في مواضيع عديدة، للكلام في لبنان، وعلى لسان معظم سياسييه، وظيفة محض دعائية، (بروباغندا رخيصة ومبتذلة أحياناً). يحصل ذلك حين يتناول السياسيون مسائل من نوع السيادة، ورفض الطائفية والمذهبية، وصحة التمثيل في الانتخابات ونزاهتها، وبناء دولة القانون والمؤسسات... إلى مسائل حياد لبنان أو تحييده، أو العلاقة مع الخارج. هذا، طبعاً، إلى عناوين اجتماعية من نوع محاربة الغلاء ومراقبة الأسعار، ودفع عجلة الاقتصاد، ووقف الهدر، وسوء استخدام الوظيفة، والاعتداء على الأموال العامة، وتقاسم خزينة الدولة ومرافقها ومرافئها.
لكن بعض الكلام الآخر، ليس من هذا النوع على الاطلاق. ثمة، في الحقيقة، كلام «جديد» يشق طريقه بسرعة، هذه الأيام، ليحتل موقع الصدارة في الخطب والمواقف والتصريحات المكتوبة والمسموعة والمرئية. وهذا الكلام، الذي كان بعضه يقال في السر، أو بصيغ مواربة وغير مباشرة، يشق طريقه بسرعة أكبر في أوساط شعبية واسعة. وهو يتخذ هناك، في القول والممارسة، أشكالاً بالغة التفلت والتصعيد والاستفزاز. ويشارك رجال دين وروحيون (بزعمهم)، في إضفاء صفة عقائدية وإيمانية على هذا المسار، مما يعزز التعصب ويدفعه الى مستوى التطرف الأعمى على ما نسمع ونشاهد في العمليات الانتحارية التي باتت جزءاً من المشهد السياسي ــ الصراعي القائم في غير بلد وموقع وجهة، وصولاً، طبعاً، إلى لبنان.
أما عن الدعم والاستخدام والتشجيع من قبل أطراف الصراع فحدّث ولا حرج. فمسار التطرف يتمتع برفد دائم وسخي، مالي واستخباري، من قِبل قوى مقتدرة، باتت لها «فروع» خاصة بها تعمل، بالكامل، وفق سياساتها وأغراضها وأهدافها.
التصعيد سياسي في الدرجة الأولى. وهو يتهدد، أول ما يتهدد، منظومة مفاهيم وقيم وطنية وقومية وحتى إنسانية. فتعبير «العدو الإسرائيلي» لم يعد أكثر من «لغة خشبية». أكثر من ذلك، لقد بات هذا العدو حليفاً وصديقاً بالنسبة إلى بيئات واسعة. ولم يعد من «المستغرب» أن يجري، من قبل قادة وسياسيين ممثلي أحزاب أو جبهات أو تجمعات أو تيارات، الدفاع عن إسرائيل واستبعاد دورها التخريبي. أما المقاومة فباتت مجرد ذريعة لأمر آخر، هو حمل السلاح وتوجيهه واستخدامه بغرض الصراع الداخلي، السياسي والمذهبي...
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى إسرائيل، فكيف بالنسبة إلى جهات أخرى، «كانت» تصنف في عداد الأعداء، تحديداً أو أساساً، بسبب دعمها للعدو الصهيوني. ينطبق ذلك، في الدرجة الأولى، على الولايات المتحدة الأميركية. فعشية مشروع الضربة الأميركية ضد سوريا، منذ حوالى شهرين، بلغت الانفعالات السياسية والشعبية مستوى مدهشاً. كانت «الآمال» معقودة على هذه الضربة وعلى ألا تكون مجرد عملية «رفع عتب»: أي أن تكون جذرية وجدية بحيث تكون لها الكلمة الفاصلة في إسقاط النظام السوري وتحقيق الأهداف الكاملة لخصومه في الداخل والخارج. ولا يسعنا إلا أن نتذكر في هذا السياق ما نسب إلى الأمير الوليد بن طلال، وهو من المرشحين للعب دور مقرر في بلاده، في المرحلة المقبلة، من أنّه يرحّب بضربة إسرائيلية لإيران «الشيعية» لأنّ أهل «السنّة» لم يعودوا يتحملون السياسات الإيرانية ضدهم، في الخليج، وعلى امتداد العالم العربي والاسلامي!
إن اضفاء الطابع المذهبي على الصراع الذي هو، أساساً، صراع سياسي واجتماعي، قد بلغ ذروة غير مسبوقة. والانخراط في ذلك من دون ضوابط وحسابات، هو ما وفر ويستمر في توفير البيئة المناسبة لنمو الاتجاهات العنيفة والتكفيرية والإلغائية والارهابية. وقد يأتي وقت لم يعد بعيداً، حيث تصبح الاتجاهات المتطرفة هي صاحبة الكلمة الأولى في تقرير مسار الأحداث. هذا يحدث الآن في غير منطقة من لبنان (والعالم العربي والاسلامي). ولا تبدو ردود الفعل من قِبل الجهات الصديقة والداعمة والمستخدمة، بمستوى الخطر المخيف الذي يشكله ذلك على هذه الجهات نفسها.
إن دعم الاتجاهات المتطرفة والتعويل عليها واستحداث فروع لها، إنما كان، منذ البدء بمثابة عملية «لحس المبرد». وهي باتت الآن، وبشكل متصاعد، خارج السيطرة. بل إنّ البعض ما زال يمارس سياسة النعامة حيال هذا الأمر: أي سياسة أوهام ممزوجة بالكثير من العجز والغباء والآمال الزائفة.
طرابلس مثل حي على ذلك! من أفغانستان إلى باكستان إلى دول أخرى في المشرق العربي والاسلامي، تتكرر مهازل ومآس حذر من مثلها المتنبي حين قال: «ومن يجعل الضرغام للصيد بازه/ تصيده الضرغام في ما تصيدا».
عليه، لا بدّ من مراجعة الكثير من السياسات والتوجهات وأساليب التعبئة. بعضها أدى إلى توفير الذرائع والمبررات والمناخات لإطلاق العصبيات والحساسيات والغرائز، وهو ما يشكّل مادة ثمينة للعدو.
ثمة لاعب جديد وخطير هو التطرف يقتحم، بقوة، المشهدين العربي ــ الاسلامي واللبناني. إنه وليد الأخطاء والاستئثار والعصبيات والاستبداد والقهر والاحتلال الأجنبي.
لا تعالج هذه الأمور بالخطط الأمنية فقط، وبشعارات من نوع «رفع الغطاء» عن المخلين. الأزمة باتت أعمق وأخطر بكثير. وما استقر عليه التوازن لجهة استبعاد الاحتراب الشامل حتى اليوم، لا ضمانة فعلية له وسط تعاظم الأحقاد والفئويات والصراعات.
ويزيد في حجم الخطر ما نشهده من «اضمحلال» الدولة. كذلك الأمر بالنسبة إلى استمرار الانقسام والارتهان لمصالح القوى الخارجية التي تواصل صراعاً مصيرياً موصولاً بمتغيرات استراتيجية على مستوى كوني شامل. ليس هذا فقط، بل إن الاستقطاب قد طاول موقع رئاسة الجمهورية نفسه. لا نبحث ههنا في الأسباب الشكلية والراهنة، بل في المخاطر، فإنّ «الحرب أولها كلام». وإذا انقطع الحوار وغابت مرجعيات التواصل، فليس على أحد السلام؟!
لن ننسى أبداً تكرار الحاجة إلى قوة دفع وطنية أصبح استمرار غيابها معادلاً لأكثر من التخلي!
* كاتب وسياسي لبناني