام السوري دور بارز في دخول تركيا إلى سوريا، ومن خلالها إلى بقية الدول العربية، عبر البوابة الثقافية أولاً (دبلجة المسلسلات التركية)، حتى وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو ثلاثة مليارات دولار، وفتحت الحدود بين الدولتين. كما كان له دور في تأمين غطاء عربي وإقليمي (إيران خصوصاً) لقطر بشأن خلافاتها السياسية وغير السياسية مع المملكة العربية السعودية، لكن اللافت أنه منذ شهر آذار من عام 2011 بدأت تركيا وقطر توتران علاقاتهما بالنظام تحت عنوان الانحياز للشعب السوري، ومع مجريات الأحداث السورية التي كان للدولتين دور كبير في تصعيدها، صارت تركيا الدولة الرئيسية التي يمر السلاح والمقاتلون الأجانب عبر حدودها، وصارت قطر الدولة الأولى التي تمول تسليح المقاتلين وتدريبهم.
لكن مع بدء ظهور نتائج الدبلوماسية الاستخبارية السرية الأميركية والغربية عموما إلى العلن، في ما يخص الملف النووي الإيراني، وكذلك السلاح الكيميائي السوري، وانكشاف مسرحية الضربة العسكرية لسوريا، بدأت تجري تحولات في المواقف السياسية لهذه الدول تجاه سوريا وأزمتها، وضعت مخارجها الأجهزة الأمنية لهذه الدول. ففي «مؤتمر برلين الأمني» وضعت اللمسات الأخيرة لتحولات مهمة، وذات مغزى في سياسات الحلف الغربي تجاه سوريا. بدأت هذه التحولات بتغيير في موقع السلطة الأول في قطر بتنحي «الحمدين» من آل ثاني، والإتيان بتميم ولي العهد، بإخراج رسمي (مسرحي) من حيث المظهر (تسليم وتسلّم)، لكن بترويج استخباريّ على أنه نوع من الانقلاب الأبيض نفذه الولد تميم تجاه والده حمد، في تكرار ثان لتجربة حمد تجاه أبيه. وكجزء من هذه التحولات جاءت موافقة قطر على الطلب الأميركي بنقل ملف سوريا من يدها إلى أيدي السعوديين، وتحديداً إلى يد بندر بن سلطان، وصولاً إلى محاولة إعادة مد الجسور مع النظام السوري عبر بوابة حزب الله. أما في ما يخص تحولات السياسة التركية، فقد بدأت تأخذ أشكالاً كثيرة، منها الحدّ من دخول المقاتلين الأجانب والسلاح عبر أراضيها إلى سوريا، والتركيز في وسائل إعلامها، وفي تصريحات مسؤوليها على تنامي حضور ودور القوى الإرهابية في سوريا، وما يمثله ذلك من خطر على تركيا ذاتها. ومنها أيضاً الشروع في بناء جدار عازل على الحدود التركية السورية في مناطق شمال شرق سوريا، بالتزامن مع تحسين علاقات تركيا مع إيران والعراق، الدولتين الحليفتين للنظام السوري، وموافقتها على المشاركة في مؤتمر «جنيف 2».
وإذا كان قد نجح بندر بن سلطان بمنع مشاركة تركيا وقطر في مؤتمر «كان»، بذريعة أنهما قد فشلتا في إدارة الملف السوري، فإنه فشل في إقناع زملائه بخطته لإسقاط النظام السوري. فما كانت تريده أميركا من الأزمة في سورية يختلف عما تريده السعودية، إذ إنّ أميركا لم تكن يوماً جادة في إسقاط النظام السوري، رغم تصريحات مسؤوليها المتكررة حول ضرورة تنحي رئيسه كمدخل لأي حل سياسي للأزمة، على عكس ما تريده السعودية. لذلك بعدما عرض بندر خطته، علق المسؤول الأميركي في الاجتماع عليها بالقول: «إن أموراً مهمة مستجدة حصلت في المنطقة لا يمكن تجاهلها، بل ترغمنا على إعادة النظر في حساباتنا وفي سياساتنا»، وكان يلمح إلى الاتفاق الوشيك مع إيران حول مشروعها النووي، وكذلك إلى موافقة النظام السوري على التخلي عن سلاحه الكيميائي، وتدميره، إضافة إلى التغيرات التي حصلت في مصر.
بالنسبة إلى السعودية مثل توصل الدول الغربية (مجموعة 5+1) إلى اتفاق محتمل مع إيران حول ملفها النووي طعنة في ظهرها، لأنها لم تُستشَر فيه مسبقاً. ولم تُستشَر أيضاً في المساومات التي رافقت موافقة النظام على التخلي عن سلاحه الكيميائي، لذلك فإنها، عمدت إلى الردّ من خلال دعمها للانقلاب في مصر على حكم محمد مرسي، وهذا ما أزعج أميركا. فبحسب تقرير منشور عما جرى في مؤتمر «كان»، قال المسؤول الاستخباري الأميركي لبندر بن سلطان «إنّ سمو الأمير لا يعلم جيداً حقيقة ما يجري في مصر... وإن كان سمو الأمير يعتقد أن هذا الانقلاب هو لمصلحته ومصلحتنا فهو واهم... نحن ننظر بخطورة كبرى لما يحدث في مصر...».
وفي ما يخص «الأزمة السورية» وانعكاسها على دول الخليج، يقول المسؤول الاستخباري الأميركي «أطالبكم بالمزيد من التأني واستخلاص العبر (مما يجري في سوريا)... فالاستقرار الهش الآن في الخليج يمكن أن ينفجر في أي لحظة. علينا أن نكون يقظين لنخرج من هذه الأزمة بأقل الخسائر».
هكذا إذاً، فإن الخروج بـ«أقل الخسائر»، في سوريا هو الذي يفسر الحماسة الشديدة لأميركا لعقد مؤتمر «جنيف 2»! ومن أجل تسهيل انعقاده، ضغطت أميركا على حلفائها، وخصوصاً المعارضة السورية المنضوية في إطار الائتلاف الوطني، لقبول المشاركة فيه، بل لقبول الرؤية الروسية للحل بحسب بعض المصادر الصحافية. لقد صارت محاربة الإرهاب أولوية بالنسبة إلى أميركا، ومن أجل ذلك، لا بد من المحافظة على مؤسسات الدولة، وخصوصاً، الجيش السوري والمؤسسات الأمنية. أي، بكلمات أخرى، قبول مرجعيتها الرئاسية، على الأقل حتى الانتهاء من إنجاز هذه المهمة، التي، كما تشير الوقائع على الأرض، لن تكون سهلة، وتحتاج إلى زمن أطول من مدة أية مرحلة انتقالية يجري الحديث عنها.
* رئيس مكتب الاعلام
في «هيئة التنسيق الوطنية» السورية