«الحراك الشعبي في سوريا حراك سياسي بامتياز لا يرتبط أساسه بالواقع الاقتصادي الاجتماعي والظروف المعيشية للشعب السوري..». «المعارضة السورية معارضة مشرذمة ومنقسمة وهذا ما يجعلها غير قادرة على إسقاط النظام». مقولتان ما انفك سياسيون، غربيون وإقليميون ومحليون، يرددونهما منذ بدء الحراك الشعبي السوري في آذار 2011، ويتلقفهما جزء كبير من فضاء الإعلام المحلي وغير المحلي، كمواد يظهر فيها الإعلاميون «حنكة وسبقاً اعلامياً» فريداً يستسهلون ويتجاهلون عبرها تعقيدات الوضع السوري، بعملية فصل قسري بين الوطني والاقتصادي ــ الاجتماعي والديموقراطي، متناسين (جهلاً أو عمداً) تاريخ سوريا، وجدلية ترابط القضايا الثلاث.لم يكن تكوّن التيارات السياسية الرئيسية في سوريا (الماركسي ،الإسلامي والقومي بتنويعاته) في النصف الأول من القرن العشرين محض صدفة. فقد كانت تلك المرحلة مرحلة تحرر وطني ينجز على أرضية مقاومات الشعوب من جهة، وميزان قوى عالمي من جهة ثانية، نمت في رحمها وبشكل طبيعي معركة الصراع الطبقي الاجتماعي. وكان لكل من تلك التيارات برنامجها الوطني والاقتصادي ــ الاجتماعي والسياسي بالنتيجة. وكانت تلك التيارات/الأحزاب/البنى التنظيمية، ببرامجها وأدائها تطابق مصالح من تمثل اجتماعياً.
مع مرحلة ما بعد الاستقلال وبداية النصف الثاني من القرن العشرين، وصلت طلائع التيار القومي للسلطة نتيجة لتغيّر في موازين القوى مشتق من تغيّر موازين القوى العالمية، كان من نتائجه ضرب نواة التصنيع في المدن الكبرى، مما قطع الطريق على حلم البرجوازية التقليدية في السلطة وأكمل مهمة ربطها مع الغرب (خاصة مع المنطق الذي نفذت به عمليات التأميم)، وهي العملية التي بدأها المستعمر قبل جلائه عن سوريا. هكذا، سقطت صفة الوطنية عن تلك البرجوازية وإلى غير رجعة (ولا يفيد هنا التكرار الببغائي لكثير من منظري اليسار التائب/المراهق في تعويلهم على مشروع برجوازية وطنية مفترضة خاصة في ظروف سوريا الحالية).
كان الشيوعيون أيضاً من عداد الخاسرين عندما رفضوا وفشلوا وأضاعوا فرصة تسلم السلطة وتحقيق برنامجهم. مع بدء التأميم والإصلاح الزراعي (بغض النظر عن نسبه وجديّته) بدأت قاعدتهم الاجتماعية بالنزوح والانفضاض عنهم. أدى ذلك إلى حالة انزياح بين البنى التنظيمية وواقع التمثيل الاجتماعي، الأمر الذي احتاج إلى وقت لكي يصبح ظاهراً، وكذلك انتقال في القواعد الاجتماعية لأحزاب، وحلولها قاعدة جماهيرية لأحزاب أخرى، ونشوء حالة تناقض بين البرامج المعلنة وادعاء التمثيل، وبين النتائج في الواقع الفعلي.

النظام السوري وقائمتا الشرعية

استند النظام السوري تاريخياً في شرعيته إلى قائمتين: القضية الوطنية الجامعة، ونسب نمو اقتصادي معقولة مترافقة مع الحد الأدنى الضروري من المكاسب الاقتصادية الاجتماعية (قطاع عام ــ صحة ــ تعليم...) كانت معدلاتها تتناقص بالتدريج على حساب تخلّي النظام عن قائمته الثالثة: القضية الديموقراطية والحريات السياسية لمن يدعي تمثيل مصالحهم (عمال فلاحون مثقفون ثوريون...)، مما أسس لغياب الرقابة والمحاسبة وارتفاع معدلات الفساد والنهب بسرعة، مؤكداً حقيقة أنّ ما حكم سوريا هو رأسمالية دولة متخلفة تعلن الاشتراكية.
وبعد صدور قانون الاستثمار رقم 10 في 1991، أصبح لرؤوس الأموال تسهيلات وحرية حركة لم يسبق لها مثيل، فحدثت طفرة في الصناعة. هكذا، أصبح الأخوان، وبعد الغزوة الأولى في الثمانينات في وضعية هزيمة عسكرية، ولكن (وللمفارقة) في وضعية انتصار برنامج اقتصادي يبشر بعودة أمجاد البرجوازية التقليدية، لكن هذه المرة مع إطلالة رؤوس أموال الفساد من مراكز الفساد الكبرى داخل النظام ودخولها عالم البزنس ورجال الأعمال، والانتقال إلى مرحلة جديدة من التنافس على الثروة والنفوذ.

