كيف يستقيم أو ينجح مؤتمر «جنيف 2» في ظل استمرار سياسية الاعتقالات والملاحقة والمضايقات، التي لا تقف عند حدود الناشطين وأصحاب الرأي، بل تطال شخصيات تساهم في التحضير للمؤتمر، وبالتأكيد فإن بعضاً منها سيشارك في المؤتمر فيما لو تم عقده. مع اقتراب مؤتمر «جنيف 2» تزداد وتيرة الحراك الدولي لتذليل المصاعب التي تعيق انعقاده. ورغم الحديث عن توافق دولي بين الروس والأميركان، إلا أن هذا لا ينعكس بشكل واضح على كثير من المواقف الدولية والإقليمية، في وقت تتزايد فيه حدة المواجهات العسكرية. إن تجليات التناقض الدولي تبدو واضحة في مواقف الدول الإقليمية بخصوص تعاملها مع الأزمة السورية. من هذه الزاوية، يمكننا تحديد تداعيات امتناع الولايات المتحدة عن توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا وكذلك تقاربها مع الجمهورية الإيرانية، في سياق آليات اشتغال العربية السعودية التي تميل سياساتها إلى التشدد والتصعيد العسكري في سوريا، وهذا يدلل ظاهرياً على خلعها العباءة الأميركية. لكن المواقف السياسية للعربية السعودية تنطلق من دواعي الحفاظ على مصالحها ودورها الإقليمي تحت المظلة الأميركية. من هذا المنظور ترى العربية السعودية أن السياسة الأميركية الحالية في سوريا وتقاربها مع إيران، تمهّد الطريق إلى ازدياد النفوذ الإيراني، وتحديداً في حال تمكنت من المحافظة على قدرتها النووية. وهذا يشكل من وجهة نظرها خطورة على استقرار منطقة الخليج، وتراجع دور المملكة إقليمياً.
ويتجلى الموقف السعودي من الأزمة السورية من خلال زيادة دعمها لبعض المجموعات السلفية الجهادية، واشتغالها على تشكيل (بديل عشائري عن الجيش الحر) والضغط على مكونات الائتلاف السياسية والعسكرية. ويندرج هذا التحوّل في سياق تصعيد حدة المواجهات لتعديل موازين القوى الميدانية، وإعاقة الحل السياسي، وتأخير انعقاد مؤتمر جنيف، لتحقيق مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة. وهذا لا ينطلق من تمسّكها بمصالح الشعب السوري وقضاياه العادلة. بل يتحدد انطلاقاً من تمسّكها بدورها الإقليمي والحد من تراجع علاقتها مع الأميركان لصالح القوة الإيرانية التي أرعب الغرب بها سابقاً حكام الخليج العربي. فالسياسات السعودية الأخيرة تندرج في سياق إظهار قدرتها على إعاقة السياسات الأميركية الجديدة.
أما في ما يتعلق بسياسة بعض الحكومات الإقليمية والدولية وتحديداً القطرية، فإنها تعمل بعد فقدانها الأمل بإسقاط النظام بالقوة العسكرية، من منظور جديد، يقوم على إعادة ترتيب أوراقها وحساباتها بما يتوافق مع المعطيات والمتغيرات السياسية الإقليمية والدولية والميدانية.
إن عرضنا لبعض التناقضات والتحولات السياسية الدولية والإقليمية، يشكّل مدخلاً لفهم صعوبة مواقف العديد من فصائل المعارضة، بخصوص الحل السياسي والمشاركة في مؤتمر «جنيف 2»، ذلك نتيجة تعرّضها لمزيد من الضغوط من قبل الدول الضالعة في الأزمة السورية.
