عندما يصير فِعْل ارتكاب رجل دين لتحرّش جنسيّ بأطفال، معروف شعبيّاً، يغضّ عنه المؤمنون الطرف عادة، خوفاً على صيت الطائفة بين الطوائف الأخرى، أو خوفاً من «إعثار» المؤمنين «الضعاف» و«الصغار» في الإيمان، ويسعى المؤمنون إلى إسكات صوت الضحيّة، مدفوعين ممّا يعتقدونه غيرة على الإيمان، هذا عدا الذين يرفضون بشكل هستيريّ تصديق إمكانيّة حدوث هذا الفعل الشنيع من قِبَل رجالٍ عادة ما يكونون يتمتّعون بحسن الصيت والشعبيّة، ونشطون في فعل الخير.
محاولات إسكات الضحيّة وإخفاء الأمر والرفض الهستيريّ، تعبّر عن التواء في الضمير. وهذا الالتواء يشكّل أحد مظاهر النفاق الدينيّ في المجتمع اللبنانيّ والعربيّ الذي يجاهر بحميّته الدينيّة ويفاخر بطوائفه؛ إذ من غير المفهوم إيمانيّاً أن يسكت الإنسان عن الشرّ ويسمح به، أو أن يرفض إمكانيّة حدوثه لمجرّد أنّه «يحبّ» ذاك الرجل المرتكِب (وما هذا بحبّ وإنّما هو عبادة للشخص). عند هؤلاء «صيت» المجموعة الدينيّة أهمّ من طفل أو أطفال أو يافعين (إذا استثنينا حالات التحرّش بالنساء) ارتكبَ منحرفٌ في حقّهم جريمة تحت غطاء الدين، وغطاء الطائفة التي يخافون على صيتها.
يغيب عن بال هؤلاء أنّه إن كان من «صيت» للطائفة فهو لا يتشوّه بسبب كشف الانحرافات ومعاقبة المنحرفين وإنّما يتشوّه بالضبط بسبب التغطية على هذه الانحرافات. ولكن الحقيقة أنّ «صيت الطائفة» هو أمر وهميّ، فكلّ إنسان هو مسؤول عن ارتكاباته الشخصيّة، وإن كان من رجل دين (أو غير رجل دين) ارتكب جُرماً ما، فذلك ارتكابه الشخصيّ ولا يمسّ ذلك طائفته بأكملها.
أمّا المؤسّسة الكنسيّة، فلا تكون مسؤولة إلاّ بقدر ترك الأمور بلا حساب لسنوات وسنوات. أمّا أمام الله، فبالإضافة إلى المُرتَكِب، يُسأل عن الارتكابات كل إنسان استطاع أن يمنع ارتكاب الجُرم ولم يفعل، وكلّ إنسان ترك الجرم يتمادى، وكلّ إنسان طمر رأسه ولم يُرد أن يَرى، وكلّ إنسان يهلوس بأنّ هناك مؤامرة شيطانيّة ضدّ الكنيسة ولا يسعى إلى الحقيقة، لأنّ كلّ هؤلاء يسمحون لمرتكِب بمتابعة ارتكاباته، وبالاعتداء على غيره، وخاصّة الصغار غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم. المسيح كان واضحاً بأنّ المطلوب من المسيحيّ ليس فقط أن يعمل الخير ولكن كذلك أن لا يمتنع عن عمله بينما هو قادر على ذلك، ففي موعظته حول الملكوت لا يقول فقط إنّ كلّ طعام أو شراب أو عناية قام بها إنسان بحقّ إنسان آخر يعتبر المسيحُ أنّه قام بها بحقّه شخصيّاً، بل يقول أيضاً إنّ كلّ طعام أو شراب أو عناية لا يقوم بها إنسان بحقّ إنسان آخر وهو قادر أن يقوم بها، يعتبر المسيحُ أنّه لا يقوم بها بحقّ المسيح شخصيّاً، أي أنّ الامتناع عن الفعل والعمل من أجل الآخرين يُبعد الإنسان عن الله، يجعله خارج علاقة المحبّة مع الله. هذه هي خطيئة «الأوادم»، خطيئة الذين لا يفعلون ما يضرّ، ولكنّهم يمتنعون عن ردّ الضرر عن الآخرين، «الأوادم» الذين لا يضرّون أحداً ولكن لا يشاركون أحداً بأموالهم، «الأوادم» الذين لا يعتدون على أحد ولكن لا يردعون أحداً من الاعتداء على الآخرين.