ما بعد سقوط بغداد، ما قبل انتصار تموز

بعد احتلال العراق في 2003 وتصاعد الضغط على سوريا، توّج هذا العام بإعلان حكومة يرأسها ناجي عطري، يتبعه المستشار عبد الله الدردري (صديق السعودية وتركيا والمجتمع الدولي بحسب «وول ستريت جورنال») وهو مهندس سياسات الليبرالية الجديدة في سوريا. سياسات ضرب قطاعات الاقتصاد الإنتاجي وخصخصة القطاع العام تحت مسمى استثماره، ورفع الدعم عن مشتقات النفط تحت مسمى إيصاله لمستحقيه. كانت سياسات الإفقار والتهميش، والشراكة الأوروبية مع «الصديق» جاك شيراك الذي سيكون وراء القرار 1559 بعد اغتيال الحريري. سنوات عدّة، تنتهي بانتصار تاريخي للمقاومة في تموز 2006.
أنتجت تلك مرحلة حراكاً سياسياً غاب طويلاً عن سوريا تظهر فيه ثلاث محطات مهمة:
1- انعقاد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث وتبنيه «اقتصاد السوق الاجتماعي»،
2- إعلان دمشق «المعارض» الذي يطلب تغييراً ديموقراطياً دون أي إشارة في بيانه إلى المشروع الأميركي ــ الصهيوني وظروف المحكمة الدولية والضغط على سوريا. ويؤيد الإعلان الليبرالية الاقتصادية (نسخة الدردري) بوصفها ظاهرة ستنتج حتماً ليبرالية سياسية، متناسياً (جهلاً أو عمداً) أنّ الليبرالية الجديدة أنتجت أشد سياسات الإفقار والقمع والحكم العسكري في كل مكان جربت فيه، لكون الظروف الحالية خارج كلّ الشروط التاريخية لثورات أوروبا البرجوازية التي أنتجت ليبرالية سياسية في شرط تاريخي انتهى. تكوّن إعلان دمشق من حزب التجمع الوطني الديموقراطي (حسن عبد العظيم) وعدد من الأحزاب الكردية والأحزاب الطائفية والأطياف اليسارية التائبة، ولجان مجتمع مدني وحقوق إنسان وشخصيات ليبرالية وإسلامية ويسارية منهم ميشيل كيلو وعبد الرزاق عيد، في «فولكلور» تكتمل فيه عناصر «الوحدة الوطنية». وأيدت حركة الأخوان المسلمين (البيانوني) إعلان دمشق بشكل كامل مع أخبار عن انضمامها إليه ثم الخروج والانضمام إلى جبهة الخلاص الوطني مع عبد الحليم خدام.
3- ظهور تيار معارض تحت اسم اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، سوف يدعو لاحقاً إلى إسقاط حكومة عطري وفريقها الاقتصادي وسياساتها، وإسقاط مراكز الفساد بوصفها «بوابات عبور العدوان الخارجي» وإطلاق الحريات السياسية وإعلان المقاومة الشاملة للمشروع الأميركي ــ الصهيوني مروراً بفتح جبهة الجولان بالمقاومة الشعبية والدعوة إلى حوار وطني بدأت خطواته الخجولة فيما عرف مؤتمر البلازا 1 و2. وهو تنظيم مر كثير من كوادره الشابة على سجون تلك السنوات.

