انتهى فصل الصيف، وانتهت معه مهرجانات بيبلوس الدولية، وخفّت حدّة الألعاب النارية إيذاناً باحتفال أو مهرجان أو تدشين أو افتتاح أو زيارة نائب أو رئيس جمهورية. انتهى فصل الصيف وأصبح بإمكاننا أن نبدي رأينا، مع الأمل بألا يتهمنا أحد بأننا نضع العصي في دواليب ساقتنا نحو الهاوية، أو بأننا نُفشل الموسم السياحي خدمة لهذه الجهة السياسية أو تلك.منذ الألف الخامس قبل الميلاد، مرّت شعوب كثيرة على هذه الأرض. شعوب طبعت بصماتها، وأخرى محت بصمات.

وبعد الأموريين والهيكسوس والمصريين، مروراً بالفرس والرومان حتى العثمانيين والفرنسيين، ها هم اللبنانيون (السكان الأصليون؟!) يحاولون منذ ما يقارب سبعين سنة ترك بصمتهم للمستقبل في مدينة تاريخية، فيجرّبون مختلف أنواع العمارة والتخطيط المدني وأشكالهما، محاولين نسبتها إليهم من دون جدوى. ففي مختلف المحاولات كانت الهوية مفقودة، بل كانت في معظم الأحيان نقلاً بدائياً وسطحياً عن أنماط هندسية أصبحت في معظمها غريبة بيننا.
في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كان تقليد العمارة ابن ساعته، حتى لو لم يكن ابن بيئته. فكان يجري النقل عمّا كان الغرب يشهده من حداثة في فن العمارة، مع المحافظة على الجودة الهندسية في معظم الأحيان. ما جعلنا، في مكان ما، نشهد محاولةً لركوب قطار الحداثة العمرانية في حينه (مع الأخذ في الاعتبار سياق التطور العمراني في تلك الفترة، وهو غير موضوع هذا النص)؛ وشارع الحمرا في بيروت من أهم الشواهد على ذلك.
أما اليوم فإننا نرى في جبيل أهم شواهد النقل العشوائي، انتقائياً، من التاريخ والجغرافيا. أنماط معمارية مختلفة يجري لصقها جنباً إلى جنب من دون أي اعتبار لقواعد النسب بين مكوّنات التصميم الواحد، ولا أية رؤية جامعة للتصميم بكليته ولا أبعاده وامتداده إلى الشوارع الخلفية المجاورة، بدليل أن الواجهات التي لا تطلّ مباشرة على «السوق المعتق» متروكة لسبيلها (الواجهة الجانبية للمموّل، «بنك بيبلوس»، هي أفضل مثال على ذلك، وها هي منشورة على موقع فايسبوك - الصفحة الرسمية لبلدية جبيل Municipality of jbail-byblos). في السوق الجديد (القديم؟!) اليوم «سَلَطة لبنانية» بامتياز. حاولتُ جاهداً أن أعرف إلى أية حقبة يعود النمط أو الطراز أو الشكل الهندسي المعتمد في هذا المشروع، وإلى أية نظرية من التنظيم المدني المعروف في التاريخ. إلا أنني لم أجد سوى مزيج من عدة «أشكال» جرى تجميعها و«تنسيقها» لتكوّن ما يُعتقد أنه شارع في مدينة، بينما النتيجة تدل على أنه محاولة بائسة لاختصار المدينة وتاريخها بشارع واحد. ويمكن إيراد جملة من الملاحظات:
ـــ إن خيار التعتيق وإرادة التمثّل بالهندسة المعمارية القديمة – التاريخية – الأثرية واضح في السوق المعتّق من خلال تلبيس الحجر وطريقة تقصيبه بحيث توحي أطرافه بأن الدهر قد أكل عليه وشرب. لا شك في أن العمّال قد قاموا بعمل مضن ومكلف، لكنْ ما هكذا تكون حجارة الزاوية، وما هكذا يأكل الدهر ويشرب.
