بانتهاء العام 2011، يمكن القول قطعاً إنّهُ لم يمرّ برتابة، حتى على السعودية، رغم كل شيء. و يمكن تجاوز هذا التقرير إلى التساؤل عن أهمّ حِراكٍ اجتماعي أفرزته أجواء العام، وإذا كانت البيانات الإصلاحية وقضية المعتقلين قد أخذت القدر الأكبر من الاهتمام المُمتد، وقد تطرح نفسها بما هي أهمّ أحداث العام. فإنّنا نجادل هنا كون حركة إضراب الموظفين في عدد من المؤسسات الخاصة والحكومية، هي الحِراك الاجتماعي الأهم على الإطلاق للعام الماضي في السعودية.
لم تخلُ الأعوام السابقة من مقدّمات ذات طابع «عُمّالي»، أبرزها تحركات موظفي وزارة التربية والتعليم ضد الوزارة تبعاً لقضايا متنوعة. لكن العام الماضي تميّز بانتشار رقعة المطالب العُمّالية والإضرابات في شركات القطاع الخاص التي لا يُمثل المضربون والمعتصمون بالنسبة إليها مجرد مجموعة من المواطنين الساخطين؛ بل مسألة خسائر مالية تُحتسب لكل ساعة إضراب. أحد مؤشرات أهمية هذا الحدث، أنّ الكلمة السحرية، «الإضراب»، بكلّ ما تحمله من نكهة الحركات العُمّالية والنقابات، عادت إلى التردد مجدداً في السعودية بعدما اختفت منذ 1956، عندما تم «تأديب» الطبقة العُمّالية الناشئة حديثاً، وخلق السوق السعودية ذات الطبيعة الغريبة والخاصة. فهي من ناحية تتنامى فيها أعداد العاملين في القطاعين الخاص والحكومي بصورة هائلة، لكنّها في الوقت نفسه تخلو من أي قياداتٍ أو هيئات تمثل مصالح العمّال في السوق، وفي مقدّمة ذلك بالطبع النقابات.
بفضل العقوبات القاسية ومحاصرة الآيديولوجيات التي تُغذي الحركات العمالية خلال الستينيات؛ بدا أنّ مطالب العمّال والنقابات والإضرابات قد خمدت، وهو أمرٌ مفهوم في ظل تحسّن شروط العمل في «أرامكو»، وتحوّل الدولة إلى أكبر مشغّل عبر وزاراتها الضخمة. عندما تكون الأجور مُجزية والتضخّم محدوداً والجميع سعداء، من الذي سيُفكّر في إضراب؟ لكن، وبالطريقة نفسها، من المفهوم أن تعود المشاكل العمّالية إلى الواجهة، مع توسّع الدولة في الخصخصة خلال العقد الأخير، وتدنّي الأجور حتى في القطاع الحكومي، وتزايد التضخم والبطالة. وهكذا حلّت اللحظة الراهنة التي استردّ فيها العاملون الشعور القديم بالغبن، واستشعروا وطأة الحظر الرسمي للتشكلات العمّالية، الذي يُبقيهم أفراداً وكياناتٍ ذرية مشتتة، عاجزة عن الدفاع عن حقوقها مهما انتُهكت. وليست صدفة عشوائية أن تكون أبرز الإضرابات والاعتصامات قد وقعت في إحدى أكبر الشركات التي تمت خصخصتها، أي «الاتصالات السعودية»، وفي أبرز قطاعين حكوميين مشغلين: الصحة والتعليم. مثلت تحركات كتحرّك المعلمين المحتجين على الأجور وعلى حركة التعيين والنقل، خلال الأعوام الماضية، مقدّماتٍ مناسبة للتحرّكات المختلفة التي وقعت خلال 2011، في عدة مؤسسات: الكهرباء، المياه، مجمع طباعة المصحف الشريف، إضراب عمال نظافة الحرم المكي، إضراب موظفي الاتصالات السعودية، واعتصام موظفي مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض. ويمكن تناول هذين الأخيرين تحديداً لفهم طبيعة ومصير تحركات العاملين في السعودية، في القطاعين الخاص والحكومي.
