حفل عام 2013، الذي يلفظ أيامه الثلاثة الأخيرة، بالكثير من الأحداث والمتغيرات والتحولات. لم يأت ذلك من فراغ، وإن كان بعضه اتخذ طابع المفاجأة. النزاعات العديدة التي هي بدورها ثمرة تناقضات اقتصادية واجتماعية وسياسية، أدخلت معادلات جديدة على خارطة التوازنات والعلاقات في المستويين العالمي والإقليمي بشكل خاص.دول «المتروبول»، التي مارست الاستعمار بشكليه القديم والجديد، والتي استقرت أنظمتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، لم تستطع أن تحافظ على مكاسبها الدولية لفترة طويلة. الولايات المتحدة هي الحلقة الأخيرة في مسلسل التراجع عن الموقع الاول الذي اتسم لسنوات بالتفرد وبالانفراد إلى درجة دفعت «المحافظين الجدد» إلى القيام بمغامرات كانت عالية التكلفة. الرئيس الأميركي باراك أوباما خير من يدرك ما استجد من عوامل الضعف الأميركي، وخير من يدير سياسات أكثر مرونة، أي أكثر عقلانية، في المرحلة الراهنة. تحدث أخيراً، وبشكل كامل الصراحة، عن أن «الواقع غير التمنيات» في دفاعه عن الاتفاق النووي الأوّلي مع إيران.
وفيما أوروبا تواصل تراجعها عن دورها التقليدي السابق، رغم فرص تنتظرها ولم تستثمر بعد، تتقدم روسيا في حلبة التنافس خطوات واسعة إلى الأمام. يدير الرئيس فلاديمير بوتين سياسة واعية لهذا الغرض. لم يقبل التفرد الأميركي. عزّز الوحدة الداخلية نسبياً. أعاد الاعتبار لقوة روسيا العسكرية. استثمر في السياسة الخارجية باسم الدفاع عن القانون والتوازن الدوليين. ساهم في إنشاء تكتلات إقليمية وقارية ودولية لتعزيز فرص بلاده في الحضور والمنافسة. أسقط التفرد الأميركي في السيطرة على المؤسسات الدولية وتسخيرها. خاض معارك فعلية لمواجهة استراتيجية التدخل الأميركي والغربي الجديدة. نجح إلى حدّ ملموس وكبير في تعزيز مكانة بلاده قطباً دولياً مؤثراً.
هذه وسواها تركت تأثيراً كبيراً في بلدان «العالم الثالث». عانت هذه البلدان بعد استقلالها السياسي من مشاكل ضعف التنمية، وهشاشة البنى السياسية، وغياب المؤسسات والقانون، واستشراء الاستبداد والفساد، وتفاقم التبعية، وانعدام الاستقرار، وتفكك البنى الاجتماعية، وغياب ضمانات التقدم والوحدة المجتمعية والوطنية...
أفلتت من هذا المسار، نسبياً، بلدان عدة، دول البريكس خصوصاً، التي استطاعت ضمن مخاض ما زال مستمراً حتى اليوم من أن تتقدم في حقول عديدة: التنمية وتحسن نسبي في المسار الديموقراطي وفي التخلص من بعض أعباء الهيمنة والتبعية الخارجية. الصين، من بين هذه الدول، ما زالت «تدهش العالم» كما توقع نابليون حين نصح بإبقائها «نائمة». هي تتقدم بخطى ثابتة وحثيثة نحو المركز الاقتصادي الاول في العالم. لا يحصل ذلك، طبعاً، بدون تداخل وحتى تكامل، من ضمن تناقض لا يزال يحكم مسارها بسبب طبيعة نظامها، المحافظ سياسياً، والمنفتح والمبدع اقتصادياً. الصين تستعد تباعاً للعب دور أكبر على المستوى الدولي.
