يتوالى إعلان الأقاليم الإدارية الاقتصادية المستقلة بالترافق مع خروج قوات الاحتلال، فبعد صلاح الدين ها هي ديالى تعلن نفسها إقليماً مستقلاً، ومن المحتمل أن تتبعهما الأنبار، التي كانت أسبق منهما إلى التلويح بإعلان نفسها إقليماً، أما نينوى، فهي على الخط. يتذرع الداعون إلى إعلان الأقاليم بذرائع آنية كالاعتقالات، والتهميش، وانعدام الصلاحيات، وهيمنة الحكومة المركزية، وأمور أخرى أقل شأناً، وهذه الأمور حتى بافتراض حصولها فعلاً غير كافية لكي يقدِم المسؤولون في هذه المحافظات على فعل بهذه الجسامة والخطورة، إذ يمكن عرض تلك الأمور للنقاش مع هذه الحكومة، أو أيّة حكومة أخرى، للتوصل إلى صيغة من صيغ اللامركزية، التي تكفل أعلى درجات المشاركة في القرار وإدارة البلد، وخصوصاً أنّ النظام برلماني، وهو حتى هذه اللحظة ليس نظام حكم الحزب الواحد، ولا حتى نظام حكم الأكثرية، مما يشي بوجود أسباب وغايات أخرى غير مُعلنة، ليس من الصعب معرفة غاياتها، لا علاقة لها بما هو معلن.
عرف العراق نظم إدارية عديدة عبر عصوره المتعاقبة، كما عرف تسميات مختلفة لوحداته الإدارية: الولايات والألوية والمحافظات، كما عرفنا في العهد الملكي تقسيم العراق إلى مناطق إدارية، كالمنطقة الجنوبية، ومنطقة الفرات الأوسط، والمنطقة الوسطى والشمالية، ومنطقة بغداد. وقد بُنيت هيكلية بعض الأحزاب الكبيرة وفق هذا التقسيم، ومنها الحزب الشيوعي العراقي، لكنّنا لم نعرف ما سُمي الأقاليم، إلا بعد إقرار الحكم الذاتي للأكراد، إذ فضل الإخوة مصطلح الإقليم، الذي بدا كأنّه أقل من جمهورية وأكبر من منطقة، علماً بأنّ دعاة حق تقرير المصير من أكراد وعرب كانوا متأثرين إلى حد بعيد بتجارب جمهوريات الاتحاد السوفياتي المستقلة، وأقاليمه ذات الحكم الذاتي، وإذ بدا وجود إقليم حكم ذاتي شبه مستقل للإخوة الأكراد أمراً مقبولاً من لدن الجميع تقريباً، فإنّ تقسيم العراق إلى أقاليم أسوة بالمنطقة الكردية أمر مختلف تماماً، إذ تنعدم المبررات الموضوعية لإقامتها، اللهم إلا إذا عُدّ الاختلاف في المذهب مبرراً كافياً لذلك، علماً أنّ مجرد تسويغ هذا المبرر يعني من جملة ما يعنيه سقوط القومية من الاعتبار، أي سقوط العروبة، وكذلك الوطنية، إذ يصبح كلّ من هذين العاملين ثانوياً بالنسبة إلى العامل المذهبي.
تتسم المنعطفات الحاسمة في حياة الشعوب بكونها كشّافاً لحقيقة الادعاءات، سواء كانت تلك الادعاءات وطنية، أو قومية، وفيها وعبرها يُمتحن الوطني من دعيّ الوطنية، العروبي ممن يجعل العروبة مجرد ستار يغطي فيه طائفيته. الوطنيون الحقيقيون، وكذا العروبيون، لا يمكن أن يفقدوا البوصلة، فطالما كان الوطن، وكانت الأمة أساس ومعيار مواقفهم فإنّهم لا ولن يضلوا، ولن يبتعدوا عن اتخاذ الموقف الذي ينسجم مع ما آمنوا به وتربوا عليه. فليس وطنياً ولا عروبياً من ينطلق من منطلقات طائفية، الوطنية (في إطار الوطن) أشمل من القومية، والقومية (في إطار الأمة) أشمل من الدين والطائفة، والاثنتان يعاضد بعضهما بعضاً، وتتكاملان. هذا التمازج بين ما هو قومي وما هو وطني، هو الذي يحول دون الوقوع في براثن القطرية الضيقة، أو متاهات اللاوطنية، ومهما يكن من أمر، فإنّه في إطار الوطنية والقومية، لا مكان للطائفية.
