أيّد الكثيرون الثورة المصرية، وما نتج من صعود للحالة الإخوانية. عوّلوا على ذلك لوصف سياق الأحداث بالصحوة الإسلامية. كان الأمل في أن يشكل النهوض الإخواني فرصة لتشكيل قوة موحدة، كتفاً بكتف، بين الإخوان من جهة وقوى المقاومة ودولها من جهة ثانية. فالخصم مشترك، إسرائيل والأنظمة الحليفة لها. لم يكد يمر أكثر من عام على إمساك الجماعة بالسلطة، حتى تلاشت الآمال، لا بسبب مشهد التداعي فحسب، بل لسرعة حدوثه أيضاً، والأهم من ذلك، مسبباته، وما استتبعه من سلوك إخواني عنفي، بدا واضحاً أن مظلوميته تنطلق من الحنق لخسارة السلطة، وليس خوفاً على مشروع ذات أبعاد تتصل بالقضايا العربية والإسلامية.
كل ذلك يفرض وقفة مصارحة ومصالحة مع الذات والأمة، تقوم بها جماعة الإخوان في مصر. ليس صعباً، فالحركة الإخوانية في مصر مرت بما هو أصعب وأشد، من حظر واعتقالات وتجفيف منابع، لكنها ثبتت وصمدت لا بل تقدمّت...
أولاً: تواترت المعطيات عن أن اتفاقاً ولو ضمنياً، جرى بين قيادتكم والولايات المتحدة الأميركية، وتمّ الحديث عن تطمينات متبادلة حين تسلمكم السلطة، تتصل خصوصاً بمعاهدة كامب ديفيد. للمرء أن يسأل عن تقويمكم للأمر ورأي الشباب المسلم في ذلك. هل ينسجم هذا مع مبادئ حركة الإخوان وخطابها وشعاراتها وتثقيفها وموقعها؟
لا بأس في مجادلتكم بالأمر. هل يعقل أن ترضى أميركا عنكم مثلاً أو ترغب فيكم كنموذج إسلامي يحكم؟ وإذا كان الجواب نعم، ألا يناقض صريح القرآن «لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم»، بمعنى إلا أن تكون حليفهم سياسياً أو منسجماً معهم... وإن كانت الحجة هي التكتيك، فنسأل عن المسوغ الشرعي، هلّا أوضحتموه لشارعكم أولاً ثمّ لنا... أم إن أميركا لم تعد رأس الهيمنة والتسلط الغربي على أمتنا؟ وما أقرب اليوم من الأمس، فتجربة فوز حركة حماس الإخوانية في انتخابات ديموقراطية، شهد لها الجميع، لم تنل رضى أميركا وحلفائها، بل حوصرت وحوربت وأدينت بالإرهاب.
ثانياً: ما الذي منع موقفاً صريحاً منكم بحق رسالة الرئيس محمد مرسي لرئيس الكيان الصهيوني شيمون بيريز، وصفه فيها بالصديق؟ هل كانت تليق بكم وبشهدائكم وبتاريخكم ومبادئكم وبخطابكم... أليس هذا الاعتراف الرسمي بمثابة رصاصة إحباط قاتلة في قلوب مؤيديكم على امتداد عالمنا الإسلامي ومقاوميه وشبابكم الثائر، الذي كان يتطلع إلى أعمال طموحة ومواقف قوية تنسجم مع حماسته وعنفوانه الثوري... هل يعقل أن تأخذ «إسرائيل» شرعية من حركة الإخوان المسلمين في مصر؟ يحضرني هنا حديث شريف (مفاده): «إنه ليس من شيء أدعى إلى رفع نعمة أو تعجيل نقمة، من إقامة على ظلم». وهل من ظلم أكبر من الاعتراف بإسرائيل؟ القرآن واضح: «ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا».
ثالثاً: هل كان خطابكم السياسي بمستوى مصر الثورة والقرار الحر _ مصر العروبة وحاضنة الفكر المتنور والعقل السياسي المبدع؟ أي ثورة تلك التي تبني أجندتها على تبعية لهذا أو ذاك من بعض الرجعيات العربية الحليفة لأميركا والمتعاملة مع «إسرائيل»؟
كذلك، بدا لافتاً الرهان على ما يسمى المجتمع الدولي ومؤسساته _ صندوق النقد _ المعروفة الوجهة والغايات لإنقاذ الاقتصاد، مع ما في ذلك من ارتهان سياسي كما تعلمنا في ألفباء السياسة؟
كل هذا يلقي بهواجس فعلية على طبيعة البديل السياسي الذي سعيتم إلى تقديمه، ومقدار تمايزه الفعلي عمّا يفترض أنكم ثرتم عليه. كنا ننتظر منكم أن تقودوا، فإذا بكم مقودون! نقولها بمرارة.
رابعاً: توجه انتقادات لأجندتكم الداخلية تجاه جزء كبير من الشارع المصري وقواه وطوائفه ومؤسساته. توصف بالمربكة والفاقدة للعمق والشمولية؟ معلوم أنكم أتيتم بسبب أرجحية بسيطة كان الشعب فيها بين خيارين: إما «الفلول» أو أحد من الوجوه الجديدة فاختاركم، ما يعني أن أي خسارة لشريحة ممن انتخبكم ستفقدكم الأكثرية، وهذا ما حدث لاحقاً وشهدناه جميعاً، بغض النظر عن التحفظ على الطريقة وعلى بعض الشخصيات الجديدة الحاكمة. كان لزاماً خوض تجربة بحلم وأناة وتبصّر أكبر. ليس منطقياً الاستمرار بخطاب تعتبرون فيه أنفسكم أكثرية.