بدأ إضراب موظفي مركز الاتصالات في شركة «الاتصالات السعودية» عفوياً في 12 آذار/ مارس 2011، عندما تلقى موظفو الشركة خطاباً يشير إلى حجب المكافأة السنوية، وقصرها على الربع الأكثر تميّزاً من العاملين. خرج موظفو مركز الاتصالات في إحدى المدن، رافضين مواصلة العمل، ومعتصمين أمام المركز، وانتشر الخبر عبر الشبكات الاجتماعية. مع حلول المساء، كان الإضراب قد امتدّ إلى مراكز الاتصالات في كل من الرياض، جدة، الدمام، القصيم، أبها، وتواصل إلى اليوم التالي. وبينما التقط الموظفون صوراً وتسجيلات تُظهر تدخّل قوى الأمن للسيطرة على المشهد، كان رئيس الشركة بحسب ما تردد يلتقي مجموعة من الموظفين، ويطلب إنهاء الإضراب، ويعدهم بإعادة صرف المكافأة (وهو ما تمّ لاحقاً إن صدقت الأخبار). وفي اليوم التالي، عاد العمل إلى طبيعته. تمثلت قوّة ذلك التحرك في عفويته التي فوّتت على الشركة ووزارة الداخلية إمكانية محاصرته ووأده قبل أن يحدث، وجماعيته التي فرضت على الشركة التعامل معه كواقع، وحدوثه ضمن إحدى شركات القطاع الخاص التي تحتسب الإضراب خسائر بالدرجة الأولى. على الجانب الآخر، كان اعتصام الممارسين الصحيين في بهو المستشفى التخصصي، بعد إبلاغهم بقرار وزارة الصحة تجميد أجورهم عند مستواها الحاليّ. فبعد إعلان إدارة المستشفى، انتشرت على «تويتر» دعوة لاعتصام الممارسين الصحيين في بهوه لمدة ساعتين فقط. في 19 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي نفذ العاملون الاعتصام، وكان معظم المشاركين من العاملين من غير الأطباء. بعد ساعتين تم إنهاء الاعتصام، وظهر مُقترح اللجوء إلى كتابة عريضة يتولى كبار الأطباء تقديمها إلى وليّ العهد، وهو ما كان. أي أن التحرّك غير التقليدي ــ في بيئة العمل الحكومي السعودية ــ انتهى إلى سلوك الطريق السعودي التقليدي: التوجه نحو القيادات السياسية والوساطات والعرائض. إذا اعتُبرَ ذلك فشلاً في خلق أسلوب جديد لمطالبة العاملين بحقوقهم، فمن الممكن عزوه بالدرجة الأولى إلى كون الجهة الـمُشغلة هي الحكومة، ما يعني أنّ عامل الخسائر المادية لن يلعب في صفّ العاملين، مع إمكانية انزلاق التحرّك إلى عمل ذي طابع احتجاجي سياسي واضح ضد مؤسسات وسياسات حكومية؛ مما يشجّع على سرعة التدخل الأمني (التقط موظفو المستشفى صورة لتواجد سيارات الأمن عند البوابة). وبالدرجة الثانية، يعود إلى افتقار التحرك إلى الجماعية واقتصاره على صغار العاملين، فكبار الأطباء والموظفين لا يجدون دوافع كافية للتحرك في ظل رضاهم عن أجورهم حتى بعد التجميد.
