كثرة من المتتبعين للشؤون السياسية، وهم الأكثرية الساحقة من الناس، لكونها تجمع كل القوى المعارضة للنظام السوري والكثير من حلفائه في آن واحد، من وقع في استنتاجاته عن مصير المعركة في سوريا، ضحية نزعة ذاتية، أو ضحية الترويج الإعلامي. والكثرة، خصوصاً التي عارضت النظام السوري ورغبت في إسقاط بشار الأسد، ثنتها رغبتها الجامحة وانجرافها المقامر، عن فهم مجريات الصراع. لم ترَ في المعركة إلا أمراً واحداً: إسقاط الأسد أولاً، ولا مفر من إسقاطه، ثانياً.هذه الـ"كثرة" توهّمت أنه بمجرد اندلاع الأحداث في سوريا، سيسقط الأسد تحت هجمات القوى المدعومة من الغرب. في رأيهم، إن الغرب سيظل منتصراً مثلما انتصر في العراق وأفغانستان، وإنه لا يزال سيد العالم بلا منازع. وعند سقوط الأسد، سيقام النظام الديموقراطي والحر على الطريقة الأوروبية المعروفة، وستتحول سوريا إلى جنة عدن الموهومة، التي انتظروها طويلاً.
وعندما دخلت على الخط القوى السلفية الجهادية التي يفترض أنها تقاتل بهدف إقامة حكم إسلامي في سوريا، ظل أولئك متوهمين أن النظام الذي سيحلّ محل النظام السوري الحالي، سيكون ديموقراطياً وحراً، ومفصّلاً على قياس أوهامهم.
الإعلام المنخرط مباشرة ضد النظام، أو المتلبِس للتأييد له لكنه ملغَّم بالأموال النفطية والأسلحة الغربية، لم ينفك يستلقط بسذاجة مخيفة شعارات ومقولات كالأسد راحل وسوريا متقسمة. سلفاً استسلمت الـ"كثرة" لأهوائها، أو لمخاوفها تحت وطأة القصف الإعلامي على رؤوسها. لم تعط هذه الـ"كثرة" لنفسها فرصة التفكير بأكثر من عين واحدة. انطلقت منذا لبداية بأوهامها وظلّت متمسكة بها، رغم التغيرات والتحولات التي طرأت ميدانياً في عملية الصراع العسكري الدائرة.
من المعلقين على
الحدث من نسي أهمية تدخّل
الروس في سوريا


ومن أسوأ وجهات النظر، تلك التي اعتبرت أن الصراع في سوريا هو صراع بين معارضة ونظام. تمادت المعارك وطال أمدها، وتداخلت فيها كل القوى العالمية، ولا تزال الـ"كثرة" المهتمة تبحث في الصراع عمّن سينتصر، النظام أو المعارضة، وأي نظام سيحلّ بعد ذلك. ورغم أن طابع الصراع كان عالمياً منذ بدء الأحداث، وانكشفت عالميته مع تطورات الأحداث، لكن الـ"كثرة" المقصودة ظلّت على رأيها، أن المعركة معركة نظام ومعارضة على الطريقة التي جرت منذ منتصف القرن العشرين وما قبل لقرون. أي على الطريقة التي سبقت تطور النظام الرأسمالي نحو الإمبريالية، ثم الإمبريالية المعولمة. ورغم أن البعض قرأ في الحرب السورية ما يوازي الحرب العالمية ـ وقد تكون الثالثة ـ إلا أن "كثرتنا" حجَرت معتقدها على قاعدة الصراع بين النظام والمعارضة.
وحين جاء الوقت المناسب للقوى العسكرية الروسية للتخفيف من وجودها في سوريا، نسيت الـ"كثرة" أنّ لكل مقام مقالاً، ولكل حاجة عسكرية مستوى معيّناً من الإعداد الكمي والنوعي لها، وليس الأمر أن "اهجموا يا شباب" كيفما اتفق. فعندما تدخلت روسيا عسكرياً في الحرب السورية مباشرةً، لم تكن غايتها تحديداً الحفاظ على النظام السوري بوجه معارضة له. الروس، كما بقية الحلفاء في التحالف الشرقي، تدخلوا منذ بدء المعركة، كل منهم درءاً لمخاطر الصراع عليه، ومنعاً لسيطرة القوى المعادية لمصالحهم في سوريا. ولربما دفع تقاطع المصالح وتقاطع المخاطر، إلى بلورة تشكل المحور الشرقي، وتعاضده في المعركة، بطريقة مطّردة التنامي، وبالتدريج، إلى أن أصبحت متحالفة في المواجهة الميدانية.
كانت السيطرة الأميركية تامة على العالم من جانب واحد حتى اندلاع أحداث العالم العربي التي وصفها مؤيدوها ومطلقوها بـ"الربيع العربي". ظنت الـ"كثرة" من كلا الطرفين أن ما بعد "البوعزيزية" هو الثورة التي آن أوانها لتغيير الواقع العربي المزري، والتي انتظروها، وحلموا بها كل ليلة قبل اللجوء إلى النوم. لكن معدي التحركات، ومنظميها، ومنتجي قادتها وكوادرها، يهزأون من ثقافة الـ"كثرة" التي انجرفت في أوهامها "الثورية"، وكما يقال بالعامية، راحوا "يضحكون بعبّهم"، هازئين من تصديق الـ"كثرة" لنفسها أنه آن أوان الثورة، وتيقنوا أن لعبتهم ناجحة مئة بالمئة طالما تمكنت الغشاوة على قلوب الـ"كثرة" من حجب حقيقة الحراك المصطنع والمصنع في أروقة "ربيع براغ"، والمدرسة "الصربية" التي لم تعد خافية، وهي لم تعد تخفي ذاتها. يكاد صناع "الربيعات" يقيمون الحواجز والتقاط المتحمسين للثورة، لإقناعهم بأنها لم تكن ثورة، بل ربيعاً مفبركاً، لكن الـ"كثرة" مصرة على أوهامها، والسير في تطورات عقلها الدراماتيكة النتاج.
