في شهر تشرين الأول الماضي، قمت بجولة في ولاية كاليفورنيا بدعوة من خمس من أهم الجامعات فيها، لتقديم محاضرات عن كتابي «العرب والمحرقة النازية» (دار الساقي، 2010، للطبعة العربية). وكنت قبل ذلك قد ألقيت محاضرات مماثلة في عشر من أبرز جامعات الولايات المتحدة. أثار الأمر غيظ الصهاينة، فشنّت عليّ شبكة «كامبس ووتش» ـــــ وهي متخصصة بالنباح على أعداء الصهيونية في الجامعات الأميركية ـــــ هجوماً اتخذ شكل مقال طويل نُشر في عدد وافر من مواقع الإنترنت، وأضيف إلى حملة من السباب الإلكتروني والورقي، لا تني تتصاعد.
امتعض مقال «كامبس ووتش» من أنّ كتابي «يحوز شرعية هامة في الدوائر الأكاديمية؛ إذ يغطّي خلاصاته العجيبة بقناع من المواصفات العلمية، بينما يدعّم انحيازات القائمين على دراسات الشرق الأوسط اليساريين المعادين لإسرائيل». ومما أخذ المقال عليّ، أنّني أكرر حجج «محامي معاداة السامية عند العرب»، وأقلل من شأن «الدور المصيري الذي أداه الحاج أمين الحسيني» في تعاونه مع النازيين، وأتحدث عن «مقاومة إسلامية»، وهو «تلطيف حقير للإرهاب»، وأبرّر إنكار المحرقة في الشرق الأوسط، وهلمّ جرّاً.
ولا شك في أنّ تلك الحملة قد لفتت انتباه أسعد أبو خليل، وهو مقيمٌ في كاليفورنيا، فهبّ للدفاع عنّي في مدوّنته على موقع «الأخبار» بالإنكليزية، باذلاً جهده لردّ هجوم الصهاينة عليّ، بمحاولة إقناعهم بأنّني في الواقع مهادن لعقيدتهم. وأشكر له غيرته وحرصه على تبرئتي من معاداة الصهيونية، لكنّني أخشى أن تكون حججه ضعيفة وأن يكون فهمُ الصهاينة أقرب إلى حقيقة مواقفي من تفسيراته العوجاء.
وقد تذكّر أبو خليل، بالمناسبة، أنّه سبق أن انتقد كتابي على صفحات «الأخبار»، قبل سبعة أشهر، وذلك قبل أن يقرأه، فقرّر أن يُهدي إلى قراء النسخة العربية من الجريدة، في 17 كانون الأول، أي في الذكرى الأولى لانطلاق الثورة التونسية التي أشعلت نار الثورات العربية، مقالاً جديداً مخصصاً للهجوم عليّ ـــــ ربّما لاعتقاد صاحبنا أنّ مصير الثورات العربية متوقف على محاربتي. لكنّه، على الأقل، حاول قراءة الكتاب هذه المرة، ويا لها من قراءة!
وللإنصاف، فقد استهل مقاله ببعض المديح، كاتباً: «أقدّر الجهدَ البحثي الذي كرّسه المؤلّف، كما أنّني أقدّر قوّة الحجّة التي ساقها لدحض الأقاويل والمزاعم الصهيونيّة بشأن موضوع الحاج أمين الحسيني وموضوع «لاساميّة العرب». كذلك، أحسن الكاتب إبراز التناقضات التي ترد في كتابات صهيونيّة، وخصوصاً في كتابات برنارد لويس. وأنا بدوري أقدّر الجهدَ النفسي الذي كرّسه أبو خليل لكي يقرّ بذلك. لكن إقراره جاء مقدمةً لسيل من الانتقادات، سعى فيها إلى المزايدة القومجية عليّ، ولإيهام القراء بأنّه أكثر إحاطة بموضوع الكتاب من مؤلفه؛ إذ إنّ صاحبنا حريصٌ على الإيحاء بأنّه عالم عليم يفتي في كافة المسائل. بيد أنّ محاولته هذه المرّة، كما في السابقة، إنما تكشف عن حدود علمه وفهمه وإفراط ادّعائه، كما سنبيّن.
