في النص التالي، محاولة لإيضاح العلاقة الجدلية التي تربط الوطنية الأردنية بالمديين الوحدويين، الشامي والمشرقي. وهي ثلاثة مجالات اشتغلتُ عليها، وتمثل عناصر عملي الفكري ونشاطي السياسي. وإذا كانت النقاط البرنامجية أكثر قدرة على نبذ الالتباسات، فإنني أوجزها كالآتي:
أولاً، تتكون بلاد الشام من أقاليم ذات شخصيات خاصة. ولا تظهر العبقرية الشامية في التماثل الداخلي، بل في غنى الاختلاف السوسيوثقافي في إطار وحدة المجال الجيوسياسيّ. الشام ليست كمصر الواحدية، بل هي سياق واحد من التعددية الفريدة، يستكملها السياق العراقي في كيان يقترح، مرة بعد مرة، معاني متجددة لحضارة من التراكمات التاريخية، لا يمكن إلغاء تنوّعها، ولا يمكن القفز فوق وحدتها في تميّزها الكونيّ. وسأقارب، هنا، أحد الأقاليم التي تشكّل الشام التاريخية، شرق الأردن أو حوران الكبرى؛ إقليم يفقد هويته الخاصة بالانفصال، ويجدها، بل لا يمكنه أن يجدها إلا في الاتحاد الشامي.
ثانياً، نحن نتبنى، انطلاقاً من الاحتياجات الموضوعية لإقليم شرق الأردن، مهمة اندراجه في اتحاد فدرالي أو كونفدرالي مع سوريا. ومن هنا يأتي إلحاحنا على خوض المعركة الفكرية السياسية الاجتماعية في البلد الأم، من أجل نبذ النيوليبرالية، وإعادة البناء على أساسي التنمية المستقلة القائمة على التصنيع، والديموقراطية الاجتماعية. وفي رأينا أنّ سوريا الجديدة سوف تكون قادرة، تحديداً من خلال إنجاز مشروع تنموي وطني اجتماعي، على اجتذاب الأطراف الشامية إليها، بما يجعل من إقامة الفدرالية السورية، مهمة مطروحة للنضال السياسي، في المدى المنظور.
ثالثاً، الإقليم الأردني ـــ الحوراني الذي يقع معظمه، اليوم، في المملكة الأردنية، وبعضه في الجمهورية العربية السورية، هو، من الناحية التاريخية والديموغرافية والسوسيوثقافية، واحدٌ، لكنه ليس، فقط، عضواً أصيلاً في وحدة الشام، وإنما، أيضاً، هو رابطٌ إضافي ثانٍ، إلى جانب الجزيرة الفراتية، في وحدة الشام والعراق.

(1)


«أحزان صحراوية» (1)... هكذا لخّص تيسير سبول، بصورة بليغة، جارحة، مستعلية، المحتوى الشعوري للأردنيين، الذي بقي ملتبساً بحياتهم من أصولهم الصحراوية، بينما هم يكافحون للعيش في «جنان الأردن». (2)
العشائر التي قدمت من الصحراء، لم تتوغَّل إلى السواحل؛ بقيتْ على سيف الصحراء، حيث يقع موطنها الفلاحي. العشائر البدوية المقاتلة استقرت في سلسلة جبال شرق الأردن، أخذت تزرع الحنطة والكروم من دون أن تنسى ماضيها الرعويّ.
ليسوا بدواً ولا فلاحين، بل شيء بينهما، لا قرويين مسالمين ولا صحراويين غزاة.
يدٌ على المحراث، وأخرى على البندقية.

(2)