وعندما جاء قرار سحب بوتين لجزء من قواته، جرى تفسير العملية على القاعدة عينها. قيل: لقد تخلى الروس عن الأسد، وإنهم مختلفون معه، ووجهات النظر متعارضة بينهما، ما أزعج الروس، فـ"دفشهم" الأميركي ضد الأسد، وانسحبوا. بساطة التحليل، وسذاجته، تحاكي لعبة الأطفال، وكأن بوتين والأسد يذهبان في رحلة تخييم ترفيهية، واختلفا على الطريق، فحرد هذا، وأخذ على خاطره ذاك، فألغيا المخيم.
من المعلقين على الحدث من نسي أهمية تدخل الروس في سوريا، وآخرون اقتصروا في تحليلاتهم على رفاهية عابرة لدولة عظمى أرادت أن "تفش خلقها"، أو تظهر عن "قوة عضلات". لم يأخذ هؤلاء في الاعتبار أن المصلحة الروسية تمثل مصلحة الحلف الشرقي برمته، مروراً بإيران والصين وبقية الحلفاء. وأن هذا التحالف أدرك مخاطر ما عرف بالربيع العربي عليه، وقد أثمرت نتائج التحركات الشعبية في مختلف أقطار اندلاعها، أنظمة معادية بطبيعتها لأنظمة التحالف الشرقي، وغالبها من حركة "الإخوان المسلمين" الذين وصلوا إلى السلطة. فتشكّلت في تونس ومصر حركة إخوانية ناشطة، وبدأ الحراك السوري على أيدي "الإخوان" منذ بداية الأحداث التي انطلقت من درعا، ولو انتصرت الحركة لتواصلت مع تركيا التي تحكمها مدرسة إخوانية، ولأمكن قيام اتحاد إسلامي تحت راية "الإخوان"، يكفي امتداده، وقدراته لأن يشكل حصاراً خانقاً على دول التحالف الشرقي.
في تلك اللحظة التاريخية، وقعت انعطافة ليبيا، وجرى تدخل الأطلسي بإذن دولي، فانقلب الوضع على معمر القذافي، ودخلت ليبيا في الفوضى المقلقة التي استشعرت دول التحالف الشرقي خطورتها، فقط في تلك اللحظة. ولم يكن من بد لها من التدخل لمنع قيام اتحاد دول إسلامية تحت راية إخوانية، تحاصر دول الحلف، ومن الطبيعي أن يكون مدعوماً من الحلف الغربي، ومحققاً لأهدافه.
بمعنى آخر، مع التطورات الليبية، وبلورة مسار الأحداث، تظهرت صورة الصراع في سوريا، وفي العالم العربي، وفرزت القوى بشكل جلي بين محورين دوليين، واتضح أن الصراع بين النظام والمعارضة ما هو إلا وهم، تجاوزه التاريخ، واستكملت عملية الصراع بين المحورين حتى بلغت في سوريا ما بلغته أخيراً.
من المعروف أن التدخل الروسي قلب موازين القوى في النصف الثاني من عام ٢٠١٥، وحسمت الأمور لمصلحة التحالف الشرقي، وها هي المعركة تمضي في سوريا لحسم الموقف نهائياً، فضعفت القوى المسلحة المنسوبة إلى المعارضة إلى مستوى كبير لم يعد من الضرورة معه بقاء كل هذ الكمّ من القوات الروسية الملكفة في سوريا، فسحبت القيادة الروسية بعضاً من قواتها، وبقيت بقوات أخرى، وبقوى متحالفة معها، ولم تترك سوريا لكي يعود إليها شبح التطرف. عملية حسابية بسيطة أدت إلى سحب جزء من القوات الروسية، لكن العالم راح يفسرها كل على كيفه، ونطاق أحلامه، وهواجسه.
الانسحاب بكل بساطة، تدبير لوجستي بديهي بعد اجتياز أكثر صعوبات المعركة، وكل ما يقال عن وضع حرج لروسيا بدءاً من التورط في الأوحال السورية، أو انهيار الروبل، وسعر النفط، وانعكاس ذلك على الاقتصاد الروسي، والحرب مع أوكرانيا، وضم القرم، والحصار الغربي لروسيا، وما إلى ذلك، فقد كانت كل تلك الأمور موجودة منذ سنوات.
ويمكن دولةً عظمى أن تواجه المصاعب الشتى، وبإمكانها أن تلتف عليها، وتحاصرها، وتجد لها الحلول المناسبة.
لكن هذه العناصر في السياق العام للمعركة، ما هي إلا تفاصيل لملمتها مخيلة الـ"كثرة" تحقيقاً لرغباتها وأوهامها.
* كاتب لبناني