فلنبدأ بالانتقادات السياسية. بعد جملة الثناء المذكورة، استدرك أبو خليل على الفور قائلاً: «لكن الكتاب يُسهم، من حيث لا يريد المؤلّف، في الإضافة إلى المكتبة الضخمة التي أنتجها الغرب عن موضوع الحاج أمين و«لاساميّة» العرب». يعني أن هناك مكتبة ضخمة معادية للعرب، فلا يجوز أن نضيف إليها كتاب تميّزه، على حد قول أبو خليل نفسه، «قوّة الحجّة التي ساقها لدحض الأقاويل والمزاعم الصهيونيّة...»، إلخ. إنّه لمنطق عجيب حقاً! ظننت (وكتبت) أنّ دافعي إلى تأليف كتابي، وبكامل إرادتي، هو بالضبط ضخامة المكتبة الصهيونية المعادية للعرب في مواضيع بحثي، وضرورة دحضها وتفنيدها. فها هو أبو خليل يخبرني أنّ ذلك مضرّ لأنّه يمثّل «إضافة»، وأعترف بأنّ تلك الفكرة العميقة لم تخطر ببالي.
ويتابع صاحبنا: «إنّ تكرار الإدانات لمواقف أصبحت في ذمّة التاريخ شبه القديم، لا يقدّم ولا يؤخّر، إلا من باب إحراج الشعب الفلسطيني بسبب خيارات غبيّة وغير أخلاقيّة للحاج أمين الحسيني». عجيب! كيف يستطيع كتابٌ يدحض «الأقاويل والمزاعم الصهيونيّة بشأن موضوع الحاج أمين الحسيني» أن يحرج الشعب الفلسطيني؟ بل يرى أبو خليل أنّ «جوهر خلافه» معي هو أنّ كتابي يتضمّن «إدانة جديدة للحاج أمين»! ثم يضيف بعد أسطر: «أما بالنسبة إلى الحاج أمين الحسيني، فمن يستطيع أن يختلف مع الأشقر في تصويره لتلك الطامة الكبرى؟ الحاج أمين ألحق أضراراً كبيرة بقضيّة الشعب الفلسطيني، وضغط مُبكّراً لتنفيذ مآرب الدولة العبريّة... قدّم خدمات جلّى للصهيونيّة عبر العقود، من خلال خطابه الغبي وممارساته السيّئة».
قد يستنتج أي عاقل ممّا سبق أنّ الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني يتطلب إدانة هذه «الطامة الكبرى» بغية إحباط استغلالها من الصهيونية. وهذا ما فعلتُ في كتابي، حيث بيّنت ما لم يعد أبو خليل «يستطيع أن يختلف» معي بشأنه (علماً بأنه اختلف قبل سبعة أشهر، أي قبل قراءة الكتاب)، وفنّدت في الوقت نفسه «المزاعم الصهيونيّة بشأن موضوع الحاج أمين الحسيني»، سواء تلك التي تضخّم دوره في التعاون مع النازيين أو تلك التي تصوّره زعيماً أوحد لدى الفلسطينيين وسائر العرب بعد رحيله إلى أوروبا، رغم أنّ دعواته إلى الالتحاق بالمحور الألماني ـــــ الإيطالي لم تلقَ صدىً يُذكر في المنطقة العربية، ورغم أنّ المدّ القومي العربي الصاعد بعد النكبة قد نبذه بوصفه رمزاً من رموز الرجعية العربية.
ثم يوجّه أبو خليل إليّ الحجة البالية نفسها التي وجّهها قومجيون عرب إلى إدوارد سعيد بالأمس، فيأخذ عليّ «التعبير عن حساسيّة ليبراليّة غربيّة، ترفض المقارنة بين معاناة الشعب الفلسطيني ومعاناة اليهود». وكأنّ الإقرار بأنّ المحرقة النازية، التي ذهب ضحيتها بين خمسة وستة ملايين من اليهود بأبشع الطرق، هي مأساة تاريخية أخطر بكثير من النكبة التي اغتصبت الصهيونية من خلالها أرض فلسطين واقتلعت منها غالبية شعبها، كأنّ الإقرار بذلك إذاً إنما ينمّ عن «حساسيّة ليبراليّة غربيّة»! والحقيقة أنّ مثل هذا القول هو الذي ينمّ عن افتقارٍ لأبسط القيَم الإنسانية. وقد فات أبو خليل ما رافق الإقرار المذكور في كتابي، ألا وهو التأكيد أنّه، حيث كانت محرقة اليهود «إبادة جماعية» بينما كانت النكبة «تطهيراً عرقيّاً»، فهما بالتالي صنفان ممّا يسمّيه القانون الدولي «جرائم ضد الإنسانية»، وإن كانت الجريمة الأولى أكبر من الثانية.