ــــ تعود الفتحات/ الشبابيك المستطيلة المعتمدة، من بين ما تعود إليه، إلى العصور الوسطى في أوروبا، وتحديداً ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر. وبما أن شكل الفتحات والنسب المعتمدة بين عرضها وارتفاعها يختلف على طول الشارع، يمكننا نسبة النمط المعتمد إلى أية حقبة ما بين القرنين التاسع والتاسع عشر: لكم حرية الاختيار. (أمثلة على فتحات: متحف اللوفر أواخر القرن الثاني عشر، قصر بيت الدين في القرن التاسع عشر، قبة جامع السليمانية في إسطنبول في القرن السادس عشر، الهندسة الغوطية، إلخ.)
ـــ الزجاج العاكس الذي غالباً ما يوحي بـ«انعدام الشفافية».
ـــ وها هي «عين الثور» ترجمة حرفية للتسمية الفرنسية «Œil de Bœuf» تأتي لتكلل الفتحات. إن هذه الفتحات الدائرية قد اعتُمدت خصوصاً في الهندسة الباروكية (منذ القرن السادس عشر) في الطبقات العلوية أو فوق الأبواب والشبابيك لمزيد من النور في الداخل. واعتمدت لاحقاً في أنماط وأشكال هندسية عدة، للإنارة أو للتهوية. وتطلّ هذه الفتحات في «السوق المعتّق» على الشارع من جهة، ومن جهة أخرى على سطح مكتظّ بخزانات المياه وآلات التدفئة والتبريد على أنواعها (وما بقي منها وُضع على الواجهة الأساسية ثم غُطّي بشرشف شبيه الخشب مع «كَشكَش»). فلا إنارة ولا تهوية، بل تجميل ارتجالي للمتّكأ في الربع الساعة الأخير لإضافة بعض النكهة لتصميم يوحي بالفراغ. وبقي الفراغ من الجهتين.
لست أدري كيف أُعدّ لهذا المشروع، ولا فكرة لدي عن الهيئة التي حكمت بتفضيله ولا بتلزيمه. لكن ما أعرفه أنه بحسب الأصول، لا يمرّ مشروع بهذا الحجم في مدينة بهذه العراقة، من دون مراحل عدة من ضمنها تنظيم مسابقة بين أهل الاختصاص، وما أكثرهم في بلاد جبيل (معماريون، علماء آثار، مخطط مدني، إلخ.)، وذلك لاختيار المشروع الأفضل من قبل لجنة تحكيم مكوَّنة بدورها من الاختصاصيين الحياديين البارزين في نطاق عملهم. هل حصل كل ذلك؟ ما نراه لا يدل على حصوله بتاتاً. بل بتّ متأكداً أن هذا المشروع يقدّم صورة واضحة عن الحقبة التي نعيش. وسوف تعرف شعوب المستقبل من الذي ترك هذه التركة، بدون أية شكوك، وبعيداً عن أية نقاشات حول أية دلائل ممكن أن تثير جدل الانتماء إلى هذه المرحلة أو تلك من التاريخ؛ هذه «الهندسة» لا يمكن أن تعكس سوى هذه الحقبة (بفضل الزجاج العاكس).
إنّ جبيل بما تحمله ليست ملكاً للبلدية ولا ملكاً للجبيليين ولا حتى ملكاً للبنانيين. إن جبيل هي ملك ثقافي للعالم أجمع، وترفض أن تكون أقل من ذلك شأناً. وأخشى أنه قد فات الأوان للسؤال والجواب والمحاسبة، ويبقى المستقبل الذي سوف يحاسبنا جميعاً، لأن التاريخ سوف يذكرنا بما لا نشتهيه، وسوف يرانا المستقبل كما نحن رأينا الأموريين**: باقة منوعة من الهمجيين عاثوا فساداً في أفضل مدينة عربية سياحية لعام 2013، مدينة كانت يوماً ما... «أحلى».
** الأموريون: شعب غزا جبيل حوالى عام 2150 ق. م. وأحرق المدينة القائمة في ذلك الوقت
* أستاذ في العمارة في جامعة الكسليك