إن تحول الصراع السوري إلى صراع دولي وإقليمي أصبح من نافلة القول. وهذا ينعكس على آليات اشتغال معارضات تدّعي تمثيل «المعارضة والثورة والشعب» لكنها بالكاد تمثّل نفسها، كونها لا تمتلك من قرارها شيئاً. فواقع الحال يدلل على أن معارضة الخارج تعاني من التفتت والتشتت والعصابية وغياب العقلانية السياسية، بينما تصر السلطة على عدم الإصغاء لصوت (الإنسان) السوري. وكلا الأمرين ينعكسان بأشكال مأساوية وكارثية على المجتمع السوري. ويشكّلان إهانة لشعب تتحكم بمصيره قوى كونية لا ترى في الصراع إلا مصالحها.
فالمعارضات السياسية الخارجية (الائتلاف الوطني) لها حسابات سياسية خاصة تتحدد في كثير من الأحيان من منظور ديني مذهبي، فئوي وجهوي، وحتى شخصي، وهذا يتنافى مع الرؤية السياسية المنهجية. وبنفس الوقت يزيد من حدة التناقض بين المعارضة الخارجية والداخلية، وضمن مكونات المعارضة الخارجية، وأيضاً داخل المعارضة الداخلية. كذلك يزيد من حدة التناقض بين الفصائل السياسية والمجموعات المسلحة. فالاستقواء بالخارج والاحتكام إلى العنف واستمرار انقسام الائتلاف على ذاته يهدد بانهياره، ومع هذا يصر قادته على ادعاء تمثيل «الثورة، المعارضة والشعب». وهذا لا يعبّر بالمطلق عن رؤية سياسية عقلانية، ويناقض الواقع الموضوعي القائم على التنوع السياسي الذي يصل حدود التناقض. وإذا كان للمعارضة من دور في وضع ملامح سوريا الديمقراطية المدنية التعددية، فإنه لن يكون إلا باحتضان شعبي. لكن السوريين يرفضون الآليات والسياسات القهرية، وكذلك من يحاول احتكار تمثيلهم.
وهذا يفترض من المعارضة أن تتحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والوطنية، وترتقي لحرمة دماء السوريين. فالشعب فقط من يقرر بنية النظام السياسي المستقبلي وأشكال تجلياته. ومن المؤكد أنه لن يقبل بإعادة إنتاج الاستبداد. ومع هذا فإن ممارسات غالبية فصائل المعارضة السياسية والمسلحة تُفصح عما يكتنفها من استبداد وتخلف وثأرية. في وقت يشهد فيه المجتمع السوري انتشار العصبيات العشائرية والمذهبية والطوائفية وثقافة التخوين والتآمر والاستئصال. وهذا يدلل على أن الطريق إلى الديمقراطية إن لم يكن مسدوداً فإن دونه الكثير من المصاعب.
ففي هذه اللحظة بالذات، يجب على المعارضة الخاضعة للقوى الخارجية أن تخلع عباءة الولاءات الإقليمية والدولية. تحديداً بعد انكشاف ما تحضّره هذه الأطراف لسوريا والسوريين. وإذا لم تُدرك هذه الأطراف مخاطر رهانها على التدخل الدولي، فإن هذا يشكّل جريمة بحقها وبحق الشعب السوري. وإن كانت تدرك، فإن العودة إلى العقلانية السياسية خيارها الوحيد. فالتراجع عن سياسات الارتهان والارتجال والثأرية، وإعمال مبضع النقد والنقض لكل السياسات السابقة يشكّل ضرورة وطنية.
إن القوى الدولية والإقليمية وصلت إلى طريق مسدود، فالقتل والدمار لم يحقق مشروعها بالقدر والشكل الذي تريد، رغم أن دمار البنية التحتية وتفتيت النسيج الاجتماعي يخدم مصالحها ومصالح إسرائيل. في هذه الحالة، لم يبق أمامها إلا إنجاز تسوية سياسية تضمن التوازنات والمصالح الدولية والإقليمية في المنطقة، وتُحلحل الأزمة السورية التي كان لكثير من الحكومات الغربية والإقليمية الدور الأساس في إيصالها إلى ما وصلت إليه.
