إن سنحت لك الفرصة لدخول أحد المراقد الدينية في العراق، فقد تصادف شيخاً ثمانينياً بظهر منحن يبكي بحرارة. وسيكون الاحتمال أكبر أن ترى امرأةً عجوزاً تردد إلى جانب بكائها شيئاً يشبه الأغنية الحزينة المناجية والمحَمَّلة ربما باللوم والرجاء. لن يكون صعباً على من يعرف المجتمع العراقي جيداً أن يدرك الخلفية الاجتماعية التي ينحدر منها هؤلاء النائحون بأصوات حزينة وشجية. من أزيائهم ولهجاتهم وأشياء أخرى يمكنك أن تعرف أنّ غالبيتهم ينحدرون من أصول ريفية جنوبية، يمكن تفريقهم ببساطة عن ذوي الأصول المدينية في المدن المقدسة، ككربلاء والنجف، الذين غالباً ما يتخذون موقفاً طبقياً متعالياً تجاه ذوي الأصول الريفية، كما هي الحال في كل مكان آخر.لا يبكي هؤلاء الجنوبيون عند ممارستهم طقوسهم الدينية فقط، بل أيضاً عندما يغنون. أطوار الغناء الريفي الجنوبي في العراق معروفة بنزعتها الحزينة، بهذا الميل نحو الشكوى والإحساس الطاغي بالمرارة. هنالك ما يشعرك بالفرق بين طريقة كثيرين منهم في بكاء الحسين، وطريقة أهل المدن، هو بكاء يتجاوز في حدته وشجنه القدر العالي من الافتعال الذي تتسم به الطقوس الدينية، وكأنّهم يبكون مأساتهم ويسربون إحساساً عميقاً ومتراكماً بالحزن في ثنايا ممارستهم الطقس الديني. علي الوردي وكثيرون ممن لفتتهم ظاهرة النواح الجنوبي، وجدوها مرتبطة بتاريخ طويل من المآسي مرت بها أرض العراق. الفيضانات ومواسم الجفاف والحروب والطواعين والاقتتالات القبلية والطائفية، جعلت الناس يُعَبّرون بطرق متعددة عن فواجعهم ومخاوفهم واستسلامهم للقدر المشوب بالرفض واللوم.
الريف العراقي اليوم، صار إلى حد كبير قصة تنتمي إلى الماضي. خلال قرن واحد، تراجعت نسبة المشتغلين بالزراعة وقاطني الريف من 68% من سكان بلاد النهرين، إلى أقل من 26% . شهد القرن العشرون هجرات متواصلة وكبيرة من الريف إلى المدينة، مثّلت أهم عناصر الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي يعانيها المجتمع العراقي الحديث. لم ينقطع النواح الريفي لأنّ غياب الإحساس بالأمان وفقدان الأرض عمّقا من مشاعر الاغتراب والعجز لدى من كان سابقاً ريفياً، فأصبح اليوم من أصول ريفية، دون أن يغدو مدينياً بعد. كانت مأساة الفلاح العراقي التي نتجت عن ربط العراق بالاقتصاد الرأسمالي الكولونيالي، وعن تحوّل الشيوخ القبليين إلى ملّاك للأراضي وإقطاعيين، قد خلقت أول هجرة كثيفة من ريف الجنوب إلى بغداد، وأدت إلى ظهور ما عرف ببيوت الحصير في ضواحي العاصمة. بيوت أصبحت مشكلة مزمنة شجعت عبد الكريم قاسم على بناء مدينتي الثورة (الصدر اليوم) والشعلة، لتقديم مساكن اقتصادية إليهم، لكن الهجرة لم تنقطع بالرغم من الإصلاح الزراعي، فمجيء العصر النفطي أسهم كثيراً في تحوّل الأنظار بعيداً عن الزراعة، وفي توسع المدن وتحسن خدماتها العامة، وفي توافر وظائف أكبر فيها، مما أغرى ريفيين كثيرين بتبني خيار الهجرة. ثم جاء التراجع الكبير في موارد العراق المائية، ليضيف سبباً جديداً آخر إلى عملية الاحتضار التدريجي للريف العراقي. يمكن القول إنّ شيئاً مشابهاً شهدته معظم بلدان المنطقة، التي كانت تعتمد على الزراعة كنمطِ إنتاج رئيسي.
