ليس سهلاً في هذه الأيام أن يدعو المرء إلى التقشّف في تناول الجرعات الدعائية السامّة الآتية إلينا من مستعمرات الخليج (قطر والسعودية تحديداً). فالتعامل على نحو جمعي مع الاستلاب تجاه تلك الجرعات ليس كالتعامل معه حين يكون فردياً. لذا تكتسي التجربة الفردية هنا أهمية مضاعفة، وسواء نجح من ينهض بها في تمرير خلاصات التجربة إلى الآخرين أو لم ينجح، فإنّه يكون قد نفذ إلى ضفة لم يكن ممكناً النفاذ إليها قبل أشهر قليلة.
مثلاً، لم يكن وارداً بالنسبة إلى شخص مثلي (وهذه فضيحة حقيقية بالنسبة إلى أناس «يعدّون أنفسهم نقديين» إلى حد ما) أن يسائل أداء البوق القطري الأطلسي («الجزيرة» القطرية طبعاً) إبان الحراك المصري «الراديكالي»، بل على العكس من ذلك، كنت مثلي مثل كثيرين، منحازاً لأدائها «المنحاز» صورياً (تبيّنت لنا صوريته في ما بعد) إلى القضية الفلسطينية، أيام كانت الأخبار القادمة من الأراضي المحتلة تحتل صدر شاشتها. طبعاً، لم تكن تيمة «إسقاط الدكتاتوريات العربية» قد طرحت على أجندة المحطة بعد، أو أنّها كانت مطروحة «بخفر»، وفي أماكن محددة تتقاطع مع استراتيجية التوسّع التي بدأها أمير قطر بعد الانقلاب على أبيه. سيخرج علينا من يقول إنّ ذلك غير صحيح، وانّ «جزيرة» قطر لم تكن تخفي مشروعها الداعي إلى «تغييرات راديكالية» في بنية النظم العربية. لن أناقش هذا الرأي لأنّه ببساطة أصبح الآن خارج السياق. فالتغيير الراديكالي، إذا قدر له أن يحدث، لن يكون بمعية القوى الرجعية العميلة التي ترعاها قطر بالوكالة (دائماً بالوكالة) عن الغرب. وإذا كانت سلالة آل ثاني قد سارعت إلى «احتضان» الحراك العربي (لم يعد اليوم حراكاً بالمعنى الذي نعرفه، بقدر ما بات صراعاً على بقاء الدول الوطنية من عدمه) في بداياته، فلكي تجوّفه وتعزل القوى الراغبة في إيصاله إلى خواتيمه (القطيعة مع نسق الالتحاق الذيلي بالغرب الرأسمالي). والمؤسف في الأمر أنّ الوعي بذلك لم يعد كافياً وحده. لقد جرّنا المنطق الصوري لـ«الجزيرة» وأخواتها إلى التموضع داخل اصطفافات يصعب الفكاك منها في الأمد القريب. ومع ذلك سنجرّب. سنجرّب فضحها إذا لم يكن ممكناً تفكيكها، وسنجعل التناقض بيننا وبينها تناقضاً رئيسياً، ولو على حساب اصطفافنا المنهجي إلى جانب الشعوب ضد دكتاتورياتها أحياناً. فالاصطفاف ضد الدكتاتوريات لا يعود كذلك إذا كان حامله الموضوعي رجعيات الخليج و«نخبها» المأجورة. أصلاً، ما عاد الصراع الآن صراعاً ضد الدكتاتوريات بالمعنى الذي توهمناه عندما بدأ الأمر في تونس. لنقل إنّ المشكلة الجدية هي في هذا التوصيف الساذج، وهي أيضاً في تصوير السلالات العربية كما لو كانت نتاجاً فوقياً معزولاً عن سياقه الموضوعي والتاريخي. سياق يقول إنّ التناقض مع السلالات المافيوزية ليس هو التناقض الوحيد، أو لا يجوز أن يكون كذلك. وافتراض العكس يعني الوقوع مجدداً في فخّ استبطان الحلّ الكولونيالي، وبالتالي تحييد الغرب الذي يرعى هذا الحلّ عن ديناميات المواجهة، وتجنيبه أي خسائر ممكنة. وهذا ما حدث بالفعل في كل بؤر الصراع الدائر في المنطقة، من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن إلى سوريا ...