للوهلة الأولى، قد يعتقد المرء أن المرأة هي الضحية الأساسية في العالم الذي يتخيّله هويلبيك: يتم دفعها خارج الحياة العملية وتشجيعها على عدم تجاوز الحدّ الأدنى من التعليم، ويتكرّس دورها المحوري كأمّ وزوجة، مكانها المنزل ووظيفتها تتلخّص في استيلاد الجيل القادم وتنشئته. تسمح فرنسا باعتماد الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية ويُتاح تعدد الزوجات؛ بمعنى آخر، تخسر المرأة الفرنسية كل المكاسب التي تحققت لها في عصر الحداثة والجمهورية ــ ولكنّ هويلبيك لديه رأي آخر في الموضوع.
بالنسبة الى بطل هويلبيك، فإنّ الضحية الحقيقية في تجربته وحياته كانت، تحديداً، النساء المستقلّات المتحررات، زميلاته في الجامعة، اللواتي ولدن ــ مثله ــ خلال عقود الازدهار التي تلت الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت بناء النظام الاجتماعي الحديث في فرنسا. إن كان فرنسوا لم يبلِ بلاءً حسناً منذ شبابه، ووجد نفسه في حياة ملؤها الوحدة وغياب المعنى والمعاملات البيروقراطية، فإن مصير مجايليه من النساء كان أسوأ بكثير. لا يخفي بطل الرواية شفقته وهو يراقب زميلاته وما فعلته بهنّ حياةٌ قاسية ومنهكة، قضينها في الكدّ والعمل في عالمٍ غير عادل يدّعي أنه لم يعد ذكورياً، وجروحٌ خلفتها سلسلة طويلة من العلاقات الفاشلة والزيجات القهرية والرجال السيّئين؛ فصرن، وهنّ في الأربعينيات، متعبات مترهلات، خسرن كلّ ما فيهن من حبٍّ وجمال ومرح. بعض هؤلاء يردن، أكثر من أي شي آخر، أن يكنّ أمّهات وهن لن يحققن ذلك، ولو صرن رئيسات قسمٍ في الجامعة. بعضهن الآخر لا يريد أكثر من منزلٍ فيه درجةٌ من الاستقرار والأمان والدفء، وهنّ لن يحصلن على هذا في حياتهنّ. هل هذه هي "الاستقلالية"؟ يجيب هويلبيك: "تبّاً للاستقلالية!".
في مشهدٍ من الرواية، كان فرنسوا جالساً في مقصورة الدرجة الأولى للقطار السريع، عائداً الى باريس بعد أسابيع منهكة مرت عليه؛ فبدأ بمراقبة المسافرين على المقاعد أمامه. "عائلة" عربية صغيرة مكوّنة من رجل أعمال يرتدي الزي الخليجي (إثر فوز المرشح المسلم بالرئاسة، يتدفق السيّاح والمستثمرون من الخليج، ويجري تنافس سعودي ــ قطري على شراء العقارات وبناء المؤسسات في فرنسا)، ومعه زوجتاه: فتاتان في أواخر سنّ المراهقة ترتديان الحجاب. كان الرجل منهمكاً في التحديق بشاشة حاسوبه، بينما يجري، في الوقت نفسه، مكالمة "صعبة" على الهاتف، يبدو أنها تتعلّق بصفقة إشكالية، فيزداد توتره واحتقان وجهه كلما طالت المكالمة. في تلك الأثناء، قرّرت الزوجتان ــ لتمضية الوقت ــ "غزو" متجر القطار، وشراء أكثر ما فيه من سكاكر ومجلّات، وجلستا تلعبان على الهواتف المحمولة وتنظران الى المجلات وتتهامسان وتتضاحكان. في تلك اللحظة، وجد فرنسوا نفسه يفكّر في أنّه "مستعدٌّ لمبادلة كل حياته الفكرية"، ومقالاته عن هويسمان، وكل تعابير القرن التاسع عشر التي جمعها واقتفى أصلها، من أجل حياةٍ كحياة هاتين المرأتين. نظر الى الزوج، وهو ما زال منهمكاً ومتوتراً ومهموماً بمكالمته، وتيقّن من أنّه لا يريد أن يكون مكانه هو الآخر (يكتب هويلبيك أن مثل هاتين المرأتين قد تحظيان "بحياة من الطفولة المستمرة": انتقال سريع من مرحلة الطفولة واللعب مع الأولاد الى مرحلة "مشابهة"، هي الأمومة واللعب مع الأطفال، وبينهما ــ يقول هويلبيك ــ "سنوات قليلة من الثياب المثيرة وألعاب غرفة النوم").