الذين يطالبون اليوم بالأقاليم كانوا إلى وقت قريب من أشد المناهضين لها، باعتبارها بداية لتقسيم العراق، كما كانوا من أصلب المعارضين (شكلياً) للدستور، ولتلك البنود التي وضعت من أجل بقاء العراق ضعيفاً، ومجزءاً. فإذا بهم اليوم يعتمدون تلك البنود المرفوضة في الدستور، التي كان ينبغي أن تتغيّر. لقد كانت الموافقة على الدستور مشروطة بتعديله خلال فترة زمنية لا تتعدى الأشهر الأربعة بعد انتهاء الاستفتاء عليه. هكذا أوهمنا أولئك الذين انخرطوا في العملية السياسية بوقت مبكر.
اليوم، من دون مقدمات، تعلن القائمة العراقية تأييدها للأقاليم، ويصرح الرجل الذي لم تخلُ وسيلة إعلامية من تصريحاته النارية ضد التقسيم، والإقاليم، بأنّ الدعوة إلى الأقاليم حق دستوري، لا ينبغي الوقوف بوجهه، فيما وسم كل الذين دعوا إلى إقليم البصرة بأنّهم أعداء العراق، وعملاء ينفذون أوامر الخارج.
لقد سقطت آخر أوراق التوت عن المهرجين، والأدعياء الذين ركبوا الموجة، وتاجروا بدماء الناس والآمهم، وجيّروا تضحيات المقاومة لمصالحهم الضيقة، فيما كانوا عملياً ضد كل مسعى حقيقي ينشد إخراج المحتل، بل كانوا داعمين له، سواء عبر نشاطهم هم، أم عبر نشاط حلفائهم الممولين لهم من العرب وغيرهم.
من المؤكد أنّ أبناء صلاح الدين، ونينوى، والأنبار، والرمادي، سيسقطون رهان هؤلاء، تماماً كما أسقط أبناء البصرة رهان أشباههم، يوم صوتوا بشبه إجماع على رفضهم الفخ الذي نصبه لهم طلاب المناصب، وأعلنوها صراحةً أنّهم ضد الأقاليم، ومع العراق الموحّد.
دعاة الأقاليم والتجزئة لا لون لهم ولا مذهب، هم موجودون على مساحة العراق كلّه، مستعدون لامتطاء كل شيء، من أجل الوصول إلى هدفهم في الاستئثار ولو بقطعة أرض.
باستثناء إقليم كردستان، الذي هو أقل من دولة وأكثر من فدرالية، هل لأحد أن يحدد ماهية الإقليم؟ أي قانون حدد طبيعة ومهمّات وصلاحيات هذا التقسيم الإداري؟
يقولون العودة للدستور، لكن الدستور تحدث عن المحافظات غير المنتمية إلى إقليم، فيما لا يوجد في العراق إقليم غير إقليم كردستان، فهل أراد المشرّع الانطلاق تشريعاً وتوصيفاً من كردستان، ومن ثم التأسيس على هذا؟ أم أنّه أراد استثناء محافظات كردستان من تحديد صلاحياتها في الدستور الاتحادي، بمعنى أنّ كل ما هو كردستاني خارج قوانين العراق، وكل ما هو عراقي شبيه بكردستان؟
لقد وضعَنا دستور فريدمان في دوامة ستغرقنا جميعاً، إن لم ننبرِ بشجاعة، وقبل فوات الأوان، لتغييره أو تعديله. واليوم بعد خروج المحتل مدحوراً، ومن أجل عراق قوي وموحّد فإنّه لا خيار أمام العراقيين غير اجتراح هذه الخطوة، واليوم قبل الغد.

* كاتب عراقي