من جهته، ما زال الشرق الأوسط مسرح عمليات واختبارات هي الأعنف والأخطر والأطول. منذ احتلال الكويت وغزو العراق وأفغانستان قبله، إلى المحطات الليبية والسورية، تدور معارك ضارية، طابعها العام عسكري بسبب حدة التنافس وتخلف البنى القائمة وشهوة الاستبداد المتفاقمة. التناقضات الهائلة ما بين الثروة وانعدامها، ووفرة الموارد وقلة التنمية، واستشراء الفئوية وانعدام المشاركة، وضغط الهيمنة والتبعية وحاجات التطور والتقدم السياسي والاجتماعي... كل ذلك وسواه، أطلق موجة من الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة. لم تكن تلك الموجة موحدة المنطلقات والاهداف. ولم تكن وحدها فاعلة في ساحات وميادين الحركة والصراع. تحرك المتضررون وفي حوزتهم امكانيات هائلة في حقول النشاط السياسي والاقتصادي والاعلامي، من أجل احتواء وتوجيه المارد الشعبي. أدّت صفقة شبه شاملة إلى اعتماد حركة «الإخوان المسلمين» أداة لاستيعاب الاحتجاج ولإدارة مرحلة تاريخية كاملة. لم ينجح ذلك. يستمر الصراع الآن لاشتقاق بدائل جديدة، هي في الاجمال موضع صراع ما بين قوى الهيمنة الخارجية، وقوى السيطرة الداخلية، وقوى شعبية، شبابية خصوصاً، تخوض الكفاح من دون عدة كافية من الخبرة والتنظيم وصياغة الأولويات... يفاقم من ذلك استمرار تراجع دور وحضور قوى التغيير التقليدية التي وجدت نفسها، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات الماضية، خارج الوعي والقدرة على التجاوز والإحاطة بالشروط والمتغيرات الجديدة وممارسة التفاعل الضروري معها.
وسط ذلك، وما بين الهيمنة الخارجية والاستبداد الخادم لها، وفي شروط تعاظم الفئويات والبطر والفساد واحتقار حقوق الناس، وخصوصاً الضعفاء والفقراء منهم، تقدمت الأوهام والعصبيات والخرافات والانفعالات، وبات «التطرف» هو الحل. وهو تطرف وتصرف أعمى: لا عقلانية فيه، لا أولويات، ولا مراحل. إنه يحاول إعادة كتابة الحاضر باستثناءات الماضي عنفاً ودماً... وبعد قرون وعقود لم ينقطع فيها التقدم والانجاز، ولم تتوقف الحضارة والعقلانية.
لا شك في أنّ الأصولية العمياء والتدميرية هي آفة العصر والمنطقة وربما العالم. ولا شك في أنّ من بين أبرز محفزاتها عهوداً طويلة من الاستعمار والاستغلال والاستبداد والحرمان من كل الحقوق. لكنها حلّ انتحاري خالص. ومع ذلك تبقى نتيجة وليست هي السبب. الحلّ، إذاً، في إدارات جديدة وعلاقات متوازنة، واحترام مطرد لحقوق الناس، وبرامج جديدة للتنمية بكل أشكالها، وخصوصاً الاقتصادية منها.
شجعت حالة الفوضى والتفكك الراهنة غلاة الصهاينة على تحقيق المزيد من المكاسب على حساب الشعب الفلسطيني خصوصاً، والعرب عموماً. يشجع على ذلك أيضاً دعم أميركي مستمر وعجز عربي متفاقم. كذلك يشجع الصهاينة انقسامُ الفلسطينيين واستقطاب بعضهم في محاور فئوية لم تفعل إلا تعميق العجز وتقليص الدور والفاعلية.
ويواصل لبنان اضطرابه «التقليدي» منذ أن قام نظامه واستقر على خلل متعدد «الطوق». لا تفعل القوى السياسية الرئيسية سوى تعميق الخلل ومعه المأزق والمخاطر التي يمكن أن تبلغ درجة في غاية الخطورة. لم تنهض القوى المدركة لهذا الخطر إلى دور إنقاذي. الانجازات نفسها مهددة بالضياع. لا يمكن تفادي الكارثة إلا بعمل إنقاذي
كبير.
لسنا بخير. الأمل في عمل أجدى وعام أفضل.
* كاتب وسياسي لبناني