قبل أن "ننتقد" هويلبيك على ذكوريته وسوقيته (أنا لست ناقداً أدبياً، ولا أعرف كيف من الممكن أن ننتقد عملاً خيالياً من زاوية سياسية، مع العلم بأن أديباً عربياً كبيراً قد هاجم هويلبيك بدعوى أن السيناريو الذي وضعه لوصول محمد بن عباس الى الرئاسة هو "خيالي" وغير واقعي) يجب أن نتذكّر المسافة بين الرواية والحقيقة. علينا أيضاً أن لا "ننخدع" بأسلوب هويلبيك، وهو يكتب بطريقة واقعية و"حسية"، لا تعتمد التشابيه والرموز، بل وصف الأطعمة والروائح وأصوات الشارع، ما يمكن أن يزيل ــ في ذهن القارئ ــ الحاجز بين أن تنسج رواية من الخيال وبين أن تحكي قصة واقعية. حتّى نحدّد أكثر، عالم هويلبيك قد يبدو "مقنعاً" وواقعياً من الخارج، ولكنه "رقيق" وسطحي. على سبيل المثال: هويلبيك قد كتب هنا رواية "أكاديمية" كاملة الأوصاف، على طريقة كتب الروائي البريطاني دايفيد لودج، حيث تدور الأحداث في حرمٍ جامعي وتختلط مسارات الشخصيات مع اختصاصاتهم الأكاديمية والمواضيع التي يدرسونها. ولكن، على النقيض من لودج (وهو، إضافة الى كونه روائياً، أكاديمي وناقد أدبي له دراساته ووزنه)، يوضح هويلبيك في ملاحظة في نهاية الرواية أنه لم يدخل الى جامعة في حياته، وأن كامل الجو الأكاديمي الذي بناه هو حصيلة محادثاتٍ أجراها مع صديقة تدرّس في الكلية. من الممكن مقاربة نظرة هويلبيك الى المرأة من هذه الزاوية؛ فحين يفترض هويلبيك أنّ الزواج البطركي هو مؤسسةٌ "مستقرّة"، تتحدد فيها المسؤوليات عبر تراتبية واضحة، ونساء قانعاتٍ خاضعات، وتتعايش فيه الزوجات المتعددة بمرحٍ وسلام، فهذا، ببساطة، دليلٌ على أنّ هويلبيك لم يدخل في حياته منزلاً سعودياً، ولا فكرة لديه عمّا يدور في بيوت المتديّنين (بالمعنى الأعمق، فإنّ استعداد هويلبيك الحماسي للتخلي عن "الاستقلالية"، نيابة عن النساء، يدلّ على أنه لا يملك أي فكرة عن معنى أن تكون امرأة، أو أن تكون تحت إمرة ووصاية، أو أن تضطر إلى تقاسم من تحبّ).
في الرواية، يتعرّف فرنسوا إلى البروفسور ريديجيه، وهو كاثوليكي سابق ابتدأ حياته في صفوف العنصريين المعادين للهجرة، ولكنه سرعان ما اكتشف أن الكاثوليكية قد فقدت حيويتها ولم تعد قادرة على استبدال النظام العلماني المفلس، فتحوّل الى الإسلام في وقتٍ مبكر، وأصبح من مستشاري "الإخوان" ومحمد بن عباس. يقطن ريديجيه في قصرٍ تاريخي في أفخم أحياء باريس (التمويل الخليجي) ولديه زوجتان: مليكة، في الأربعين، واختصاصها إعداد الأطعمة اللذيذة للبروفسور ورفاقه، وعائشة (مراهقة يصادفها فرنسوا بالخطأ في بهو القصر وهي ترتدي قميص "هالو كيتي") "لكلّ شيء آخر". حين يسأله فرنسوا عن احتمال التحوّل الى الإسلام باعتباره أعزب، يشرح له ريديجيه باختصار "الأساسيات"، وأنّ عدد الزوجات في الإسلام مرتبطٌ أساساً بالقدرة المادية للرجل؛ ثمّ يقول لفرنسوا بجدية، بعد عملية ذهنية سريعة احتسب خلالها راتبه المفترض: "أعتقد أنّك ستكون قادراً على إعالة ثلاث زوجات" (يتبع).