تتراكم تغيرات جزئية وتفضي إلى تحول نوعي. العملية الجدلية (الديالكتيكية) التي اكتشفها «هيغل» و«صوّب» موقعها «ماركس»، تشق طريقها رغم الاعتراضات والتمنيات، لكن ليس بعيداً عن العامل «الذاتي» الذي يحدّد حجمه مدى فعله وفعاليته في مجرى تطورات وتحولات، العوامل الموضوعية هي الأساس فيها.لا يفلت من هذه العملية (أو المعادلة) أي مكان أو حقل من الأمكنة والحقول، التي تحكمها لعبة التناقض: مداها الكون بأسره، ونشاطها الأساسي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من ضمن تميز وتمايز مستوى نضوج الظروف الموضوعية والذاتية. التغيير هو، فعلاً، سُنَّة الكون. والتناقض، بالمعنى الواسع، وليس فقط «المتفائل»، هو محركه. لا يخرج عصرنا عن هذه المعادلة وعن أحكامها. أما «التفاؤل التاريخي» فمبرّر تماماً لجهة أن التقدم هو مسار لا يقود إليه، أبداً، السكون، ولا تؤججه، دائماً، إلا الحركة التي مصدرها، بدورها، الحاجة والسعي من أجل إشباعها: جزئياً أو كلياً. في مجرى هذا المسار التكويني، تتقدم البشرية في معارج الرقي، وتجترح ملاحم التقدم، ويحقق الانسان تفوقه بالوعي والمعرفة والشعور والتفاعل... كما لا يتيسر لأي كائن حيّ سواه.

التغيير، كما أشار الفلاسفة والعلماء، إذن، لا يحصل دفعة واحدة. لكن عوامله وعناصره لا تتوقف أبداً عن التكون والتراكم والتفاعل، إلى أن يؤدي «التراكم الكمي إلى تحول نوعي». ولن يكون التحول النوعي الجديد، بدوره، نهاية المطاف، بل بداية لتكرار جديد، وفق حاجات جديدة، تحكمها العملية الجدلية نفسها ما بين الموضوعي والذاتي. هكذا إلى ما لا نهاية.
النظر في أحداث العالم ومتغيرات العلاقات والمواقف لا يمكن أن يقتصر على حقل واحد دون بقية الحقول، ولا على بلد واحد دون بقية البلدان.
الصيغ التي استخدمت للتعبير عن كونية و«أممية» الفعل والتفاعل، لم تطلق جزافاً: العالم الذي بات يشبه «قرية كونية». «العولمة». الشركات العابرة للقارات. المؤسسات الدولية التي تبدو كأنها حكومة واحدة لعالم متنوع. نزعات الهيمنة والسعي لإدارة منفردة للعالم. «الامميات» القديمة والجديدة التي تنطلق من الاقتصاد أو من القيم أو من الدين، في سبيل نشر ايديولوجيات أو أنماط حياة أو صيغ حكم أو أساليب سيطرة. الصواريخ العابرة للقارات و«الصرعات» التي تتوسل فضاءً مذهلاً ترتاده وسائل الاتصال دون عوائق أو محرمات... كل ذلك لا يجعل أحداً يطمئن إلى صيغة أو سيطرة أزليتين: لا في مجال الحكم، ولا في أشكال النفوذ، ولا في أنماط التفكير والسلوك والتفاعل، ولا في الاولويات والمراتب، ولا في مستويات المنافسة أو الاحتكار والعظمة...
لقد تصور «المحافظون الجدد» في الولايات المتحدة الاميركية في أيلول عام 2002، حين فرضوا إقرار «استراتيجية الأمن القومي الأميركي»، أنهم باتوا أسياد العالم غير المنازعين. ظنوا أنهم قادرون، بالقوة «غير القابلة للتحدي» والموضوعة في خدمة الاحتكارات وتعظيم الربح، ليس فقط على إخضاع خصومهم، بل أيضاً على فرض نمط الحياة الأميركية عليهم. وبعد أقل من عقد، ها هو أوباما، الرئيس الاميركي ذو الاصول الافريقية، يعترف بأن «الواقع غير التمنيات»، وهو يبرر الاتفاق التمهيدي بشأن الملف النووي الإيراني.
وفي المقابل، وبسرعة قياسية، بدأت تتبدل اللوحة السياسية في إيران بين السلطة والمعارضة. لقد بدأ «متشددون» ينتقلون إلى مواقع «المعارضة»، فيما يتقدم «إصلاحيون» إلى مواقع «السلطة». وموضوع الصراع ليس ثانوياً: إنه ملف العلاقة مع المحيط وأزماته، ومع الولايات المتحدة والغرب، إلى مسائل الثقافة والحرية وحق التواصل والاتصال بواسطة الأدوات الحديثة التي تغزو العالم...
قبل ثلاثة عقود، كان المنشق السوفياتي «ساخاروف» يعلن لمجلة «باري ماتش» أنّ «النظام السوفياتي بنيان بيروقراطي متماسك لا يمكن تقويضه». وبعد بضع سنوات من هذا الكلام، انهار هذا البنيان، بشكل لم يكن يتصوره أحد: لا من أصدقاء النظام ولا، خصوصاً، من خصومه وأعدائه.
وفي المدى العربي، حصلت تحولات لم تكن تخطر على بال: انهيار أنظمة مدججة بكل أنواع القوة وأجهزة الأمن والمخابرات. اهتزاز بنى وصيغ أغرت أصحابها، من قبيل الشعور بفائض القوة والحذر، باعتماد صيغ الوراثة والتأبيد والألوهية. ولن تخرج عن هذا المسار بُنى أخرى تبدو اليوم راسخة وقوية ويجري توارث السلطة فيها من قرون أو أجيال أو عقود!
ومهما امتلكت الصهيونية من وسائل القوة وأساليب الارهاب والقتل والقمع، فلن يكون الكيان الصهيوني، في وقت لاحق، إلا في مهب متغيرات، هي على طرفي نقيض من عربدة غلاة سياسيي ومستوطني دولة الاغتصاب والتوسع والعدوان.
صدّق، أو لا تصدّق، أيضاً: سوف يصل التغيير إلى لبنان! الأزمات المتراكمة الحالية، التي تتفاقم وتستعصي، لن تمر من دون أثر، ولن تبقى «الصيغة» اللبنانية على ما هي عليه.
هنا وهناك وهنالك، تضج المجتمعات بالتناقضات: الاستغلال، الافقار، القمع، الاحتلال، الديكتاتورية، الارهاب، الهيمنة، الغزو... هنا وهناك وهنالك، يتحرك متضررون ويحاولون المقاومة ونزع الاصفاد، وتحقيق بعض المطالب، وإزالة عدد من المظالم...
لا يحصل ذلك والآخرون على الحياد. تتدخل القوى القديمة القادرة التي تستشعر الخطر القريب أو البعيد. تلقي بثقلها لتفادي الخسائر أو لتحقيق الأرباح.
العامل الذاتي يصبح، هنا، مهماً جداً، من أجل دفع الأمور في الاتجاه الصحيح، ومن أجل تعطيل ومواجهة فعل مضاد، ذاتي هو الآخر. بالتأكيد مثل هذه العملية الطبيعية لا يحكم عليها بشكل انتقائي، ولا حكماً، بشكل جزئي، ولا حتماً، بشكل مغرض أو مشوّه!؟
* كاتب وسياسي لبناني