فالمعارضة الموجودة في الخارج تعاني تناقض وانقسام بين مكوناتها السياسية والعسكرية، وبينها وبين الفصائل السلفية الجهادية الرافضة لأي حل سياسي، وكذلك تُخوّن معارضة الداخل لأنها من وجهة نظرها مرتهنة للنظام وتعمل في كنفه. بالتأكيد ما زالت بعض الأطراف تمارس نشاطها السياسي في كنف السلطة، لكن الجزء الأكبر من معارضة الداخل يتمتع بعقلانية سياسية وصلابة وطنية وبتاريخ سياسي مشرّف لا يمكن أن يطاله أحد بالتخوين أو حتى بالتشكيك، وهذا يؤهلها للمشاركة في رسم ملامح سوريا المستقبل. لكن من يمارس سياسية التأجيج والتحريض والعنف لا يحق له أن يزايد على أي مواطن سوري في الداخل. فالذي يعيش الأزمة ويكتوي بنيرانها ليس كمن يتابع مجرياتها من الخارج، هذا إن كلف نفسه عناء المتابعة، ولن يلهيه جمع المال والاهتمام بالقضايا الشخصية والمتاجرة بدماء السوريين. فالسوريون في الداخل لهم الكلمة الفصل، ولا يحق لأي جهة سياسية أن تحتكر تمثيلهم. إن المعارضات السورية، فرّقتها الخلافات السياسية، والمصالح والولاءات، والقمع المركب. فالرهان على الخارج، وادعاء تمثيل الشعب و«الثورة» غير مقبول. وإذا كان من المحال توحيد المعارضة سياسياً. فإن التوافق على برنامج سياسي ديمقراطي، يجب أن يشكّل الحد الأدنى لمن سيشارك في جنيف. فالمعارضة مطالبة بتوحيد جهودها، والتنسيق المشترك، والدخول في حوارات واسعة وعميقة لصياغة رؤية موحدة لكيفية الخروج من الأزمة، والانتقال إلى نظام سياسي ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية.
لكن تجاوز التناقضات التي تعاني منها المعارضة دونه الكثير من الصعوبات،كونها نتاج تاريخ سياسي طويل. وهذا يُنذر بصعوبة التوافق السياسي، وتحديداً في ظل استمرار الضغوط الدولية وتمسّك البعض بضرورة التدخل الخارجي والحل العسكري، وهذا يحوّلها في سياق تراجع العقلانية السياسية إلى إحدى معوّقات الحل السياسي. هذه العوامل وغيرها تزيد من إمكانية إفشال المؤتمر ليبقى الصراع مفتوحاً على الدمار.

■ ■ ■



فالمطلوب من النظام والمعارضة السياسية في الداخل والخارج، والأطراف الإقليمية والدولية العمل على إنجاح مؤتمر «جنيف 2» بشكل يلبي حقوق السوريين المشروعة بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية، القومية، الإثنية، الدينية والمذهبية... وهذا يحتاج إلى:
ــ التوافق على تشكيل هيئة انتقالية (وطنية، تكنوقراط) ذات صلاحيات كاملة تقود مرحلة انتقالية ضمن جدول زمني محدد. من مهامها تشكيل لجان متخصصة لصياغة دستور يؤسس إلى مرحلة تكون فيها الحقوق والحريات الأساسية العامة والخاصة مُصانة، ويحدّد شكل النظام السياسي (يفضل أن يكون نظام برلماني) وهوية الاقتصاد (يفضل أن يكون اجتماعي يحقق العدالة في العمل والتوزيع) وقانون أحزاب وإعلام وانتخابات، ومتابعة عمل اللجان والإشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وعرض نتائج عمل اللجان على الاستفتاء الشعبي.
ــ إيقاف مصادر التمويل والدعم العسكري واللوجستي، وتكثيف التعاون الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة لإخراج المجموعات الجهادية التكفيرية وإيقاف الصراع بشكل كامل ومتزامن.