لم يعد العراق منقسماً ديموغرافياً إلى أهل مدن وأهل أرياف، بل يمكن القول إنّه يتكوّن من أقلية بجذور مدينية عريقة، وأقلية ريفية، وبينهما أغلبية تمثل تكويناً اجتماعياً بينياً، أسمّيه المجتمع ما بعد الريفي. هذا الانقسام الاجتماعي أحدث أيضاً شروخاً ثقافية عميقة تعبّر عنها الممارسات الطبقية المعتادة، كرفض الأقلية المدينية الاختلاط بذوي الأصول الريفية، أو التزاوج معهم، لكنّها أيضاً تجلّت برؤية أيديولوجية أكثر تعقيداً، نراها في كتابات العديد من المثقفين المدينيين (أو الذين يحسبون أنفسهم كذلك) وهي في غالبها كتابات تتباكى على بغداد والمدن الكبرى، والانحطاط الذي أصابها بفعل ترييف المدن. وقد كانت تجربة حكم صدام حسين ذات الطابع شبه القبلي، قد عبرت كثيراً عن أيديولوجيا مضادة تتسم بالاحتقار للنزعة المدينية، وتميل إلى التغني بالفحولة بمعانيها القبلية. حتى إنّ صدام كان يتفاخر بأنّ مدينة بغداد لم تعد تتطابق مع فعل البغددة، الدارج في اللهجة المصرية تعبيراً عن السلوك الناعم.
كان حلم الكثير من المدينيين هو استبدال حكم صدام الوحشي بنظام جديد تؤدي فيه الأرستقراطيات المدينية الدور الرئيسي، فتعيد بناء صورة العراق الملكي، حيث السياسة هي شأن الباشاوات وأبناء الذوات، كما توحي المروية السائدة عن الملكية في العراق. كانوا يمنّون النفس بعراق ليبرالي على الطريقة التي تخيلها المديني العريق كامل الجادرجي، لكن أحلامهم تلك كانت واهنة، بقدر وهن المجتمع المديني أو ما بقي منه. فتلك الطبقات الواسعة التي كانت على هامش المجتمع المديني وجدت الفرصة سانحة بعد سقوط الدكتاتورية لتخرج إلى العلن بشكل حركات سياسية جماهيرية، أبعد ما تكون عن الليبرالية التي حلموا بها. وفي وقت لم يحصل فيه وريث الجادرجي على مقعد نيابي واحد، كان التيار الصدري ينظم المسيرات المليونية، ويوسع سيطرته في بغداد، متمدداً نحو أحياء جديدة.
سيحدث أمر مشابه في معظم الدول العربية التي تغادر السلطوية. يخطئ من يتصور أنّ الورثة سيكونون مدينيين عريقين ذوي نزعة ليبرالية. في الغالب سيكون على هذه الطبقة أن تنكمش أكثر، مقابل تمدد المجتمع ما بعد الريفي وتعبيراته السياسية التي تتخذ حالياً، على نحو طاغ، شكل الحركات الإسلامية. لقد حصل تحالف بين الطبقات الوسطى الدنيا التي همشتها المراحل السابقة، وبين الغالبيات ما بعد الريفية: الأولى ابتدعت اليوتوبيا القادرة على كسب تلك الغالبيات، والثانية وفرت لتلك اليوتوبيا عمقاً اجتماعياً كبيراً. وبمواجهة ذلك الزحف الكبير، لا يبقى من مكان للطبقات المدينية العريقة سوى أن تتمثل في أحزاب نخبوية، أو تتوسل دعماً خارجياً لتضخيم وزنها السياسي.
يخطئ أولئك الذين يرددون أنّ المجتمع العراقي هو مجتمع قبلي اليوم. فرغم أنّ القبلية موجودة وكامنة في طبقات الشخصية العراقية، إلا أنّ هذا المجتمع هو في تركيبته الغالبة مجتمع ما بعد قبلي، وما بعد ريفي. يعني ذلك أنّ ذلك النوع من الفضاءات الاجتماعية لم يعد قابلاً لأن يتمثل قبلياً، ولم يعد للشيخ القبلي تلك السطوة التي تمتع بها قبل قرن من الزمان، على الرغم من محاولة صدام حسين المتأخرة إنعاش القبيلة. ولذلك فإنّ الفضاء ما بعد الريفي تملأه أيديولوجيات تدمج بعض عناصر القبيلة (كالروح الجماعية) وبعض العناصر الحديثة (كالتنظيم الحزبي). التزاوج بين الجذور الريفية وبين التمدين العشوائي تجلى في تلك التيارات الإسلامية الواسعة الشعبية، وما تحمله من يوتوبيا عن المجتمع الأصلح.
ما يشهده العراق، وما ستشهده دول أخرى، هو مرحلة استكمال تسيّد المجتمع ما بعد الريفي، وهيمنة قيمه، في مقابل دفع المجتمع المديني الذي كان سابقاً في المركز، إلى هامش السياسة والثقافة. وفي المستقبل، ربما سيبدأ الإنسان ما بعد الريفي بتلمس خيارات أخرى غير النواح عند قبور الأولياء، وربما سيغدو النواح خيار أولئك المدينيين، وهم يرون حلمهم يتداعى أمام الزحف الهادر للديموغرافيا، التي وضعتهم هذه المرة على الجانب الخاطئ من التاريخ...

* باحث في العلوم السياسية