من جهة أخرى، عندما ترفض المؤسّسة الكنسيّة، أو عندما يرفض مؤمنون ومؤمنات، أن يعاقَبَ، أو حتّى أن يُبحَث بأمر اعتداء جنسيّ لرجل دين على أطفال، وتثور ثائرتهم، فهذا لا يعكس سوى انجراف هؤلاء إلى النظر إلى رجال الدين نظرة خرافيّة لا علاقة لها بالإيمان المسيحيّ. فمن المعروف أنّه لا تُعلن قداسة شخص في المسيحيّة إلا بعد وفاته، لأنّ الإنسان يمكنه حتّى اللحظة الأخيرة من حياته أن يختار، بحرّيته، أن ينحو في اتّجاه لا يتوافق مع المحبّة؛ وأيقونة يوحنّا السلّمي تُظهِرُ أناساً يسقطون من أعلى سلّم القداسة. إنّ موقف الرفض الهستيريّ هو موقف عاطفيّ عصبيّ لا علاقة له بالإيمان بإله واحد خلق بشراً أحراراً قادرين بسبب حرّيتهم على القداسة وعلى الفظائع، في كلّ لحظة، وحتّى الرمق الأخير.
كلّ إنسان هو على صورة الله، الشخص المرتكِب والذي تمّ بحقّه الارتكاب. المسيحي مسؤول عن محبّة المعتدى عليه ومحبّة المعتدي، بل وحتّى محبّة العدوّ. لكنّ المحبّة تعبّر عن نفسها بطريقة مختلفة تجاه الناس، ووسائلها مختلفة إن كان من هو أمام ضعيف أم مُرتكِب، جرى التحرّش به أو تحرّش بغيره. تِجاه الذي تمّ التحرّش به، يقف المؤمن موقف الدفاع الصلب عن كرامته الإنسانيّة وعن صورة الله التي فيه، وتجاه الذي يرتكب يقف المؤمن موقف المجابه الصلب لشرّه مميّزاً بين شرّه وبين شخصه، وبهذا التمييز يسعى جهده الأوسع والأقصى كي يتوقّف المعتدي عن ارتكاب اعتداءاته، وذلك محبّة بالضعيف ومحبّة بالمعتدي الذي يريد له أن يتراجع عن اعتداءاته التي تشوّه صورة الله التي هو عليها. وكي يتوقّف المعتدي عن ارتكاباته يجب أن يُردَعَ بالقوّة، قوّة المحبّة التي تتأنّى وترفق ولكن أيضاً تفكّر وتعاقب بأفضل الطرق الإنسانيّة. ففي عالم الخطيئة الذي نحن فيه والذي لم يبلغ الملكوت، القوّة ضروريّة، ولا نعني بذلك القوّة الغاشمة اللاإنسانيّة القائمة على التنكيل والانتقام الحاقد والبارد من المعتدي، بل نعني قوّة القانون والعقاب والردع، وقوّة العلم والفكر والأساليب النفسيّة والتربويّة. الكنيسة تريد توبة كلّ خاطئ، ولكن الخطايا ليست متساوية، هناك فرق شاسع بين خاطئ قد قال كلاماً بذيئاً، وبين خاطئ قد قَتَل؛ وهناك فرق شاسع بين خاطئ قد زنى، وبين خاطئ قد تحرّش جنسيّاً بقاصر (أو بالغ). كلّ الناس خطأة، ولكن ليسوا كلّهم مجرمين أو متحرّشين جنسيّاً، وهناك طرق مختلفة لمقاربة هذه الحالات المختلفة جذريّاً. هناك طرق للتوبة على الصعيد الروحيّ، وهناك طرق للعلاج على الصعيد النفسيّ والتربويّ والعقابيّ، والعقاب هو جزء من العلاج؛ والخلط بين التوبة وبين العلاج النفسيّ عدا عن أنّه خطأ فادح، هو خطِرٌ جدّاً. الصعيد الروحيّ هو صعيد علاقة الإنسان بربّه وبالبشر وتصحيح مسار هذه العلاقة، وهدفه القداسة. الصعيد النفسيّ يعمل على علاج أمراض نفسيّة وتصحيح انحراف نفسيّ. وكما أنّ ما من رجل دين، أو مؤمن، سويّ العقل، يكتفي بالصلاة لعلاج السكّري وضغط الدم بل يلجأ إلى طبيب، كذلك عليه ألّا يكتفي بالصلاة كعلاج لانحرافات نفسيّة، مثل التحرّش الجنسيّ. إنّ اللجوء إلى الصلاة حصراً لعلاج الأمراض النفسيّة ليس من الإيمان بشيء، بل هو إهانة للإيمان لأنّه ينظر إلى الإنسان كقاصر لا عقل له ولم يبتدع علوماً في النفس، وينحو إلى التعامل مع الله كساحر، ويحوّل الإيمان إلى ضرب أشبه بالشعوذة.