ويستشهد أبو خليل بإقراري بحقيقة بديهية هي أنّ تاريخ الاستعمار قد شهد مجازر أعظم من تلك التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، منها المجازر التي ارتكبها الفرنسيون في الشعب الجزائري، فيسأل: «ماذا يريد الأشقر أن يقول هنا بالضبط؟... إنّ حجّة الأشقر هنا، وهي فاتتني، تقلّل من حجم معاناة الشعب الفلسطيني. تلك هي مشكلتي الأساسيّة مع الكتاب». وقصدي جليّ، ولو عجز أبو خليل عن فهمه. لكن لا بأس من السؤال، فالجواب هو أنّ التشديد على كون التاريخ الحديث قد شهد مجازر أخطر مما تعرّض له الفلسطينيون، إنما هو حجة يرفعها أصدقاء الصهاينة في وجهنا، للزعم أنّ قضيّة فلسطين تحوز اهتماماً أكبر مما تستحق. والردّ على تلك الحجة لا يكون بالمبالغات غير المقنعة التي يمارسها للأسف بعض العرب، بل يكون مثلما حاولت في كتابي حيث جاء:
«كيف يمكن إذاً تفسير كون الاضطهاد الذي كابده الفلسطينيون على أيدي الإسرائيليين يتمتع بهذه المكانة الواسعة بين القضايا التي يدور الجدل الحار بشأنها في زماننا؟ هناك عدة أسباب لذلك. وأحد هذه الأسباب هو أنّ إسرائيل هي الدولة الاستيطانية الاستعمارية الأوروبية الوحيدة التي لا يزال يتعيّن فيها استعادة الحقوق السياسية للسكان الأصليين... وإسرائيل الآن هي الدولة الوحيدة في العالم التي تجمع بين ثلاثة أشكال للاضطهاد الاستعماري... وعلى هذه الخلفية، يظهر النضال الفلسطيني على ما هو عليه في الواقع: إنّه النضال المهم الأخير ضد الاستعمار في التاريخ العالمي...» (ص 52 ـــــ 55).
ثم يطلع علينا أبو خليل بخلاف «جوهري» ثالث: «مواقف الأشقر من الصراع العربي الإسرائيلي هي في صلب الخلاف بيني وبينه. يُفهم من كلام الأشقر أنّه يريد من العرب «الاعتراف بـحق إسرائيل في تقرير المصير الوطني». لكن، كيف يمكن العرب الاعتراف بحق تقرير المصير للعدوّ، إذا كان تحقيق هذا الحق يتكرّس فوق أرض فلسطين؟».
وأترك للقراء أن يروا بأنفسهم ماذا «يُفهم» من كلامي في الفقرة التي يشير اليها أبو خليل، وقد تحدثت فيها عن مشروع القرار الذي تقدمت به الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين إلى الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني في 1969، وقد دعا المشروع الى «إنشاء دولة فلسطينية ديموقراطية شعبية يعيش فيها العرب واليهود بدون تمييز،... مع إعطاء الحق في تنمية وتطوير الثقافة الوطنية لكل منهما». فعقّبت «أنّ مشروع القرار هذا لم يمض إلى حدِّ الاعتراف اعترافاً صريحاً بحقٍ إسرائيلي في تقرير للمصير القومي يتعايش مع حق تقرير المصير الفلسطيني بعد الإطاحة بالهياكل القمعية للدولة الإسرائيلية عبر نضال فلسطيني ـــــ إسرائيلي مشترك. لكن أفقاً كهذا طرحه نايف حواتمة [في مقال] نُشر في عدد 12 كانون الثاني 1970 في أسبوعية «الحرية» البيروتية. فهنا تَصَوَّرَ حواتمة بنيةً فيديرالية للدولة القادمة في فلسطين، مستشهداً بمثالي تشيكوسلوڤاكيا ويوغوسلاڤيا، مؤكداً بذلك أفقاً ثنائي القومية» (ص 352).