أقدم عشائر الأردن، عشائر الحويطات، لا تزال تعيش في البادية. لكن، إذا أخذنا بالنظرية التي تقول إن الحويطات هم بقايا الأنباط، فسندرك أن هذه العشائر خضعت في تاريخها للقانون الأساسي للتكوّن الاجتماعي ـــ السياسي لشرق الأردن؛ كانت بدويةً ثم تحضّرتْ باستقرارها في الدولة النبطية، ثم تبدّتْ مع انهيار هذه الدولة.
القانون ذاك هو الآتي: القبائل تأتي من الصحراء، تستقر وتنتقل إلى الفلاحة، وتنشئ دولة أو تحمل وتدعم دولة قائمة في الإقليم. وحالما تنهار هذه الدولة، ينهار معها الاستقرار الفلاحي، وتعود القبائل إلى التبدّي. وهكذا...
الهجرات الأساسية إلى إقليم شرق الأردن هي هجرات بدوية استفلحتْ من دون أن تفقد تنظيمها القتالي. وفي هذه التركيبة البدوية ـــ الفلاحية، تشكلت شخصية الإقليم التي تفرض طابعها السياسي والثقافي على المهاجرين من الفلاحين والتجّار والحرفيين. وهي، بذلك، أردنت الدمشقيين والفلسطينيين (قبل 48) والشركس والشيشان، وأحياناً حتى الهوس...
في رواية سلطانة (3) للكاتب الكبير غالب هلسا، يهجر ابن التاجر الفلسطيني الوافد، دكان والده، وينتسب لأخواله العوازم... يهمل التجارة، ويقع في غرام الخيل والبندقية.
خرجت الهجرة الفلسطينية لما بعد 48 عن هذا القانون، أولاً، بسبب كثافتها العددية المفاجئة، وثانياً، بسبب كونها نجمت عن تهجير قسري، تفرض القتال من أجل العودة. والعودة تتحقق، فقط، في تحضير الهضاب للمقاومة...
في الميدان لا في السوق... في المصانع لا في الفنادق. في الخنادق لا في القصور.
في الحقول لا في مزارع عطلة نهاية الأسبوع، مزارع الأثرياء المطلّة على الأرض المغتصبة.
الكيان الصهيوني هو العدوّ الأول لشرق الأردن: أغلقَ الساحل، اقتطع طبريّا واغتصبَ النهر، ونصفَ المنفذ البحري الوحيد في العقبة، وحطّم المجتمع الشقيق، غربيّ النهر، والعلاقات الطبيعية معه.
العدوّ الثاني هو السعودية الوهّابية التي لم تتوقف عن غزو الإقليم الأردني، حتى منتصف العشرينيات، واقتطعت منه المنطقة الاستراتيجية لحياة البادية، وادي السرحان، ذلك الوادي المغتَصب كان الثمن المؤلم لوقف الغزوات التي توقفت بالبنادق، لكنها استمرت، حتى اليوم، بسلاح الإخضاع المالي والتخريب السياسي والثقافي.

(3)


كُتِبَ عليكم القتال.
التاريخ ينتظر من شرق الأردن، أتاوة الحضور التاريخي. هل هنالك سوى العرق والدم، ما يحقق المبادرة الكبرى؟
ليس لهواً أن تكون ابن الهضاب المفتوحة على صحراء العرب، وتحتكَ فلسطين محتلةً! تلك اللحظة التي أسس فيها صلاح الدين الأيوبي مملكة التحرير في هضابنا المنذورة، أبداً، لاسترداد بيت المقدس (4)
لا تقل مثل رجل الأعمال الكمبرادوري: هذه سوق أحتلبها.
لا تقل مثل الشاعر المعولم الغريب: هذه صحراء لا أعرفها.
قل مع المقاوِم: كل نبضة قلب، كل لحظة جهد... للمعركة.
كُتِبَ عليكم القتال !

(4)


في إقليم شرق الأردن، تتداخل الصحراء والبادية وترتفع الجبالُ الخضراءُ وتهبطُ رويداً رويداً بلا قطيعة ولا انقطاع، سوى تلك الأودية التي يلتقي عليها، ويتقاتل في سبيلها روّاد الماء: «عدْ ارجالك ورِدِ الميّ»، لكن، حين تنهض الدولة الوطنية، توحّد الموارد وتوزّعها للخضرة والفائض، ولا تبددها كما يفعل تجّار العقارات. هنا، في سيل ماء بين البلقاء والبادية، طلب نمر العدوان، البدويّ ـــ الفلاح، أمير حلف البدو ـــ الفلاحين، حلف البلقا، من وضحا البدوية من بني صخر، شربةَ ماء... وقلبَها.
وَجْدُ العدوانيّ بفتاة بني صخر... وجدٌ يهجس بالبادية... وهل يطلب البلقاويّ الماء من بدوية، إلا إذا كان ماء الجذور؟
لكن نمر العدوان كان صاحب رؤية تتجاوز الانقسام... كان يتطلع إلى موطن يرتفع من الغور إلى سلسلة الهضاب وينفتح على البادية. كان يحلم بعقد اجتماعي سياسي جديد يدمج الهويات الفرعية والانقسامات والغزوات إلى فضاء تفاعلي جسّده هو، بالذات، في الحب الصريح، في تمجيد الأنثى (الخصوبة والسلام والسكن) وفي القصيدة... في لهجة تحاول استيعاب اللهجات، وإيقاع يستخلص الإيقاعات. (5)

(5)


إقليم شرق الأردن لا يتطابق مع المملكة الأردنية الحالية: حدوده الغربية مرسومة بنهر الأردن إلا أنها مفتوحة في موقعين: طبريا ـــ التي كانت عاصمة جند الأردن ـــ ووادي عربة المفتوح على صحراء النقب، حيث امتدت المستوطنات النبطية.
شرقاً، يبدأ الإقليم من الزور، الأرض المحاذية للنهر المقدس، فالغور، أوطأ منطقة في العالم تحت سطح البحر، ثم يشهق ارتفاعاً إلى سلسلة جبال عجلون والسلط والكرك والشراه، ثم تهبط هذه الجبال، بحنان، نحو شرق مفتوح على البادية، فالصحراء. لا حاجز يفصل بين الإقليم والصحراء التي تتدخل مع المناطق الرطبة، في مواقع عديدة، تلتفّ على الجبال نحو الغور، وتحيط، أحياناً، بالمدن، تقترب منها، تحاذيها أو تشير إليها عن قرب.
لكن الإقليم يغزو الصحراء أيضاً، كما في وادي السرحان الذي اقتطعه آل سعود، فانقطعت دورة الحياة البدوية، وعمَّ الجوع، وذهب الرعاة الفرسان إلى معسكرات الصفيح.
جنوباً، ترك لنا الأنباط خريطة أخرى تجعل العقبة ميناءً داخلياً في الإقليم الذي وصل وتواصل وبنى... حتى تبوك. هنا، نتحدث عن الامتداد الاجتماعي ـــ السياسي الممكن للإقليم حين ازدهاره، فيما ضمّته السعودية من أرض الشام...
شمالاً، الحدود مفتوحة بالاتجاهين. جغراطبيعياً: حوران كلها، والجولان، هما امتداد لشرق الأردن... لكن، جيوبوليتيكياً، إقليم شرق الأردن كله هو جزء من الداخل السوري.

(6)


في السياسة الحديثة، كان الإقليم الأردني قسماً من المملكة العربية السورية التي أرادها الوطنيون شاملة لبلاد الشام كلها، لكن اتفاقية سايكس ـــ بيكو، أخرجت منها، جبل لبنان وفلسطين. ثم في اتفاقية سان ريمو، جرى تحطيم وحدة الداخل السوري.
تلك كانت، ولا تزال... حقيقة استعمارية عابرة، لم يتعاطَ معها زعماء الحركة الوطنية المجتمعون في مؤتمر تأسيس الكيان الأردني في «أم قيس»، عام 1920، ولذلك، كان بين الحضور ممثلو المناطق الحورانية ـــ الجولانية، وكان العلم المقترح راية للدولة الأردنية، هو العلم السوري ذو النجمة، علم الأردن.
لقد تأسست الوطنية الأردنية بالأساس، إذاً، كذراع للاتحاد السوري.
في السياسة القديمة، امتدت مملكة الأنباط حتى دمشق. كذلك، كان إقليم شرق الأردن الطبيعي مَراحاً لمملكة الغساسنة، ثم موئلاً للخلافة الأموية، قبل أن تندثر شخصيته السياسية مع العباسيين.
قاتلت قبائل شرق الأردن، حتى آخر قطرة دم، دفاعاً عن الأمويين، فاستحقت غضب بني العباس، رغم أن حصن دعوتهم كان في الحميمة من الإقليم الذي رمته الطبيعة، في الوقت نفسه، بزلزال مدمر (6)، فاجتمع عليه الزلزالان: السياسي والطبيعي لتطوى صفحة الإقليم قروناً حتى مجيء صلاح الدين.
شخصية إقليم شرق الأردن ـــ مثل شخصية الوطن السوري الأم ـــ مجروحة بالاقتطاعات الاستعمارية.
ولا مناص من أن يستردّ الوطن الأم كامل فضائه من جبال طوروس حتى سيناء، داخل هذا الفضاء، لا مناص من أن يسترد إقليم شرق الأردن فضاءه أيضاً.
في اتحاد شامي فدرالي يمكن لإقليم شرق الأردن أن يسترد فضاءه الحوراني ـــ الجولاني كاملاً. لكن لا بد من القتال في الشمال لاسترداد طبريا والنهر ومياهه، وفي الجنوب لاسترداد الجزء المسلوب من العقبة المسمى «إيلات»، وفي الشرق... لاسترداد وادي السرحان.