أمّا من جهة التوبة، فهي لا تعني أن يكتفي الإنسان بالكلام الحسن وأن يُترك الأمر لتجاوب حرّية المؤمن مع نعمة الله. التوبة تعني أساساً أن يسعى الإنسان بجهد وجدّية كي يغيّر طريقة حياته تجاه الآخرين والله، طالباً مساعدة الله، والبشر. عند حدوث جريمة أو اعتداء جنسيّ في حقّ طفل (أو بالغ)، فإنّ الجهد والجدّية يقتضيان من المرتكِب أوّلاً الاعتراف بالارتكاب، وثانياً السعي إلى طلب المساعدة بمختلف الوسائل العلميّة لعلاج الجذور النفسيّة للانحراف الجنسيّ؛ دون ذلك ما من توبة ممكنة. ولهذا فدور كلّ مؤمن ومسؤول كنسيّ دفع الأمور في هذا الاتّجاه.
عند ارتكاب اعتداء جنسيّ في حقّ طفل (أو بالغ) هناك أمران يحدثان: هناك ارتكاب قانونيّ هو كناية عن اعتداء على كرامة وحقّ إنسان بالحماية والعيش بكرامة وانتعاشٍ ونموٍّ واحترامٍ لشخصه، وهناك خطيئة كناية عن ابتعاد قلب المعتدي عن الله والآخرين ما ينعكس في تصرّفاته. والعلاج لا بدّ أن يتمّ بقوّة المحبّة على ثلاثة صعد: أوّلاً، على الصعيد القانونيّ الذي يقتضي معاقبة المرتكب بواسطة القضاء، وخاصّة أنّ استعادة الإنسان المُتحرَّش به لانتعاشه، بعد انتهاك كرامته الإنسانيّة، تعتمدُ على الاعتراف من قبل المجتمع بفداحة ما لَحِقَ به، وعلى تعهّد المجتمع معاقبة الفاعل. وثانياً، الصعيد النفسيّ الذي يقتضي علاجاً بوسائل علم النفس للانحراف النفسيّ لدى المُعتدي. وثالثاً، الصعيد الروحي الذي يقتضي تغييراً حرّاً في قلب المعتدي، والذي له وسائله. لا يمكن صعيداً أن يحلّ مكان آخر، هذه الصعد تتكامل ولا ينفي بعضها البعض.
إنّ قوّة المحبّة، ومسؤوليّة المحبّة، تقتضي منّا أن نحمي المعتدى عليه، ونحمي غيره ممّن يمكن أن يُعتدى عليهم، وتقتضي منّا أيضاً أن نبحث بكيفيّة مساعدة المعتدي على شفائه من انحرافه، وعلى توبته، أي على تغيير ذهنه ليعود إلى طريق مستقيم. ومن المعروف أنّ التوبة مرتبطة بالأفعال، ولا بدّ أن يغيّر الإنسان فعله وطريقة حياته، تعبيراً عن توبته، وتجذيراً لنيّته، بتغيير طريقة حياته، ولهذا لا بدّ لنا أن نستشير علم النفس لنرى كيف يمكننا أن نساعد شخصاً بأن يغيّر حياته من خلال علاجه من مرض نفسيّ يعرقل نموّه الإنسانيّ ومسيرته الروحيّة. علم النفس يعلّمنا أنّه في حالة المتحرّش الجنسيّ، يكون العقاب القانونيّ ضروريّاً، ويشكّل جزءاً من مسيرة العلاج الإجباريّة والمتعبة التي يجب أن يخضع لها كلّ متحرّش. العلاج القانونيّ مرتبط بالعلاج النفسيّ، وكلاهما يساعدان المتحرّش الجنسيّ لكي تكون له فرصة كي يعود إلى استقامة في الأفعال لا يمكن من دونها أن تكون توبة على أرض الواقع. أنْ لا نفعل شيئاً ونصلّي فقط هو انحدار بالإيمان إلى مستوى الشعوذة.
