لا شك في أنّ الحروب الباردة الدائرة بين أقطاب السياسات الاقتصادية وأتباعهم في وجه العمال ووزيرهم في لبنان، فرضت نفسها على المشهد الداخلي العام، رغم تلاحق الأحداث وتواترها، مغلبة نفسها بحكم أهميتها الحياتية على كل الملفات، وفارضة ملفها ورقةً انتخابية يتنافس عليها الأقطاب، حتى في الصف الواحد، قبل انتخابات ٢٠١٣. فمن مشروع إلى آخر، يجلس العامل كمن يراقب أسهم البورصة وتداولها: سيقرّ المشروع، لم يقرّ المشروع، قدم غيره وسيقر، لم يقرّ... وهكذا دواليك.يستمر ذلك السجال إلى أن يطل ذاك الرجل طارحاً، في كل مرة توضع العصي في دواليب خططه، حلولاً جديدة ما يلبث أن يعرقلها حيتان المال، تحت ذريعة عدم قدرة أرباب العمل على تحمّل التكاليف، وتهديدهم بصرف موظفيهم. وتتلطى خلف هؤلاء رموز سياسية اقتصادية أيضاً، ترفض إعطاء المواطن ما يريد، كي يبقى سلعة للشراء أيام الحصاد الانتخابي، أو أداة للتصفيق في مهرجانات لا ناقة له فيها ولا جمل، فقط لأنّه تقاضى ١٠٠ دولار أو بون بنزين عجز عن تسديد ثمنه، بسبب أجره المتدني. هكذا، يصبح محور النقاش والطرح مصلحة ربّ العمل، كما اعتادت الحكومات الفعل سابقاً، بدل أن يكون العامل في صلب المشاريع. وهذا ما حاول الوزير شربل نحّاس فعله، علماً بأنّه لا يواجه فقط الهيئات الاقتصادية، بل عقلية متوارثة منذ أيام الحريرية الاقتصادية، قائمة على تحديد الطبقة الوسطى والعمل على انقراضها أو إبقائها قيد التهديد بالانقراض، بعد تحويل الاقتصاد إلى ريعي قائم على المساعدات الخارجية وأموال المغتربين. اقتصاد عماده الداخلي السياحة مع حرب مستترة على الزراعة تتوالى فصولاً في روزنامات زراعية مجحفة بحق المزارع. ذلك، فضلاً عن مشاكل الصناعة، واسترخاص اليد العاملة غير الملحوظة أصلاً في أي قرار، والمعرضة دائماً للاستبدال بأيدٍ عاملة أجنبية، لا تستفيد من الضمان الاجتماعي أو التأمينات، وتعد أوفر على صاحب العمل. ذلك كلّه عكس ما أراده نحّاس، من تفضيل لهذه الطبقة وجعلها الأولوية في أي مشروع يعنيها، وصولاً إلى إشعارها بأنّها قيد الحياة، وقادرة على العطاء، تعتصم لأجل مطالبها وتفرضها، لا تستجديها كما اعتاد رئيس الاتحاد العمالي العام الفعل في ما مضى. عجيبة أخرى تضاف إلى سجلنا؛ إذ فقط في لبنان، يدافع الوزير عن حقوق العامل، بينما رئيس الاتحاد العمالي في غيبوبة ويفاوض مع الهيئات الاقتصادية، يقبض، يبيع، يشتري ويتنازل برعاية معدي طبخة تصحيح الأجور نبيه برّي ونجيب ميقاتي. هكذا، يواجه رئيس الحكومة وزيره، ويعرقل مشاريعه تحت ذريعة احترام الدستور، متجاهلاً أنّه يتدخل في صلاحيات وزير، وذلك مخالف للحجة التي يتمسك هو بها. من جهته، يمسك رئيس مجلس النواب برقبة الاتحاد أداةً لتحقيق مصالحه؛ فهو من نصّب غصن على رأسه، وهو من يرأس حركة تملك الأغلبية المنضوية في الاتحاد. فمسؤول العمل البلدي في حركة أمل، بسام طليس، على رأس نقابة قادرة على شلّ البلد إذا ما أضربت، ما جعل من الاتحاد أداة ضغط سياسي وورقة بيد الرئيس بري، يسحبها كلما دعت الحاجة، كان آخرها تلويح غصن بالإضراب، فجأةً، عند طرح مشروع التأمين الصحي الشامل. فكيف يعطى المواطن تأميناً صحياً شاملاً يجعله بغنى عن الوقوف على أبواب المسؤولين والساسة؟ كيف يسحب مشروع التأمين الصحي (وهو ورقة انتخابية أخرى) من يد المشرف على وزارة الصحة؟ وهل من مصلحة الطبقة الحاكمة أن يكتفي المواطن أو يحصل على جزء من حقوقه؟
يعطل السياسيون مشاريع نحّاس كلّ لغاية في نفسه. فميقاتي يحرص على إثبات نفسه سنيّاً في مواجهة حزب الله، ويسعى إلى الحضور على الساحة السنية كالرجل الذي أعطى السنّة ما لم يستطع الحريري منحهم إياه. فهو انتزع من الشيعة مقعداً وزارياً، في سابقة هي الأولى من نوعها. كذلك أفرج عن الإسلاميين، فيما لم يجرؤ الحريري على ذكر ذلك أصلاً. كذلك موّل المحكمة وأجّل أو ألغى ملف شهود الزور، وهو الملف الذي أسقط الحريري لأجله، فضلاً عن إبقاء وسام الحسن وأشرف ريفي في منصبيهما، رغم إصرار ٨ آذار على إقالتهما. وأخيراً، عرقل مشروع الأجور المقدم من نحاس، الذي يمثل ميشال عون في الحكومة، ما يمنحه نقاطاً إضافية كالرجل السني القوي، القادر على فعل ما يريد دونما قدرة على إيقافه. أما برّي، فنكاية بالجنرال، وإثباتاً منه أنّه لم ينسَ صفعة جزّين الانتخابية، ولا المساومات على الحقائب الوزارية، وصولاً إلى التعيينات وغيرها من المغانم، وليس آخرها ملف النفط، يسعى إلى عرقلة مشروع نحاس.
أما الضحية الوحيدة في هذه المعركة، فهي عامل يسعى إلى إطعام أطفاله، بعدما تضاعفت أسعار المواد ثلاث مرّات. العامل في الدول الغربية يحصل على ما يطالب به نحاس والعمال اليوم، كتحصيل حاصل. أما في لبنان، فعندما يفتح العامل فمه مطالباً بحقه، يفيضون عليه بنظريات عن المؤامرة، تارة تحت اسم المحكمة الدولية، وطوراً تحت اسم السلاح. العامل لا يهمه سلاح أو محكمة، بقدر اهتمامه بتوفير عيش كريم له ولعائلته، ويفضل تمويله هو بدل تمويل المحكمة.
اتفق الأضداد علناً، بعدما اتفقوا في السر على تدمير طموح العامل والطبقة المتوسطة من خلفه، ولم يعد أحد يشك في أنّ ٨ و١٤ آذار، وجهان لفكر اقتصادي واحد.
* كاتب لبناني