قد تكون أحداث سوريا أكثر إشكاليّة من بقية الأحداث في العالم العربي، فهي تتجاوز القراءة العامة، أو السطحية، وتطرح جدلاً يتناول ماهيات التحركات في العالم العربي، إن كانت ثوراتٍ، أو حراكاً اعتراضياً، أو تحريكاً، أو خليطاً من كل من تلك الظواهر. فالانقسام الحاد بين القوى والتيارات والنخب على الواقع السوري ليس من قبيل الصدفة، إنما قد يكون حول فهم الواقع وجوهر الصراع. فالأزمة السورية هي من جهة أعمق من رؤية الإصلاح، ومن جهة ثانية أبعد من نظرية المؤامرة.للوهلة الأولى يظهر الصراع في سوريا، وفجأة يصبح على سوريا. وبقدر ما تبدو واجهة الأحداث تعبيراً عن سخط الشارع رداً على سلوك النظام، تتجلى قوة الهجمة والتدخل الخارجي. بذلك يصبح الجدل في ماهية الثورة مشروعاً، والسؤال عن الأحداث، هل تفجّرت أو فُجّرت، سؤال مشروع أيضاً.
أيّهما واجهة الأحداث: التفجّر من الداخل أم التفجير من الخارج؟ الإجابة غير ممكنة الآن، لكن من المؤكد أنّ سوريا اليوم هي نقطة اصطدام دولي، انطلاقاً من تطوراتها الذاتية، والعودة القوية للحرب الباردة، وإعادة اقتسام النفوذ في العالم. إنّها لحظة مفصلية بين مشروعين، سينتصر أحدهما، وبعد معركة سوريا سيتشكل واقع مختلف، ونُظُم ومنظومات أخرى.
قد يكون الصراع بدأ محلياً، وشعبياً خالصاً، بنيات صادقة. لكن لعبة الأمم أكبر من أحياء ومناطق المطالبين بالإصلاح. ربما جاء توقيت الحراك الشعبي مناسباً لعودة روسيا إلى المحافل الدولية، أو وجد حلف «البريكس» فرصة لهزيمة التحالف الأميركي ـــــ الغربي. وربما اصطدمت الثورة السورية بالقدر، فعاصمة الأمويين ليست بنغازي، وهي نقطة اشتباك وممرر إجباري للتسويات والمؤامرات، وتلك إشكالية يصعب تجاهلها.
على مدى عقود، أخذت سوريا تتشكل كقوّة محورية في المنطقة، ولعبت دوراً مركزياً فيها، وشكلت نقطة توازن عربية ـــــ عربية. لم تعد سوريا تلك الدولة الملحقة، أو المتأثرة، كما في الحقبة الناصرية، بل تعدّت المسألة الموقع وانتقلت إلى الدور، كحاضن لقوى المقاومة الفلسطينية، العراقية، اللبنانية، وحركات التحرر، وخاصة بعد خروج مصر من الصف العربي في 1978.
وبالرغم من انتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط المنظومة الاشتراكية، تمكنت سوريا من الصمود وتجاوز أزماتها واللعب في الساحة الدولية والإقليمية، وتفرّدت في رمزيتها وحملت عناوين قلّ نظيرها. وجاءت الثورات العربية في غمرة صعود سوريا، ربما كحراك طبيعي نظراً إلى سلوك الأنظمة العربية التي قمعت شعوبها ونهبت ثرواتها وعهّرت قضاياها، وحطّمت أحلامها وفشلت في تطوير مجتمعاتها وبلدانها، وعاثت فساداً في مؤسساتها. لكن بعد سبات وركون واستسلام، استفاقت الأمة على حريق البوعزيزي. هبّت تونس وتبعتها مصر، ثم بدأ التلقيح، وانتقلت العدوى واشتعلت المنطقة.
كان السوري يعتقد أنّه بمنأى عن الثورة وبعيد عنها، طالما لا يزال يرفع شعارات الممانعة والمقاومة، من دون أن يدرك أنّ تلك الشعارات وحدها لا تكفي. لقد أشعل أطفال درعا الثورة السورية وكسروا حاجز الخوف، ودخلت سوريا مرحلة غير مسبوقة من المواجهات، وعلى سوريا دين كبير.
وما بين الحروب الإعلامية وفلسفات المحللين السياسيين وتخيّلات شبّيحة الإعلام وفرضيات خياليّة وتهيّؤات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، استمرت الأزمة وازدادت تعقيداً.
