في نقاش دار بيني وبين زميلة عزيزة حول الصراع في سوريا (وعليها)، انتبهت إلى أمر ما عاد بإمكاني السيطرة عليه مذ ذاك: الحساسية المفرطة التي بتّ أحملها تجاه دول الخليج (اقرأ: مستعمرات أميركا في الخليج)، وتدخلاتها الوقحة في شأننا الداخلي. لحسن الحظ أنّ زميلتنا لم تشاطرني الرأي، ولو فعلت ذلك لأخذ النقاش طابعاً عصبوياً عقيماً. كان رأيها أنّ جذر الصراع هو داخلي أساساً، وأنّ التدخل الخليجي أمر نافل، ولن يترتب عليه الكثير. الآن أستذكر هذا الحديث الموجز، وقد هيمنت الأجندة النفطية العميلة على حيّز لا بأس به من صراعنا ضد السلالات الجمهورية (ما عاد الصراع يوتوبياً كما كان). لا شك أنّنا في مأزق حقيقي. فعندما يؤول صراعك ضد مافيات بعينها إلى نتائج تصب في مصلحة مافيات أخرى، «لا تعود التضحيات التي بذلت في سبيل ذلك مهمة كثيراً». تلك حقيقة قاسية مع الأسف، لكنّها صلبة وتستند إلى وقائع لا يمكن دحضها. قد يجد كثيرون في سوريا مثلاً أنّ إهداء «انتصارهم» وتضحياتهم إلى أمير قطر هو جزء من «العرفان بالجميل» له، ولبوقه الإعلامي. لا يدرك هؤلاء أنّ من يحكم قطر إنما يفعل ذلك بآليات «مماثلة» لحكم السلالة التي يريدون إسقاطها هنا في سوريا. الأرجح أنّ ذلك لا يعنيهم أصلاً. فما يعنيهم حقاً هو إسقاط بشار الأسد فحسب. وكل من يساعدهم في ذلك سيحمل على الأكتاف حين يسقط النظام، وسترفع صوره في الساحات والمدن «المحرّرة». لقد جرّب اللبنانيون في الجنوب «هذا الأمر»، عندما أسهمت قطر في إعمار بعض المدن هناك غداة العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. قدّر لي أن أرى بعض اللافتات التي تشكر قطر على جهودها في الإعمار أثناء زياراتي المتكررة لبيروت. كنت أخجل من نفسي عندما أرى ذلك (أتذكر اليوم مقالاً لرفيقنا الرائع خالد صاغية وهو يشرّح كعادته ظواهر مماثلة). طبعاً ما عاد ذاك الشكر وارداً اليوم. جرّبوا أن تسألوا جنوبياً واحداً من مؤيدي حزب الله وحركة أمل، عن رأيهم في قطر وأميرها الآن! أخشى أن يجد السوريون الذين رفعوا أعلام قطر ولافتات التحية لجزيرتها، ذاتهم في موقف مماثل بعد سنوات. ثمة مشكلة في توصيف تلك الظاهرة بلغة العامّة (النخب هم من العامّة أيضاً). من الجيد أن نجد في لغة الاقتصاد السياسي توصيفاً أفضل وأكثر سلاسة لها: ثقافة الريع. هكذا تشتغل مافيات الخليج عادة. كل شيء بثمنه. لم تنشئ السلالتان في قطر والسعودية أبواقاً إعلامية بمئات الملايين من الدولارات حتى تبيعانا حريتهما المسمومة بأبخس الأثمان. كل يوم يدفع شعبنا من دمه ثمن ملء الهواء النفطي القذر بأخبار جثثنا المرمية على الطرقات. من المؤسف حقاً أن ينساق المرء إلى معادلات نفطية مماثلة: الريع مقابل الدم. هل تذكرون النفط مقابل الغذاء؟ من دفع العراق يومها إلى ذاك المصير هو ذاته اليوم من يدفعنا إليه في سوريا. غريب فعلاً أمر تلك المستعمرات. يخال عملاؤها أنّ عجلة الريع التي تبتاع سلاح «الخردة» من أميركا اليوم ستشتري لهم دوراً وجغرافيا سياسية وديموغرافيا بديلة ... الخ. هم ابتاعوا الدور حقاً، لكنّهم لم يدفعوا ثمنه كفاية. لا يجرؤون طبعاً على دفع الثمن كاملاً من كيسهم، مخافة أن يحلّ بهم ما حل بمبارك وبن علي حين بدأوا بالتنازل للكتل المنتفضة. لقد نسيت أنّه لا وجود للحيّز العام في تلك المستعمرات أصلاً. والكتل بطبيعتها تحتاج إلى حيّز سياسي حتى تتحرك فيه وتصهر تمايزاتها الفئوية. تعالوا الآن لنفصّل ذلك: لا وجود لحيّز مشترك لديهم، ولا لكتل تتحرك داخله لتستأنف فعل التغيير الذي انقطع منذ زمن! علام كلّ هذا الضجيج إذاً؟ لقد كنت مقتنعاً فعلاً لدى بداية الحراك في تونس ومصر وسوريا بأنّ تصدير المشكلة إلى الخارج لن يخدم إلا أجندة السلالات الحاكمة ونخبها المأجورة. لكن مع استحواذ الخارجين النفطي والاستعماري على أجزاء كبيرة من الحراك داخل تلك البلدان (بالواسطة أو بغيرها) بدأت قناعتي تتغير شيئاً فشيئاً. لم أتزحزح قيد أنملة عن رأيي في المافيات التي تحكمنا، لكن مشكلتي اليوم لم تعد مع المافيات وحدها. أصلاً من يتعامل مع الحراك الآن كما لو كان في بداياته الوردية، يبدو كمن يعيش خارج السياسة تماماً. السياسة بوجهيها البراغماتي الانتهازي والأخلاقي اليوتوبي. وعلى هؤلاء الواهمين (في المعارضات الوطنية حصراً) أن يعوا اليوم أنّ معركتهم باتت مركّبة إلى حد كبير. هي معركة مستمرة مع المافيات في سوريا ومصر وليبيا وتونس أولاً، ومع المافيات في الخليج ثانياً. طبعاً، لكل امرئ الحق في أن يرتب أولوياته كما يشاء، وبما يتقاطع مع مصلحته الوطنية، لكن لا يحق له في الوقت ذاته أن يجعل من ترتيب الأولويات حجة لطمس ما يحاك لنا اليوم في مستعمرات الخليج. ليس من السهل طبعاً في ظل ابتياع مافيات الخليج الحاكمة «لمعظم النخب العربية» أن تدعو البعض إلى إعادة التموضع والتصويب إيديولوجياً بكل الاتجاهات. والدعوة إلى ذلك في ظل التعقيدات الحالية لا تنم عن نضج حقيقي، هي تبدو أقرب إلى السفسطة والسياسة العمياء منها إلى أي شيء آخر. فنحن اليوم نتعامل مع وقائع صلبة لا مع تصوّرات يوتوبية نسقطها على الواقع كيفما اتفق. والوقائع تقول إنّ المعادلة التي ثبتتها محميات الخليج بعد هزيمة صدام حسين في الكويت ما عاد بالإمكان تفكيكها بسهولة. لقد جنّدت أموال النفط جلّ النخب العربية الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية في تلك الحرب وجرّدتها من أي قدرة على مقاومة ثقافة الريع. ومن استطاع التفلّت من التجنيد ذاك بصعوبة عشية غزو العراق في 2003، عاد في ما بعد ذليلاً إلى الحظيرة عشية الحرب على ليبيا (لا على القذافي ونظامه فحسب) في آذار الفائت. تذكروا معي مشهد أحد الخبراء الاستراتيجيين العرب (لن أذكر اسمه) وهو يعرض مواقع «الجيش الليبي» (نحتت له أبواق سلالات النفط مصطلح «كتائب القذافي» تماماً كما تفعل اليوم شاشة المستقبل الهزلية مع الجيش السوري «الفاشي») على خريطة افتراضية من على شاشة البوق القطري الأطلسي. هذا الرجل كان قومياً عربياً يوماً ما، والأرجح أنّه لا يزال يزعم ذلك