وينهي أبو خليل تعليقاته السياسية بالتصريح الدرامي والديماغوجي التالي: «إنّ الخلاف بيني وبين الأشقر ليس منهجيّاً فقط، بل سياسي أيضاً. هو يرى أنّ هناك صهاينة خيّرين، ويختلف مع صيغة «الصهيونيّة هي عنصريّة»، وأنا أتفق بالكامل مع تلك المعادلة. هو يدعو إلى اعتراف متبادل بين العرب والإسرائيليّين وأنا أرفض وجود الكيان الصهيوني على أي شبر من أرض فلسطينيَ الغالية».
فما هي حقيقة المواقف التي أفصحتُ عنها والتي يشوّهها أبو خليل، سواء كان ذلك عن سوء نيّة أو ضعف فطنة؟ لقد ميّزت بين أصناف من الصهيونية، وكل عالمٍ بالموضوع يدرك أنّ هناك صنفاً من الصهيونية كان معادياً لمبدأ «الدولة اليهودية»، ويدعو إلى «دولة عربية ـــــ يهودية ثنائية القومية»، وهو الصنف الذي يشير إليه نوام تشومسكي ونورمان فنكلشتاين عندما يرفضان وصفهما بالمعاديَين للصهيونية. فميّزت هذا الصنف (الأقلّوي جداً)، الذي لا يمكن نعته بالعنصري (مهما اختلفنا معه)، عن «الصهيونية القائلة بدولة لليهود». وقلت إنّ هذه الأخيرة: «ما إن اختارت إقامة «دولة لليهود» في فلسطين كـ«جزء من متراس أوروبا ضد آسيا، كموقع أمامي للحضارة في وجه البربرية» ـــــ التعريف الذي نجده في بيان مؤسِّسها تيودور هرتسل ـــــ قد أصبحت، تلقائيّاً، بحكم هذا الواقع، حركة استعمارية عنصرية أساساً وبهذه الصفة، مطابقةً لأشكال الاستعمار الأوروبية التي كانت قد تماهت معها...» (ص 438).
أما الاعتراف المتبادل الوحيد الذي تحدّثت عنه في كتابي، فهو ـــــ بما لا يترك مجالاً للالتباس ـــــ الاعتراف المتبادل بالمحرقة والنكبة (ص 439). وقد فسّر أبو خليل هذا المبدأ البديهي بأنّه دعوة إلى «اعتراف متبادل بين العرب والإسرائيليّين»، وهي فكرة غبيّة، وكأنّنا بحاجة إلى اعتراف الإسرائيليين بنا! هذا التشويه يدخله أبو خليل كي يعلن بنبرة المبالغة العاطفية الرخيصة أنّه يرفض «وجود الكيان الصهيوني على أي شبر من أرض فلسطينيَ الغالية» (لاحظوا تملّكه لفلسطين!)، وكأنّه أكثر معاداةً منّي لوجود الدولة الصهيونية، وكتابي كلّه مكرّس بالدرجة الأولى لمحاربتها والقيّمين عليها.
هذا في ما يتعلّق بأهم الافتراءات التي جاءت في مقالة المزايد أبو خليل إزاء مواقفي السياسية. فلننظر الآن بسرعة في بعض ملاحظات العلّامة أبو خليل، والغاية لا تعدو كشف فراغها وغطرستها؛ إذ إنّها، للأسف، عديمة الجدوى تماماً.
لقد كتبتُ في مستهلّ القسم الثالث من كتابي ما يأتي: «في ما سبق، قمنا بدراسة تزامنية للتيارات الإيديولوجية الرئيسية في السياسة العربية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. أَمَّا الصفحات التالية، بالمقابل، فهي منظمة تنظيماً زمنيّاً، فهي تركز بشكل حصري، أو شبه حصري، على التيار الإيديولوجي الخاص الذي سيطر على كل حقبة رئيسية. والنظرات التي نلقيها أدناه هي في آن واحد أقل استفاضة وأقل تفصيلاً من النظرات التي ألقيناها في القسم السابق من هذا الكتاب». ثم شرحت سبب ذلك، مؤكداً «أن دراسة للعقود الستة منذ عام 1948، إن كان لها أن تكون مستفيضة وتفصيلية كدراسة العقدين السابقين لعام 1948، من شأنها أن تتطلب أكثر من مجلد واحد...» (ص 279ـــــ280).