ما الذي يجعل التحركات العمالية حدثاً سعودياً مهماً إلى هذه الدرجة؟ ثمة سببان رئيسيان. السبب الأول يتعلق بإعادة ترتيب مناخ العمل، وإعادة كتابة قوانين اللعبة. الغياب التامّ للنقابات العمالية في السعودية هو ما يحوّل هذه الكتلة الضخمة من العاملين السعوديين وغير السعوديين إلى كتلة عديمة الوزن، عاجزة عن إسماع صوتها والتفاوض وإلزام المشغّلين بحدٍ أدنى من الأجور وساعات العمل، وبتقديم الرعاية الصحية. هذه البيئة التي يأخذ العمل فيها صيغة «العرض والطلب» على إطلاقها دون إلزام المشغّل بحدٍ أدنى من الحقوق، هي ما يُفرز حالاتٍ لا يتصوّرها عقل، كحالة العمّال الآسيويين في أكبر شركة مقاولات سعودية (بن لادن)، الذين تظاهروا في شباط/ فبراير 2011 من أجل رفع أجورهم لتبلغ 500 ريال (133 دولار)! مشهد العاملين المتجمهرين تحت شمس الرياض من أجل 500 ريال، كان أفضل إيجاز للخلل الذي يحوّل العامل إلى عنصر عديم القيمة والوزن، حرفياً لا مجازياً. يُمكن تفهّم الانطباع الرسمي التاريخي الذي لا يرى في النقابات والحركات العمّالية سوى «تنظيمٍ شيوعي»، لكن الأمور تغيّرت كثيراً منذ 1956، بما في ذلك دور النقابات التي أصبحت ضرورية وموجودة حتى داخل الاقتصاد الرأسمالي الأكثر ليبرالية، لأنّ النقابات العمّالية، وليس «أنظمة العمل والعمال»، وليس «الحكومة» هي الجهة القادرة على منع المشغلين من تحديد أجر العامل بـ500 ريال في الشهر، أو حرمانه فجأة من مكافأته السنوية في شركة خرافية الأرباح. لكن الرأسمالية السعودية ذات خصوصية، أو هي «رأسمالية محاسيب» كما تصفها تيري لين كارل، ولا تكتفي فيها الحكومة بالبقاء على الحياد أمام العرض والطلب في سوق العمل، لكنها تنحاز إلى المحاسيب، أصحاب رؤوس الأموال، وتتدخل بأشكال مختلفة ــ قانونية وأمنية ــ لتحول دون تحوّل العاملين إلى كتلة وازنة مؤثرة. ووعي العاملين بكلّ هذه الأبعاد، بالإضافة إلى الشروط الضرورية للتحرّك الآمن والمؤثر، كفيل بتصحيح الخلل بما في ذلك فرض درجة أعلى من العدالة الاجتماعية.
السبب الآخر، أنّه من منظور أوسع، يمكن النظر إلى تحرّكاتٍ كهذه بصفتها أحد أجوبة الإصلاح في السعودية. فقد يكمن جواب ما هو سياسيّ تحديداً في ما هو غير سياسيّ، وقد تكون الطريقة الأكثر عملية لتجاوز الانسداد الإصلاحي هي عبر التوجه نحو المفاصل الاجتماعية الهامّة التي تغيب عن الذهن الإصلاحي في ظلّ تركيزه على الديموقراطية وحقوق الإنسان. يشطح بعض الإصلاحيين في الدعوة إلى التظاهر دون تقديم أجوبة عملية عن الاستعداد الاجتماعي والنتائج المُتوقعة، ويؤيّد بعضهم الآخر تحركات كاعتصام أهالي المعتقلين تأييداً نظرياً فقط دون مشاركة شخصية. فثمة شعور عام باللاجدوى من المواجهة المباشرة مع السياسي والأمني، مع عجز عن ابتكار تحرّكاتٍ من نمط مختلف. وهذا التناقض يضع الإصلاح في حالة انتحارية بطيئة. ولهذا تكمن أهمّية التركيز على مفاصل اجتماعية كحقوق العمّال والحراك العمّالي، أو تكوين التشكلات الطلابية في الجامعات، في كونه قد يقدّم إجابة مقترحة للخروج من تلك الحالة. يمثل العمال وطلاب الجامعات كياناتٍ عملاقة نائمة في السعودية، رغم كونها مفاتيح كبرى للتغيير عالمياً. الدعم والتغذية الإصلاحية لتكوّن تحركات عمالية صرفة وطلابية غير مُسيّسة، سيُغذي مَدَنيّة المجتمع مباشرة وسيُساهم في بدء تخلّق العمود الفقري للجسم المدنيّ للمجتمع، ومدنية المجتمع كفيلة بتجاوز انسداد الحالة النضالية المحدودة، والتوقف عن انتظار الإصلاح السياسي القادم من أعلى.
* كاتبة سعودية (ينشر بالتزامن مع موقع المقال السعودي، www.almqaal.com)