الله يمكنه أن يشفي أيّاً كان، ولكن هذا شأنه. الأعاجيب لا يطلبها المؤمنون، وقد رفض المسيح أن يُبنى الإيمان على الأعاجيب؛ فقد وبّخ الناس الذين طلبوا منه أن يبهرهم بأعجوبة قائلاً: «جيل شريرٌ وفاسقٌ يطلب أعجوبة». المؤمنون يصلّون لله ليبقوا بتواصلِ محبّةٍ لانفعيّة معه، ولهذا يسعون بما منحهم الله من عقل كي يتجاوزوا الأمراض، ما أمكنهم. الله احترم الإنسان بأن جعله شريكاً في العناية بهذا العالم؛ لهذا فالصلاة دون اللجوء إلى مقتضيات العقل الإنساني (الذي هو من صورة الله في الإنسان بحسب الإيمان المسيحيّ) خيانةٌ للإيمان لأنّه انحدارٌ إلى تعاملٍ مستقيلٍ وقاصرٍ، وهذا يتعارض مع مقتضيات الإيمان المسيحيّ الذي يرى أنّ الله ينتظر من الإنسان أن يكون مسؤولاً، وأن ينمو ليصير على «شبهه».
هناك تمييز ضروريّ، بين الصعيد الروحي والصعيد النفسيّ، الاثنين لا يشكّلان أمراً واحداً، النفس البشريّة لها أمراضٌ خاصّة بها، يقتضي علاجها استعمال ما أعطانا الله إيّاه من عقلٍ، ابتكرنا به علماً نافعاً. التوبة لا تحلّ محلّ العلاج النفسيّ، ولا العلاج النفسيّ محلّ التوبة، كما أنّ التوبة لا تحلّ محلّ أدوية القلب والضغط، وتلك لا تحلّ محلّ التوبة. والقانون بدوره جزء مهمّ وأساس من الخبرة البشريّة والعلاج الروحيّ والعلاج النفسيّ. هذه الصُّعُد مرتبطة وتتكامل، والإصرار على الخلط بين الصعيد النفسي والصعيد الروحي، يبلغ حدّ المشاركة السلبيّة في الجُرم واستمراره.
إنّ الكنائس أمام مسؤوليّة صارمة لعلاج حالات التحرّش الجنسيّ بالأطفال والقاصرين بنحو حاسم وجدّي وعلميّ، وهي مسؤوليّة يفرضها عليها إيمانها قبل أيّ شيء آخر، وإلاّ أصبح الكهنوت والرهبنة في لبنان وسوريا والعراق والخليج العربيّ، أي في كلّ أبرشيات أنطاكية، من الطوائف جميعاً، ملاذَين لكلّ من أراد أن يرتكب تحرّشاً جنسيّاً أو جرماً آخر في حقّ المستضعفين الذين وحّد المسيح ذاته بهم، دون عقاب.
* أستاذ جامعي
التحرّش الجنسيّ في الكنيسة بعيون مؤمن
طُرِح أخيراً في وسائل الإعلام موضوع الاعتداءات الجنسيّة على الأطفال التي يرتكبها رجال الدين. وكان في بعض المواقف رقيّ ودقّة في التعامل مع الموضوع1. إلّا أنّ الموضوع يجب أن يطرح أيضاً من وجهة النظر الدينيّة بالذات، بالضبط لأنّ الموضوع يتعلّق برجال الدين، وإنْ لم يعالج من هذه الزاوية، الحسّاسة في لبنان، فسيبقى الموضوع عند الأغلبيّة مجالاً يحتمل التأويل، وخاصة مع سوء الفهم العارم لموضوع التوبة، والخلط الخَطِر بين الميدان الروحيّ والميدان النفسيّ في الكنيسة.