وها إن أبو خليل يشير الى حالتين لم أذكرهما بين منشورات مرحلة بعد النكبة المتعلقة باليهود ـــــ بينما هناك، بلا مبالغة، آلاف عديدة من الكتب والمقالات لم أذكرها ـــــ كي يعلن أن إحاطتي بالمراجع العربيّة «غير كاملة بصورة جليّة». أما الحالتان، فهما الكتاب التافه «عرب ويهود» الصادر في 1968 للمرتدّ عن حزب البعث، سامي الجندي، ويقول أبو خليل عنه «إنّه من المؤلّفات المُبكّرة [كذا] عن الموضوع الذي يهمّنا» بما يوحي بأنّه لم يقرأه. والحالة الثانية، ناجي علّوش الذي يأخذ عليّ أبو خليل عدم الإشارة إلى كتاباته «وفيها حساسيّة للمسألة اليهوديّة»، وكأنّه يجهل أنّ كتاب علّوش الرئيسي عن اليهود هو «الماركسية والمسألة اليهودية» الذي صدر في 1969، لكنّه أُنجز قبل 1967 كما جاء في خاتمته. ولم أجد فيه ما يفيد بحثي في مواقف المقاومة الفلسطينية في مرحلة 1967 ـــــ 1987. وبما أنّه يبدو أنّ أبو خليل لم يقرأ هذا الكتاب أيضاً، فسوف أهديه النسخة التي اشتريتها عند صدوره.
ثم يستهجن ناقدي ذكري لآخرين: «كيف أنّ الكاتب يشير إلى كتابات المؤرّخة بيان نويهض الحوت، مع أنّ كتابها «فلسطين: القضيّة. الشعب. الحضارة» تضمّن استشهادات ببروتوكولات حكماء صهيون (ووالدها كان مُروّجاً مُتحمّساً للبروتوكولات). كيف فات ذلك الكاتب؟» أجزم بأنّ أبو خليل لم يقرأ للدكتورة بيان نويهض الحوت سوى الكتاب الذي ذكره، فلو اطّلع على نتاجها الغزير لأدرك أنّها أغنت المكتبة العربية بمراجع لا يمكن أي باحث في التاريخ العربي والفلسطيني تجاهلها. أما العقلية التي ترى أنّه ما إن اختلفنا مع أحد في شأن ما، حتى لو كان مهماً، وجب علينا نبذ كل ما صدر عنه، فهي عقلية تكفيرية أبعد ما تكون عن المنطق العلمي. والأمر نفسه ينطبق على لوم أبو خليل لي لاستشهادي بكتاب لحازم صاغيّة عن القضية الفلسطينية صدر في 1997. فهل لتحوّل صاغيّة إلى موقعه السياسي الحالي مفعولٌ رجعي، ينسحب على كلّ ما كتب منذ عقود؟ إنّه المنطق عينه الذي دفع أبو خليل إلى لومي على تصنيف إحسان عبد القدّوس في «اليسار الناصري» لأوائل الستينيات، عندما ترأس مجلة «روز اليوسف»، أحد منابر ذلك التيار آنذاك. فيرى أبو خليل «أنّ الرجل كان يمينيّاً، وقد ارتبط بالسادات وبالعداء لليسار»، بما ينمّ عن جهل بالتاريخ وخلط لمراحله. وهذا أيضاً ما جرّ أبو خليل إلى الإيحاء بأنّ المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، عندما أسهم في كشف زيف الادعاءات الصهيونية في موضوع اللاجئين الفلسطينيين، لم يكن سوى «يميني من دعاة المزيد من التطهير العرقي». والحال أنّ الرجل دخل السجن في 1988، في السنة التالية لصدور كتابه عن اللاجئين، لرفضه الخدمة العسكرية في الضفة الغربية المحتلة، وقد ارتدّ إلى أقصى اليمين في بداية قرننا هذا (كرّستُ صفحات عديدة في كتابي لتحليل ارتداده، وإدانته). ثم يزعم أبو خليل انّني كنت «ليّناً جدّاً في حكمي على نازيّة، أو التأثير النازي على حزب الكتائب، مع أنّ المؤسّس، بيار الجميّل الجدّ، لم ينفِ تأثّره بالنازيّة أثناء رحلته إلى برلين، لحضور الألعاب الأولمبيّة». وكأنّه لم ينتبه إلى أنّني ذكرت «أنّ الكتائب اللبنانية قد أُنشئت في عام 1936 على يد بيار الجميل، وهو صيدلي ماروني لبناني عاد إلى بلاده من برلين وقد ترك النظام النازي في نفسه انطباعاً عميقاً» (ص 130 ـــــ 131). ويضيف ناقدي أنّني أخفّف «من عمق العلاقة التاريخيّة بين حزب الكتائب وإسرائيل». ويضيف: «نحن لا نعلم الكثير عن العلاقة التاريخيّة، إلا ما تسرّب في الكتابات والمراجع العبريّة، وهي تشير إلى دعم مالي إسرائيلي للحزب في انتخابات 1951». وهو يكرر هنا أيضاً ما جاء في كتابي، وقد أوردت اقتباساً طويلاً للمؤرخ بيني موريس السالف الذكر، يقول فيه: «ساعد الصهيونيون والإسرائيليون مجهود الكتائب الدعائي في الولايات المتحدة؛ وطُلب إلى إسرائيل مساعدة ثورة كتائبية في بيروت مساعدة مادية وسياسية؛ وطُلبت مساعدة مالية إسرائيلية، وتم الحصول عليها، لدعم حملة الكتائب الانتخابية في عام 1951» (ص 132).
ثم يمضي أبو خليل: «في المواضيع الإسلاميّة، لا يبدو الكاتب مُلمّاً بما فيه الكفاية. على العكس، فإنّه ينقل التصنيفات والمعايير الغربيّة. ينظر إلى تاريخ الإسلام من منظار التاريخ المسيحي». ويبدو أنّ صاحبنا لا يدري أنّ جوهر العلوم الاجتماعية هو علم الاجتماع المقارَن، فهو يتصرّف هنا على طريقة السذج الذين يرفضون كافة المفاهيم الآتية من الغرب لأنّها «مستوردة». بل لم يلاحظ أنّني، في استعمالي لمفهوم «الإصلاح المضاد» المستمدّ من تاريخ الكاثوليكية، شدّدتُ على اختلاف طبيعة «الإصلاح المضاد الإسلامي» (السلفي الرجعي) عن النموذج الكاثوليكي. ويضيف أبو خليل عمّا جاء في كتابي عن الوهّابية: «يظهر أنّ الكاتب لم يتعمّق في الموضوع، إذ إنّه يزاوج بين الوهابيّة والمذهب الحنبلي»، وكأنّه لا يدري أنّ النزعة التي نسمّيها «الوهّابية» تستمدّ من الحنبلية معظم آرائها من طريق ابن تيمية الذي كان مرجعاً رئيسياً لمحمّد بن عبد الوهاب (فضلاً عن أنّ محاكم المملكة السعودية تعمل بالمذهب الحنبلي).
هذا وقد كتبت في حديثي عن عزّ الدين القسّام أنّه «كان، من نواحٍ كثيرة، سلفاً لـ«جهاديِّي» أيامنا، فهو رجل كان الموت شهيداً من شهداء الإسلام بالنسبة له أسمى آيات الإيمان» (ص 217 ــ 218). ففي تعليقه على هذا القول البديهيّ، يبلغ أبو خليل الحضيض، إذ يكتب: «هنا، تحاكي لغة الكاتب لغة خبراء الإرهاب في الغرب، إذ إنّه يتحدّث عن القسّام كأنّه واحد من إرهابيّي الزمن الحالي. هل أراد الكاتب أن يقول إنّ القسّام كان عضواً مبكّراً في القاعدة، وإنّ رفاته يجب أن تُنقل إلى غوانتانامو؟» هذا القول من السخافة أنّه لا يحتاج إلى تعليق، وسوف أتوقف عنده.
وقد كنت قد أنهيت سجالي السابق مع أبو خليل بالأسف لأنّه «قد أضاع من وقتي في الردّ عليه». فها إنّ أبو خليل يعيد الكرّة، في زمن زادت الثورات العربية من انهماك الحرصاء عليها، فأقول له بعاميّتنا: حلّ عنّي بقى!
* أستاذ في«معهد الدراسات الشرقية
والأفريقية» في لندن