الموالون للنظام يتحدثون عن مؤامرة خارجية تستهدف سوريا والنيل منها نتيجة موقفها القومي والمساند لحركات التحرر والمقاومة. والمعارضة الخارجية (المجلس الوطني) وجدت مهنة بعدما كانت عاطلة من العمل وتتسكع في المقاهي وتعتاش على فتات موائد السياسيين، فوجدت في الحركة فرصة، وبالتالي لا تريد لهذه الأزمة أن تنتهي. من الواضح أنّ كلا الطرفين بعيد عن حقيقة ما يجري. لا الموالون أدركوا طبيعة الأزمة، ولا المجلس الوطني على صلة بالحراك الشعبي. والتنسيقيات الميدانية للثورة تقود الشارع بدون تنسيق مع المجلس الوطني ولا تعترف به. وبدأت حراكها حالمة بالتغيير والإصلاح. وعلى هذا دخلت المخاض بدون برنامج أو رؤية موحدة.
إنّ استعجال السلطات الخيار الأمني هيّأ بيئة متمردة ـــــ مسلحة. فالمجموعات المسلحة (المقاومة الشعبية) هي نتاج السلوك الأمني والبطش العشوائي، فتجمع قبضايات المناطق والأحياء لحماية مناطقهم. قد تكون السلطة استدرجت هؤلاء لهذه اللعبة، لكن الخلاصة أنّ الجميع تورط بها، وكلما توسعت تورطت بها أطراف عدّة وأخذت أشكالاً أخرى.
وما بين غباء السلطة وارتباط المجلس الوطني بالخارج، دخلت المعارضة الحقيقية نفقاً مجهولاً، وأضحت أسيرة واقع مرير، فالتراجع غير ممكن مع استمرار تعنّت السلطة، واستمرار النزف الدموي. لكن إطالة عمر الأزمة سيضعف المجلس الوطني ويعزز حضور التنسيقيات الميدانية (بالداخل) ويعطيها شرعية المعارضة.
لقد تحوّلت معارضة الخارج إلى نوع من التوابل في حركة المجتمع الدولي ليس إلا، فاعتقد المجلس الوطني أنّ السرعة في مواكبة الضغط الخارجي مهمة بالنسبة إليه، ولكن جاء ذلك بشكل سريع غير محسوب، ما وضعه في دائرة التبعية بالكامل، وأسقط عنه شرعية تمثيل حراك الداخل، الذي لغاية الآن لم يستطع بلورة موقفه نظراً الى صعوبة الوضع الميداني واستحالة التواصل بين المناطق والمدن. ومن الأخطاء المميتة التي وقع فيها المجلس الوطني، الخروج من ثوابت سوريا التاريخية، والذهاب بعيداً بالتبعية للغرب، وهذا ينفي عنه ثوريته. فأصبح يشكل حالة انقلابية تآمرية، فالعناوين القومية والعروبية هي التي حوّلت سوريا إلى لاعب أساسي في المنطقة.
أما التنسيقيات الميدانية فإنّها تنطلق من تخوين النظام وترفض وطنيته، حتى اتهامات التنسيقيات لحزب الله فهي طارئة وليست أصيلة، وأعتقد أنّ المواجهات ستنتج قيادة أكثر وعياً ونضجاً وطنياً. من هنا أهمية تفهّم السلطة واقع الأمر، وترك لغة التخوين والاتهامات الفارغة والبحث عن سبل للحوار والإصلاح والمصالحة. وذلك، دون إغفال تدخل الغرب وأدواته على خط الأزمة السورية. من هنا أخذت الأحداث بعداً دولياً، وباتت تهدد المنطقة بحرب شاملة تأكل الأخضر واليابس.
إنّ التداخل في الأزمة السورية بين أطماع الغرب وإسقاط سوريا كبلد مقاوم، وبين مطالب الشعب السوري بالحرية والإصلاح، يشكل تقاطعاً حيناً، وانفصاماً حيناً آخر. كلتا المقاربتين صحيحة. ولكن تكمن المشكلة في التوقيت، والاستهداف، والبديل.
إلى أين تتجه سوريا في المدى المنظور؟ لا تزال الأمور غامضة، والتطورات متلاحقة، وهناك خشية من مزيد من التعقيدات التي تطيل أمد الأزمة، وتضعها أمام مصير مجهول.

* كاتب لبناني