رغم كل شيء! لو كنا نعيش في ظروف مغايرة لما نعيشه اليوم، لكنّا أطلقنا توصيفاً واضحاً (الخيانة طبعاً) على من يفعل ذلك. لكن واقعة غزو العراق لم تعد قريبة بالقدر الكافي. لقد تكفلت تغطية «جزيرة» آل ثاني و»عربية» آل سعود للحرب على ليبيا بتبديد كل ما علق في ذاكرتنا عن ذاك الغزو الهمجي، وبترسيم المسافة بيننا وبينه على نحو تعسفي. ومن يتجرأ على عبور تلك المسافة سيصبح تلقائياً خارج حظيرة «النخب» النفطية وإجماعها. اقرأوا اليوم ماذا يكتب هؤلاء عن سعدي يوسف ونزيه أبو عفش. كلّ ما فعله هذان الرجلان أنّهما تجرآ على مساءلة دوغما «الربيع العربي» من موقع مستقلّ ومنفصل عن الاصطفافات المدرسية التي يراد لنا نفطياً وكولونيالياً أن نحشر فيها. لنقل إنّهما خرجا «جزئياً» عن النص الذي أملي علينا من مؤسسات «المجتمع المدني» الليكودية في أميركا (فريدوم هاوس وأخواتها). ولأنّ من قرّر إقفال سردية «الربيع العربي» هو ذاته الذي يموّل صحافة الريع المأجورة، بدأت الحملة الفاشية على الرجلين ولما تنتهِ حتى اليوم. كل ما سبق يقول لنا شيئاً واحداً: عندما يتفلّت الصراع من ضوابطه الأخلاقية لا تعود الاستراتيجية القديمة صالحة للاستعمال. واستراتيجيتنا سابقاً كانت النأي عن الخطاب الدعائي الفظ لكلا الطرفين (مستعمرات الخليج والسلالات المافيوزية الوراثية)، والاكتفاء بتفكيك الظواهر «الثورية» الجديدة وتحليلها طبقياً وسياسياً واجتماعياً ... الخ. لم يخلُ الأمر طبعاً من دعوات صريحة لتجذير «الحراك الشعبي» ومنع انزلاقه إلى منطق الحرب الأهلية (وقد حصل ذلك مع الأسف)، لكن الخطاب هنا بقي محصوراً في حدود الدول التي تحرك شارعها «للمطالبة بحقوقه» فحسب. وإذا حصل وتناول المرء المناطق التي بقيت بمنأى عن «الرضّات الأهلية» لا يكون ذلك بمعزل عن المعطى الموضوعي الصرف. مثلاً، حاولت في أحد النصوص (اقرأ: في نقض سردية «الاستثناء الخليجي») تبديد الوهم الذي يقول بأنّ دول الخليج ستبقى بمنأى عن «الحراك الشعبي» الراديكالي في المنطقة. كانت عيننا حينها على شعوب الخليج المحرومة حقوقها كلها، حتى لو بدا للبعض أنّ ذلك غير صحيح. ولنفترض أنّ الغاية من النص كانت تتعدى فعلاً فكرة التضامن مع المسحوقين هناك، ما هي المشكلة في ذلك؟ من حق أي كان أن يجري تمريناً ذهنياً على إمكانية قيام حراك في الخليج من عدمه، ما دامت مساهمته تلك لم تقطع مع المقاربة الرصينة والهادئة للبنية «الطبقية» والجيوسياسية لتلك البلدان. على الأقلّ «نحن» لم ننجر حتى الآن إلى مقاربة الواقع في الخليج على نحو مماثل لما تفعله أبواق آل سعود وآل ثاني «بمنطقتنا». (لاحظوا هذه التقسيمات الجغرافية التعسّفية: «خليجهم» و«شرقنا»). ليت عامر محسن يجذّر أكثر نظريته حول «الحرب الأهلية العربية»، ولو حصل ذلك قبل الآن (منه أو من غيره) لكان بإمكان المرء أن يفهم على نحو أفضل لماذا يشعر كثيرون اليوم بهذا «الحقد» تجاه سلالات النفط و«نخبها» وريعها الثقافي. لا يستطيع التحليل الاقتصادي أن يقدم وحده الإجابة