الخ. اعتقد المرء بداية أنّ التحييد ذاك هو جزء من استراتيجية الكتل المنتفضة لتصعيد الصراع ضد السلطة. وهي سلطة عميلة للغرب تعريفاً، لذلك لا بد من أن يأخذ هذا البعد في نقد بنيتها مداه لاحقاً. لكن تبيّن لنا في ما بعد أنّ تقديرنا كان في غير محلّه. فالكتل التي كان يفترض بها أن تصعّد صراعها ضد الغرب، بالتوازي مع تآكل بنية السلطة «العميلة» له، غدت جزءاً عضوياً من صراعه هو ومن معه (اقرأ: من يقبع تحت جزمته) ضد السلطة تلك! كان ممكناً أن يتغاضى المرء عن هذا الخلط ويعتبره ترتيباً مقصوداً للأولويات (كما ظننت شخصياً في البداية) لولا انزلاقه لاحقاً من قعر إلى آخر. من القعر التكتيكي «المفهوم» في صراعات مماثلة إلى القعر الايديولوجي الذي يلغي التناقض مع الغرب الإمبريالي من أجندته، ويجعل من الإمبريالية ومشروعها رافعة لمشروعه ضد النظام. طبعاً هو يعتقد لفرط سذاجته وغباوته أنّه يستعمل الإمبريالية ويوظفها مؤقتاً في سياق صراعه ضد السلطة، لا العكس! طبعا، عندما يرتدي الحراك الذي يستبطن منطق الإمبريالية التجزيئي والتقسيمي طابعاً فردياً وانتقائياً، لا يكون الضرر الواقع من جراء ذلك كبيراً، لكن عندما يأخذ (أي الحراك) بعداً جمعياً ومنهجياً، ويبدو لنا كما لو كان تعبيراً عن شرائح شعبية حقيقية لا يعود الضرر كبيراً فحسب، بل يصبح أيضاً جزءاً من دينامية عكسية يطلق عليها بعض «الراديكاليين» اليوم اسم «الثورة المضادة». مرّة أخرى يقع هؤلاء في أسر المنطق الصّوري الذي اشتغل عليه الإعلام النفطي السام. ولهؤلاء الواهمين نقول مجدداً: حتى يكون هنالك «ثورة مضادة» لا بد من أن تكون «الثورة» قائمة أصلاً، وهي ليست كذلك. نحن لا نعيش «حقبة ثورية»، بل ندّعي أنّنا نفعل ذلك، ونجاري كل الدّجل الذي تبثه أبواق المستعمرات النفطية، ونلفظ كل من يتجرأ على قول «العكس»، أو ما يشابهه. سأدع توصيف الحقبة التي نعيشها اليوم لمناسبة أخرى، وسأحاول في عجالة تفكيك المنطق الصّوري (النفطي طبعاً) الذي سوّق بداية لفكرة «التثوير» (ليستقطب النخب التي حملت هذا المشروع تاريخياً وهزمت جراء تموضعها ولا تزال)، ثم عاد عن قراره وسوق لعكسها في ما بعد. وحتى لا يفهم هذا الكلام على أنّه تبخيس للمعطى الموضوعي الذي أنتج حراكاً «طبقياً» (لم يسمح له بأن ينضج ويصل إلى خواتيمه) وشعبياً جارفاً على الأرض، لا بد من القول إنّ نقد الحراك هو نقد لمآلاته بالدرجة الأولى، ولمن أراد أن يخضعه للمنطق الصّوري الاستعماري. ومن فعل ذلك موجود بحكم ارتباطه الوظيفي بآليات النهب التي صادرت الحراك في مستعمرات الخليج حصراً. لذلك فإنّ التصويب اليوم على الحراك هو تصويب على «مرجعياته» النفطية وأبواقها المتعددة. أبواق ما عاد بإمكانها أن تمارس لعبة التقية بعد اليوم. والحال أنّ مشكلة الإعلام النفطي الدعائي قد بدأت جدياً من هنا، أي عندما لم يعد المشروع الوظيفي الموكل إلى رعاته بحاجة إلى مزيد من الأقنعة. ثمة التباس لا بد من تبديده هنا: عندما أنشأ آل سعود بوقهم الفضائي («العربية») لم يكونوا بحاجة إلى أي قناع، فمشروعهم واضح من البداية: ردع أي محاولة لتفكيك المنظومة الكومبرادورية المافياوية العربية التي يرعونها بالنيابة عن أسيادهم البيض القذرين في الغرب. بخلاف السعودية، كانت قطر بحاجة ماسّة إلى أكثر من قناع. لم يكن ممكناً في البداية أن يتقاطع المشروع الكولونيالي الموكل إلى قطر مع أخيه «التوأم» الموكل إلى السعودية. ذلك أنّ الجغرافيا الجزراوية (وقد تسعودت لاحقاً) المترامية الأطراف والممتدة بمحاذاة الخليج العربي وخليج عدن والبحر الأحمر، كانت تتيح لآل سعود حيّزاً لا بأس به للمناورة، وهو ما لم يكن في متناول الأشقاء الصغار في البحرين وقطر والكويت والإمارات. فهؤلاء لا يمتلكون الجغرافيا السياسية التي تمتلكها السعودية، ولا يحوزون التفويض المطلق من الغرب لإدارة مصالحه المباشرة في الخليج والمنطقة عموماً. لذلك احتاجوا بخلاف السعودية إلى وجود كولونيالي مباشر على أراضيهم (عادت الكويت اليوم «قاعدة أميركية» بعد الانسحاب المذلّ من العراق). فبدون ذاك الوجود لا قيمة لبقائهم إلى جانب الشقيقة الكولونيالية الكبرى. هم موجودون أصلاً لتأمين الاحتياجات التي تعجز هي عن تأمينها.