ــ نزع عباءة الولاءات الدولية والإقليمية ورفض أي تدخل خارجي. والالتزام بالقضايا الوطنية العليا (وحدة الجغرافيا السورية في سياق ارتباطها بعمقها العربي، ووحدة المجتمع السوري).
ــ العمل على توفير مناخ ملائم للحوار: الإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المخطوفين، التوقف عن نهج الاعتقال السياسي الذي يستهدف السياسيين والناشطين السلميين وأصحاب الرأي، ضمان حق التعبير عن الرأي بالأشكال والآليات السلمية، ضمان إيصال المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية إلى كافة المناطق، رد المظالم لأصحابها، ومحاكمة المتورطين في عمليات القتل والاختطاف والتعذيب والنصب والسرقة...، إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بما يتلاءم والمصالح الوطنية العليا، تأمين عودة جميع السوريين إلى بلادهم، والعمل على حل مشكلة اللاجئين والنازحين، وتأمين عودتهم إلى مدنهم وقراهم وإيجاد مساكن لهم.
ــ إن الاستعصاء السياسي وتناقض مواقف قوى المعارضة من الأزمة وآليات التغيير، واستمرار اعتماد بعض أطرافها على العنف وسياسية الولاء والتبعية والمراهنة على الخارج، وادعاء «الائتلاف الوطني» تمثيل «الشعب والثورة والمعارضة» يقف حائلاً أمام مشاركتها في وفد موحد لا يكون فيه سلطة لطرف على آخر. وهذا يستوجب إنشاء تحالف يضم القوى الوطنية التي ترفض الطائفية والعنف والتدخل الخارجي وتتبنى برنامج تغيير ديمقراطي يضمن حقوق السوريين في الحرية والكرامة والعدالة. ومن المفيد طرح هذا المشروع في حوار مفتوح يشمل كافة القوى السياسية والمنظمات الشبابية والنسائية، والمهتمين في الشأن العام. ويجب أن تطرح نتائج الحوار في مؤتمر جنيف.
ــ الإقرار بأن نتائج مؤتمر جنيف لن تكون نهاية الأزمة، بل بداية حل يحدد أشكاله النهائية الشعب في حوار وطني سوري داخلي، ينطلق من ضرورة الحفاظ على التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية ويساهم في تجاوز الجراح والمآسي والأحزان والأحقاد.
ــ من منطلق الحفاظ على وحدة سوريا وإيقاف تداعيات الانقسام على المجتمع السوري، يجب رفض الحكومة المؤقتة التي أعلنها «الائتلاف الوطني» ورفض تشكيل أي كيان سياسي أو حكومة أو أمارة، كونها تساهم في زيادة انقسام وتفتيت المكونات الاجتماعية والسياسية، وتهدد كيانية الدولة وتخدم المصالح الخارجية وتُعيق مؤتمر «جنيف2». فخلف هذه التشكيلات تكمن نزعة أحادية إقصائية تسعى لاحتكار تمثيل الشعب والمعارضة. قد يكون من الصواب تأخير انعقاد المؤتمر إلى حين توفير المناخ السياسي المناسب، لكن شرط ألا يكون الهدف إجهاضه أو توليده قسرياً. ورغم خطورة الأدوار الإقليمية ومصالح الدول الإستراتيجية (النفط والغاز والسلاح) لكن لا يجوز التغاضي عن المأساة السورية وتداعياتها الإقليمية والدولية تحت أي من الذرائع. إن الأزمة السورية تستدعي كافة الجهود لمنع المزيد من الأفغنة أو الصوملة. فالأيديولوجية المتطرفة، ليس ضمن حساباتها بناء سوريا الديمقراطية الموحّد. وانتصار إيديولوجيتها يقوم على الجرائم ضد الإنسانية وعلى أنقاض سورية المدمَّرة.
* باحث وكاتب سوري