عن ذلك، لكنّه يبقى الأكثر قدرة على تفكيك الظاهرة وردها إلى مكوناتها الأصلية. وهذا بالضبط ما يجب على المرء فعله لدى مقاربته للشأن الخليجي. وإذا ما استطعنا إدماج «الدعاية السياسية» في ذلك، وجعلها جزءاً عضوياً من المقاربة الاقتصادية للوضع في الخليج فلا بأس أيضاً. المهم أن تحافظ السردية النقدية تجاه المستعمرات النفطية على تماسكها العضوي، وألا يبدو أي جزء فيها نافراً، أو مقحماً من خارج السياق. حتى «الدعاية السياسية» في سياق مماثل لا تعود دعاية بالمعنى التقليدي. وحدهم من سلّموا بالهزيمة أمام المعسكر الرجعي الملتحق ذيلياً بالغرب يعتقدون ذلك. يجب على هؤلاء أن يراجعوا جدياً تجربة انخراطهم في الدعاية السياسية لمستعمرات الخليج، قبل أن يعظوا الآخرين بانعدام جدوى ممارسة أنماط أخرى (أكثر تقدمية وأقل رجعية وتذللاً للسادة البيض) من الدعاية. ولمن لم ينخرط بعد في تلك الدعاية الريعية (وهؤلاء موجودون في اليسار الراديكالي حصراً) نقول: لا يمكن في هذه اللحظة التاريخية صياغة خطاب يعيد إنتاج فكرة اليسار المعادي للرأسمالية ومنتجاتها في الخليج (الرجعية والذكورية والنيوليبرالية والإسلاموية الوهابية و... الخ) بدون استخدام دعاية سياسية مضادة وفاعلة على نحو جدي. والمشكلة أنّ القضم النفطي المستمر للعناصر المهيئة للقيام بذلك (عبر شراء الولاء منهجياً) هو ما أعاق حتى اليوم فكرة تبلور خطاب مماثل. خطاب يتوسل الدعاية السياسية المضادة من دون أن يبتذلها ويجعل منها منصة للتصويب القذر على بنية المجتمعات (لا النظم) المراد «تدميرها». هكذا تفعل أبواق مستعمرات الخليج اليوم. تبتز السلالات التي لا تروقها سياستها، فإذا لم تمانع كثيراً في إحداث «تغيير» يتّسق مع الأجندة النفطية الوظيفية تترك لشأنها الداخلي مؤقتاً (كما هي حال مصر وتونس)، وإذا لم تخضع تماماً للابتزاز يجري نقل ملفها من ضفة إلى أخرى. من ضفّة التصويب على النظم فحسب إلى ضفّة استدعاء «المجتمع» (البيئة المجتمعية الحاضنة) الذي تحتمي به تلك النظم. وهذه تحديداً هي الجزئية التي يجب تجنبها لدى توسل «الدعاية السياسية» ضد سلالات الخليج. «هم» لم يمانعوا في ابتزاز شرائح شعبية معارضة عاطفياً وسيكولوجياً (في سوريا وليبيا تحديداً)، لأنّ ثقافة الريع لا تعترف بالمعايير الأخلاقية، ولأنّ هزيمتها (أي «الثقافة» تلك) غير ممكنة إذا استعصى علينا في البلدان المستهدفة نفطياً تجذير الطابع الطبقي للانقسام لا الطائفي.
إلى الآن لم يحصل ذلك (لم يتجذّر الانقسام طبقياً)، وتعذّر حصوله في سوريا وفي غيرها لا يعني أن حصوله لاحقاً في الخليج غير ممكن. حتى لو كان بعض الحراك الحاصل في الخليج «ذا طابع طائفي» (البحرين مثلاً) وغير مهيّأ لإنضاج وعي طبقي يحمي وحدة المجتمعات الخليجية، لا يجب التعامل مع «طائفيته» كما لو كانت معطى ناجزاً. هذه ألف باء السياسة أخلاقياً (لا براغماتياً)، وألف باء الصراع أيضاً، إذا افترضنا أنّ نقل صراعنا إلى قلب الخليج قد بات فعلاً «حقيقة واقعة».

* كاتب سوري