هكذا قرّر السادة البيض في الغرب، وعلى هذا النحو صاغوا معادلة «أمن الخليج» (اقرأ: أمن الطاقة المنهوبة من الخليج) التي ما فتئوا يكررونها ويطمئنون عملاءهم إلى استتبابها كلما اهتز الوضع في مستعمرة نفطية ما (البحرين وعمان مثلاً). إذاً المعادلة كانت تقول: السعودية هي القاعدة، والباقون هم الاستثناء. اليوم تغيّرت المعادلة «قليلاً». لم تعد السعودية قادرة وحدها على إدارة المصالح الغربية في المنطقة، وما عاد بالإمكان بناء استراتيجيات السيطرة هناك على قاعدة الجغرافيا السياسية فحسب. ولو كان ذلك ممكناً حقاً لما احتاجت الولايات المتحدة وأوروبا إلى خدمات مشيخة صغيرة (قطر طبعاً) لا يتجاوز عدد سكانها «المليوني نسمة» (العمالة الوافدة تمثل ما نسبته ثمانون بالمئة منهم!). والحاجة إلى قطر وسواها من المستعمرات الصغيرة، لم يأت من فراغ. فكما تخلّت الولايات المتحدة والغرب عموماً عن الحروب الكلاسيكية، كذلك فعلت مع «الحلفاء» الذين يديرون مصالحها على نحو كلاسيكي. والسعودية هي أكثر من ينزع إلى هذا الشكل في إدارة الصراعات بالوكالة. لذلك تحديداً «استغنت أميركا عن خدماتها»، أو جعلت من هذه الخدمات ملحقاً لخدمات الوكيل الأساسي (قطر طبعاً). والصراع المكتوم حالياً بين وكيلي الولايات المتحدة الرئيسيين في الخليج والمنطقة، هو صراع على هذا الحيّز تحديداً، أي على من يخدم السيّد الأميركي أكثر، وعلى من يحوز الأفضلية في ذلك. حتى الآن، لا تزال قطر تستحوذ على الموقع ذاك، ولم تفلح كل محاولات السعودية في استرداده من القطريين، منذ الانقلاب الذي نفذه حمد بن خليفة آل ثاني بحق أبيه. وإذا أردنا الاستطراد أكثر لقلنا إنّ «الصراع» بين بوقي «الجزيرة» و «العربية» حالياً هو كناية عن تظهير إعلامي لتغليب الأميركيين وجهة النظر القطرية على شقيقتها السعودية، بعدما كانوا يفعلون العكس سابقاً! يمكن أيضاً المحاججة بنظرية «التوافق القطري السعودي» على تظهير سياسة إعلامية واحدة تجاه «حروبنا الأهلية العربية». (كان عامر محسن موفقاً جداً في نحت هذا المصطلح «كبديل» ممكن عن مصطلحي «الانتفاضات» و «الثورات» الصوريين إلى حد كبير)، لكن هذه النظرية بالتحديد بحاجة إلى مزيد من التدقيق. هي «صحيحة» بمقدار ما تخدم وجهة محددة في التحليل السياسي للوضع الراهن. وجهة تقول إنّ التحالف الرجعي السعودي ــ القطري هو حاجة أميركية وغربية (مؤقتة) ستنتفي بمجرد خروج الأميركيين من العراق وأفغانستان، وعودة الدول التي تمتلك جغرافيا سياسية حقيقية إلى أداء دورها الطبيعي. ستكون السعودية واحدة من تلك الدول حتماً (بعد أن تعود دولة لا مستعمرة كما هي حالها الآن)، لكنّها لن تكون الوحيدة. هنالك أولاً وأساساً العراق وإيران ومصر والجزائر و...سوريا. المناورات الإيرانية المتكررة اليوم تقول ذلك، وكذا موقف العراق الممانع للعقوبات ضد سوريا (البلد لا النظام). أما مصر والجزائر، فعودتهما قد تكون قريبة وقد لا تكون، لكن الصيرورة التاريخية ستأخذ مداها في النهاية. تبقى المستعمرة القطرية. وهذه حالة استثنائية ستزول بزوال الاستثناء الكولونيالي الذي أوجدها. وعندها قد لا نكون بحاجة إلى «جزيرة» كولونيالية أخرى تملي على خصومها الدكتاتوريين خطاباً دعائياً سامّاً يشبهها «في الشكل»، وفي المضمون أيضاً.
* كاتب سوري