المتربصون بكم كثر... في الداخل، وليسوا أقل في الخارج. يصعب فهم إرباك قيادتكم، بالتعاطي مع العربية السعودية التي سعت بثقلها لإطاحتكم وإسقاط تجربتكم وإفشالها، ونجاحها في ذلك! أما لو أنها كانت غافلة عن دور المملكة، فالمصيبة في الرؤية السياسية أعظم!
خامساً: لا تقتصر الكرامة على تأمين لقمة العيش _ كما حاول البعض أن يسوق المفهوم _، إنها تدخل في بنية الشخصية وأبعادها المختلفة. الحرية ضرورة للكرامة والعدل ضرورة للكرامة... ولكن أيضاً قوة الموقف ضرورة للكرامة، والوقوف حيث يجب أن تكون من ضرورات الكرامة... لو وقفنا أدنى مما يجب أن نكون فهذا أيضاً امتهان للكرامة...
هذه المقدمة المملة ربما، هي تمهيد للحديث عن القرار الحر والسيادة الوطنية وعدم التبعية، باعتبارها من ضرورات العزة لأي مجتمع أو أمة، والعزة مقوّم الكرامة... ومعلوم للجميع أن نفس الثائر دائماً تلتقي مع التضحية والجود بالنفس، ما يعني استطاعتها لما دون ذلك من معاني التحمل والصبر لنيل الغاية والوصول إلى الهدف... ويفسّر الكثيرون، بل يؤكدون أن ثورة الشعب المصري المباركة لا يمكن تفسيرها من مدخل لرغيف الخبز والاقتصاد فحسب، كما حاول بعض «المتفذلكين» القشريين من العرب. إنما تتعداه إلى أبعاد لا يكنهها إلا كلُّ حر أنصت لخطاب السماء وقرأه. أين كنتم من كل هذا؟ أول الزيارات للسعودية. خلال العدوان على غزة انتهجتم وساطات استخباراتية شبيهة إلى حد بعيد بوساطات عمر سليمان. في قمة دول عدم الانحياز التي انعقدت في طهران، لم يرتقِ سلوك الرئيس مرسي إلى مستوى التفاهمات التي طرحتها إيران، أقله في ما يخص الشأن السوري. كانت زيادة الجمهور من صفة مذهبية واحدة، صفقة رابحة في تصوركم، وكان الخطاب الجامع مستبعداً، على الأرجح لأنه يفقدكم الدعم من دول لا تنسجم بنيتها ولا يمكن أن تقبل «فيروس» ثورة 25 يناير.
سادساً: حريّ أيضاً تقييم موقفكم من قضايا واجهتكم في المنطقة، متصلة بأمنكم القومي. الأزمة في سوريا والبحرين واليمن وغيرها... إن كانت فرصاً لاستعادة دور مصر المفقود بين العرب، ولكن لسوء الحظ أُخذتم بطائفية مقيتة. كنا ننتظر سياسة مصرية توقف اندفاعة التكفير نحو سوريا، وتتخذ صفة الصلح والتسوية للحفاظ على مقومات بلد عربي بأهمية سوريا. لكننا صدمنا بالرئيس مرسي يدعو إلى الجهاد في سوريا، مع ما يترتب على إعلان من هذا النوع من تبعات سلبية، فضلاً عن أن الأقلام انكسرت والفتاوى شحّت عن شيء مماثل يوم تعرضت غزة للعدوان.
لم يشهد أنكم بادرتم إلى رسم خصوصية سياسية ورؤية متمايزة تتماهى مع مصر العروبة والإسلام (مصر الراعي والساعي للمّ شمل الأمة وتوجيه بوصلتها باتجاه عدوها الحقيقي والفعلي «حكومات الاستكبار العالمي» و«إسرائيل»، كما تعلمنا واستوحينا من سيد قطب وأمثاله من أعلام أمتنا... مصر التي ترسم الأولويات وأجندة العرب السياسية) فالمراقبون المحبون يدّعون أنكم افتقدتم الحد الأدنى من فنون المناورة والمبادرة السياسية... ولو كان في الأمر شيء آخر، حبذا لو نطّلع عليه.
سابعاً: تأسيساً، على ما مضى، لم يفهم الشارع العربي موقفكم من القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، وسياستكم تجاه القوى الفلسطينية. كل القوى دون تحيز أو اصطفاف. من المعلوم أن فلسطين قلب الأمة وشعبها بسواده الأعظم وقواه كله مقاوم... هل أنتم مع حلِّ الدولتين أم ضد؟ مع عملية السلام الجارية اليوم أم ضد... مع المقاومة المسلحة ودعمها وتبنيها أم ضد؟
بصراحة، خطابكم فيه التباس، فضلاً عن الأداء...
أسئلة كثيرة، يمكن القول إن قيادتكم بدت مربكة وفاقدة للرؤية تجاهها، وعملياً فشلت في مقاربتها وأفشلت لذلك تجربة إسلامية منتظرة.
الفرصة لا تزال سانحة. المواطن العربي المقاوم المتعاطف مع مصر وإسلامييها، يحدّث نفسه بهذه الأسئلة وغيرها. يترقب منكم خطاباً شفافاً حاسماً وأجوبة واضحة. الأمة أحوج ما تكون في هذه الأيام الصعبة إلى «معالم على الطريق».
* باحث سياسي