(7)


بالمعنى الملموس: حدود شرق الأردن وسوريا (أعني الجمهورية الحالية) لا تتعارضان، بل تتكاملان. وفي إطار فدرالية ديموقراطية تستعيد الحدود السياسية للوطن الأم. في الوطن الأم الجامع، يمكن للإقليم الأردني أن يسترد حدوده الطبيعية، وتزدهر شخصيته الخاصة.
يستعيد هذا التصوّر التركيب الاجتماعي السياسي للدولة الأموية. ستكون دمشق في قلب الدولة الفدرالية، لا على حدودها، ويكون الإقليم ممتداً في فضائه الطبيعي. ومع ممارسة نفوذ سياسي محكم على لبنان لضبط إيقاعه مع الداخل، يمكننا التوصل، لأول مرة، إلى توحيد الشام سياسياً لإنجاز المهمات الكبرى الثلاث: تفكيك إسرائيل ـــ إدماج فلسطين الديموقراطية، التعاقد الاتحادي مع العراق، استرداد لواء الاسكندرون... والقيام بالانقلاب التنموي ـــ الديموقراطي.
المشرق (بديموغرافيته الكثيفة والحيوية وجيوسياسيته الفريدة وقدراته المجتمعية والإنتاجية والسياسية والثقافية) سوف يُخضع الجزيرة، ويحضّرها، أو يهمّشها.
لقد حدث ذلك مرتين... مع الأمويين والعباسيين. وليس هنالك أفق سواه.
مركزية آسيا العربية لا يمكن أن تكون إلا في المشرق. لاحظوا: ما إن أصبح الإسلام دولة كبرى حتى انتقل من الجزيرة إلى الشام، ومن ثم إلى الرافدين.

(8)


شرق الأردن ليس جبل لبنان المنفصل، ولا هو حلب المتصلة. إنه غيرهما: متصل ـــ منفصل: مجتمع محلي ذو تكوين ثقافي خاص (7) يتطلّع لاسترداد شرعيّة حضوره، في السياق الشامي ـــ المشرقي.
شرق الأردن ليس فلسطين الساحلية ولا الفلاة الصحراوية، بل هضبات الداخل: جناحُ دمشقَ الشرقيّ، جناحُ بغدادَ الغربي... حيّزٌ ابتكرته الطبيعة من أجل التاريخ، حيّزٌ ظهر، في السياسة الإقليمية، ثم اختفى، ظهر واختفى... ومنذ أن أطلقه مؤسسه الحديث صلاح الدين الأيوبي ما يزال يفتح أبواب التاريخ، ببطء شديد، خطوة إلى الأمام، ثلاث إلى الوراء، لكنه ينحت حضوره بثبات. ولسوف يأتي زمانه.

هوامش:

(1) أحزان صحراوية مجموعة شعرية للشاعر القتيل.
(2) كما وصفها الرسول (ص).
(3) رواية «سلطانة» للروائي الراحل غالب هلسا، في الأعمال الكاملة، دار أزمنة، عمان 2002.
(4) اتجهت السياسة الأيوبية لتأسيس كيان سياسي محلي متماسك في الهضاب الأردنية، في سياق استراتيجية المواجهة مع الصليبيين في فلسطين. يركّز المؤرخون، عادة، على التوحيد الأيوبي لمصر والشام، لكن، في الصراع المحتدم مع الغزاة المستوطنين، لعب الكيان السياسي الأيوبي في شرق الأردن دور قاعدة التحرير. المعركة الكبرى مع الصليبيين حدثت في حطين من أعمال شرق الأردن.
(5) يسمي الأرادنة، بحور الشعر الشعبي «جرّات». نمر العدوان لم يكتب على جرّة دارجة، لقد ابتكر «جرّة نمر العدوان».
(6) ضرب زلزال عنيف مدمر شرق الأردن عام 748 ميلادية، بعدها بسنتين انهارت الخلافة الأموية 750 ميلادية. الزلزالان الطبيعي والسياسي، وجّها ضربة لحضور شرق الأردن في التاريخ، وأديا إلى تحول مضاد من التحضّر إلى التبدي.
(7) صلاح الدين الأيوبي هو الذي سنّن البلاد، أي أدرجها في المذهب السني. قبله كانت نصف وثنية ـــ نصف مسيحية مشرقية ـــ نصف شيعية. تلك المؤثرات ما تزال تشتغل في حياة الأردنيين. على كل حال، لم يعرف الأردنيون، الإفراط في التدين أو التعصّب الديني أو الطائفي. يكفي، لتدرك ذلك، أن تتوقف أمام بنية الاندماج التي ابتدعها الأرادنة للتوحيد الاجتماعي بين العشائر المسلمة وتلك المسيحية من خلال توزّع الأخيرة على التحالفات القبلية. في الخلفية، بالطبع، هنالك الثقافة المشتركة لعروبة صافية متجذرة في وجدان العشائر، بغضّ النظر عن دينها. لم تختلط عشائر شرق الأردن بالأتراك أو الفرس أو سواهم ممن طعّموا الثقافات المحلية في الحواضر، بمؤثراتهم.