كل الحديث منذ بدء الانتفاضة السورية هو عن المؤامرة التي تقوم على التدخل الأميركي، خصوصاً في سوريا. ورغم مرور الوقت وتجاوز الانتفاضة شهرها العاشر، لا يزال هناك من يكرر المعزوفة ذاتها دون ملل. فما هي ممكنات التدخل العسكري في سوريا؟التدخل الدولي هو نتاج مصالح دول، وبالتالي حاجتها للتدخل ومقدرتها على ذلك. ولا شك في أنّ سوريا كانت معرّضة للتدخل خلال السنوات الماضية، وكان العمل الأميركي ينطلق من ضرورة تحقيق تغيير يفضي إلى تشكيل نظام «طوائفي» كما فعلت في العراق. وكان اغتيال رفيق الحريري لحظة كان يراد لها أن تفضي إلى ضغط أميركي دولي شديد على السلطة، يقود إلى تحقيق انقلاب داخلي، ربما جاء مقتل (أو اغتيال) غازي كنعان في سياقه. بعدها هدأت الأمور، ظهر أنّ السيناريو الأميركي قاد إلى تماسك السلطة بدل تفككها، وأنّ السلطة تندفع لبناء تحالف إستراتيجي مع إيران، وتركيا. وتستفيد كثيراً من الحرب الصهيونية على لبنان وصمود حزب الله.
ومن ثم بدا أنّ أميركا تعيد علاقتها مع السلطة السورية، بعد نجاح باراك أوباما كرئيس، وانفتاح نيكولا ساركوزي، والدعم التركي اللا محدود، الذي شكّل سياج حماية مهماً، والموقف الصهيوني الذي بدا أنّه لا يريد تغيير السلطة التي حققت له استقراراً طويلاً على جبهة الجولان. وفي الوقت نفسه، كان يركّز على «هضم» الضفة الغربية، والتفكير في نقل القضية الفلسطينية إلى الأردن. أي أنّه لم يكن في وارد تشتيت جهوده التي كانت تلاقي النجاح في إنهاء القضية الفلسطينية.
بمعنى أنّ الهجوم الذي بدأ بعد احتلال العراق من أجل تغيير الوضع السوري قد توقف وأصبحت المسألة تتعلق بإعادة ترتيب العلاقة، خصوصاً بعدما تفجّرت الأزمة المالية في أيلول 2008، والتي أظهرت ضعف الرأسمالية، ووقوفها على شفير انهيار ليس من الممكن تلافيه. في الوقت نفسه مال «رجال الأعمال الجدد» الذين أمسكوا بقرار السلطة إلى فرض اللبرلة كاملة، كما تريد الرأسمالية، وأسوأ من الشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي، في سياق «مدّ الجسور» مع الإمبريالية، ودفعها إلى الموافقة على بقاء الوضع السوري كما هو، أي بقبول سلطة ليبرالية تتشابك مع الرأسمال الإمبريالي (وإن كان ذلك قد بدأ عبر الرأسمال النفطي).
ولقد جاءت الانتفاضة في ظل الانفتاح «الغربي» على السلطة، وإعادة وصل العلاقة معها. ونتيجة ذلك الانفتاح الليبرالي الوحشي والسريع، الذي أفضى إلى انهيار سريع في الصناعة والزراعة، والى إفقار الطبقات الشعبية. لذلك لم تكن الانتفاضة «مؤامرة»، ولا جاءت بفعل «إمبريالي»، بل نتجت من فعل نهب طويل فرض هذا الوضع.
الآن، ما هي ممكنات التدخل العسكري «الإمبريالي»؟ أو هل الوضع الدولي يمكن أن يقود إلى ذلك؟
من يراقب المشهد يلاحظ بأنّ الولايات المتحدة على شفير الانسحاب من المنطقة بعد خروجها من العراق، رغم استمرار قواعدها في بلدان الخليج العربي. وأصبحت المسألة تتعلق الآن بالانسحاب من أفغانستان. وكان تدخل الناتو مجالاً لتوضيح أنّ أميركا ليست في وارد تدخل حقيقي، إذ لعب الناتو الدور الأساس، وشاركت هي جزئياً. والآن يعلن باراك أوباما إستراتيجية «دفاعية» جديدة، تقوم على خفض ميزانية الدفاع وعديد القوات الأميركية، لكن الأهم هو تجاوز فكرة إمكان أميركا خوض حربين في الوقت ذاته، وهي الإستراتيجية التي قررها دونالد رامسفيلد منذ بداية القرن الجديد، ومن خلال التركيز على وسائل القتال غير التقليدية، أي تلك التي تتعلق باستخدام القوى الجوية فقط. ونتيجة ذلك، نقلت التركيز إلى منطقة آسيا والمحيط الهادي لمواجهة تحديات الصين.