البرجوازية التقليدية والبحث عن الحزب

أعطت ظروف الضغط الشديد على سوريا البرجوازية التقليدية فرصة توسيع نفوذها وحصتها من الثروة ثم السلطة، وظهرت الحاجة الملحّة إلى أداة تنفيذ ذلك البرنامج (المعادل السياسي/الحزب) الذي يمثل مصالحها الاجتماعية، ووجدت نفسها أمام ثلاثة خيارات. الأول، تأسيس حزب سياسي جديد، وهو خيار اصطدم بالمستوى المنخفض للحريات أساساً، ومحكوميتها بالبرنامج الزمني لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» المحكوم أساساً بظروف الأزمة الرأسمالية العالمية. الثاني، ليّ عنق حزب البعث وتحويله إلى حزب ليبرالي، وهو خيار بدأ بصيغة اقتصاد السوق الاجتماعي وتراجع دور الدولة. وهي عملية لم تتم بالمستوى الكافي بسبب مقاومة موضوعية شديدة من المتضررين داخل النظام والمجتمع، وتنافس بين مراكز الفساد والبرجوازية التقليدية. الثالث، إحياء الصديق القديم «حزب كبار تجار حلب وحماه». حزب يتبنى في برنامجه الليبرالية الاقتصادية وحماية الملكية الخاصة، والعلاقات «المميّزة» مع الخارج. هكذا دعمت البرجوازية إعلان دمشق ودعمت إلحاق الإخوان المسلمين به، بالإضافة طبعاً إلى باقي عناصر الفولكلور (ليبراليون صف ثان ــ يسار تائب ــ قومي عربي تائب...) ثم ولادة الشقيق الأصغر، إعلان دمشق ــ بيروت.
وأخيراً، إنشاء المجلس «الوطني» السوري، بتركيب أساسي من الاخوان ورموز سابقة من النظام، ورئيسه المعجزة، برهان غليون، بزواج عرفي لم يكن إشهاره ممكناً في الداخل السوري.
يرفع المجلس الوطني شعاراً أوحد، هو «إسقاط النظام»، ويخرج البيانوني علينا عبر القناة الثانية «الإسرائيلية» لإعلان مواقفه. يعلن «الرئيس» أنّه سيعيد النظر بالعلاقات مع إيران وحزب الله، وسيفاوض الكيان الصهيوني بخصوص الجولان المحتل، ويقدم خطته العسكرية لكلينتون. يستمر المجلس في عدم إعلان برنامجه الاقتصادي الاجتماعي والذي هو من باب المصادفة، برنامج العطري ــ الدردري ــ الأخوان المسلمين ــ البرجوازية التقليدية ــ البنك الدولي، نفسه.
قبل يوم واحد من عقد اللقاء التشاوري في دمشق حول الحوار الوطني، يعلن تأسيس ائتلاف معارض جديد باسم «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» يطلقه أصحابه من أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، و«ليس من الفنادق»، كما قال قدري جميل، احد المؤسسين.
تألفت الجبهة المعارضة من اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين (حزب الإرادة الشعبية حالياً) والحزب السوري القومي الاجتماعي ــ الانتفاضة، وعدد كبير من لجان قيادات الحركة الشعبية السلمية (تجد على يوتيوب مؤتمراً صحافياً يعتبر الظهور العلني الأول لها، تجاهلته وسائل الإعلام الصديقة والعدوة)، بالإضافة الى عدد هام من الشخصيات السياسية والعمالية والعلمية.
شاركت «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» في الحراك الشعبي السلمي منذ البداية، وقدمت عدداً من الشهداء والمعتقلين. لخصت برنامجها بدعم الحراك الشعبي السلمي المطالب بالتغيير الوطني الديموقراطي الجذري والشامل تحت شعار «الشعب يريد نظاماً جديداً»، مضمونه إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، ووضع دستور جديد وقانون انتخابات يعتمد النسبية والدائرة الواحدة، وربط التغيير بالقضية الوطنية عبر رفض أي تدخل خارجي ودعم كل أشكال المقاومة، والدعوة إلى وقف كل أشكال المفاوضات مع العدو الصهيوني لاستعادة الجولان المحتل بالمقاومة. الجبهة هي مثال على معارضة أخرى في سوريا. معارضة تختلف عن المعارضات الأخرى.
من جهتها، تبقى هيئة التنسيق الوطني مترددة بشأن موقفها من الخارج ومعارضته (مجلس اسطنبول). فهي اعتقدت أنّ التدخل العسكري حتمي، وبالتالي تحاول حجز موطئ قدم لها في مرحلة ما بعد النظام، فيما يبدو أنّها اليوم في حالة ارتباك شديد، وتنتظر نتائج «المباراة» بين المجلس الوطني و«الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» واتجاه تغيّر موازين القوى!
وجد الحراك الشعبي في سوريا نفسه بلا قيادات، والأحزاب السياسية وجدت نفسها بلا قواعد جماهيرية! يعيد الحراك الشعبي، في عملية يومية معقدة، التطابق بين الاجتماعي الطبقي والموقف الوطني، وبالتالي التمثيل السياسي، الأمر الذي أصبح واضحاً بجلاء من خلال مواقف جميع الأطراف.
أمام تاريخ الحركة السياسية في سوريا، وبرامج المعارضات تاريخاً وحاضراً: هل يوجد ما يوحّد المعارضات السورية؟ على أي ملف ستتوحد: الوطني أم الاقتصادي الاجتماعي أم الديموقراطي؟ وهل كانت تلك الملفات مفصولة عن بعضها يوماً ما؟ وهل تخدم تلك الوحدة/ الوهم الحراك الشعبي؟
أسئلة برسم كل الحريصين على حقوق الشعب السوري وحريته وحراكه السلمي.
* كاتب سوري