بمعنى أنّ أميركا تجاوزت سياستها التي كانت تركّز على «الشرق الأوسط» لمصلحة آسيا والمحيط الهادي، وأنّ وضع هذا «الشرق الأوسط» بات متروكاً لأوروبا، أو باتت أوروبا هي المعنية به أكثر من خلال حلف الناتو، عدا الخليج الذي لا يزال تحت سيطرة القواعد الأميركية. وأوروبا، كذلك، تعيش أزمة عميقة نتيجة الديون السيادية التي تثقل كاهل الدول، خصوصاً أنّ إمكانية تحوّل أي تدخل في سوريا إلى حرب إقليمية، هي إمكانية كبيرة، نتيجة تخوّفات حزب الله من حصاره، وإيران من الاستفراد بها.
ذلك الوضع هو الذي يجعل كلّ الدول «الغربية» تكرر في تصريحاتها (ولبعض أطراف المعارضة) أنّها ليست في وارد التدخل العسكري، ولا تبدو متحمسة لنقل الملف السوري إلى مجلس الأمن. وإبقاء الحوار مع روسيا للوصول إلى حلول وسط. وأن تُلقى المسألة على الجامعة العربية، التي أصبحت مهمتها هي للتلهي، و«مط» الصراع، ليس نتيجة عدم نقل الملف إلى مجلس الأمن، بل نتيجة إرباك الصراع الداخلي، وتشويش اصطفاف القوى الداخلية. وبالتالي، ما يمكن أن يحصل هنا هو دور من مجلس الأمن مشابه للدور الذي مورس في اليمن، أي دعم المبادرة العربية، وأي نقل للملف إلى مجلس الأمن سوف يفضي إلى ذلك فقط.
إذن، الوضع الدولي لا يشير إلى إمكانية تدخل عسكري في سوريا. وهو الأمر الذي يجعل كلّ حديث عن مؤامرة هو مسخرة، ويجعل كلّ انطلاق مما كان يخطط له منذ تسعينات القرن العشرين، وجرت محاولة تنفيذه بعد احتلال العراق، سوء فهم ناتجاً من تكلس في النظر، لأنّه لم يلمس التغيّرات التي حدثت بعد الأزمة الإمبريالية، التي هي أعمق مما تبدو على السطح، وستفضي إلى انهيارات أكبر في السنوات القادمة.
لكن هناك تركيا. تركيا التي لا تبدو معنية بالتدخل العسكري رغم اهتمامها الكبير بالوضع السوري، لكون جارتها باتت مدخل «سيطرتها» على المنطقة، وممرها التجاري، وكانت ولا تزال تريد أن ينتهي الصراع دون تحقيق تغيير جذري في السياسة الخارجية والاقتصادية السورية. وتركيا قادرة عسكرياً، وهي المدخل لأي دور يمكن أن يفكّر به حلف الناتو. وبالتالي فهي التي تمتلك قرار الناتو أكثر من أي دولة أخرى. لكنّها تريد سوريا لمصالحها هي وليس لمصالح الرأسماليات الأوروبية. الأمر الذي دفعها إلى الارتباك في التعامل مع الوضع السوري، وربما إلى التفكير في دعم تغيير «يطابق» مصالحها. دون أن يتحقق ذلك عبر التدخل العسكري.
روسيا، كما أشرنا في مقال سابق، لا تريد التنازل عن وضعها «الإستراتيجي» في سوريا، ويبدو أنّ الأزمة الأميركية فرضت أن تعترف تلك الأخيرة بالدور الروسي. ولذلك فإنّ التدخل «الإمبريالي» يتحقق من خلال روسيا، التي يبدو أنّها من يمكن أن يصوغ الوضع، ربما بالتفاهم مع إيران وتركيا، لكي تبقى سوريا في «حلف الممانعة»، لكن بعد تحقيق تغيير «ديموقراطي» داخلي، يسقط السلطة ويبقي النظام.
بمعنى أنّ الوضع الدولي ليس معنياً اليوم بأي تدخل عسكري، وكل توهيم بأنّ الحل هو عبر التدخل الدولي هو تشويش على الانتفاضة، وتأخير في انتصارها. لكن أيضاً كل حديث عن مؤامرة هو دفاع صراح عن سلطة مافياوية نهبت وأفقرت المجتمع، وهي التي كانت تعمل على التكيّف مع الإمبريالية، وباتت تخضع الآن لقرار روسي.
ليس هناك مؤامرة، هناك شعب مفقر، تحكّم به الاستبداد لعقود، يريد أن ينهض ويقرر مصيره.
* كاتب عربي