"... فلمّا تفاوضوا في ما بينهم، سئل الإخوان المسلمون: ماذا تريدون؟ أي وزارة؟ فقالوا: نحن لا نريد وزارة، نحن لنا مطلب واحد وهو إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثانوية" (من النصّ الأخير للمفكر الراحل جورج طرابيشي، عن سوريا في الخمسينيات)

عامر محسن
قد تكون نظرة هويلبيك الى الإسلام ومجتمعه سطحية وغير واقعية، ولكنّه قد وصّف في روايته الخيالية، من دون قصدٍ ودراية، عملية اجتماعية جرت في بلادنا خلال العقود الأخيرة. قال لي زميلٌ تركيّ انّه، منذ سنواتٍ قليلة، كنت اذا صادفت تركياً يدرس في جامعات أميركا تفترض تلقائياً أنه من أبناء النخبة العلمانية المدينية في تركيا، الذين ينعتهم البعض بـ"الأتراك البيض"، ويتهمهم بالنظر بفوقية الى مواطنيهم من ذوي الأصول الأناضولية والفلاحية، والذين يميلون لأن يكونوا أقل تغريباً وأكثر تديّناً ومحافظة. اليوم، بالمقارنة، صار الكثير من الشباب الأتراك في الكليات الأميركية من أبناء النخبة الإسلامية الجديدة، أبوهم تاجر أو صناعي أو مقاول اسمه "الحاج فلان"، وجلّهم شباب متدين، يمارس الطقوس ومتعلّق بفلسطين ويؤمن بالأمة الإسلامية، وقد أرسلهم أهلهم ــــ كما تفعل كل نخبة صاعدة في دول الجنوب ــــ للدراسة والتدرّب في "مركز القوة" في العالم.
بمعنىً ما، هناك شيءٌ مشترك بين تحوّل ريديجيه وفرنسوا الى الإسلام في رواية هويلبيك، وبين تحوّل جيلٍ كاملٍ من العرب (أو جزءٍ مهم منه)، منذ السبعينيات، من نمط حياةٍ علماني وسياسات يسارية وقومية الى "الدخول في الإسلام" والالتزام الديني وتأييد الأحزاب الإسلامية. بالنسبة الى الكثير من هؤلاء، لم يكن التآلف مع "المجتمع الجديد" نكوصاً أو تمرّداً، أو خروجاً الى هامش المجتمع، بل كان طريقاً الى الطبقة الوسطى، و"المجتمع المحترم"، والمكانة والسلطة، حين لم يعد التديّن نقيضاً للحداثة أو النخبوية أو "البرستيج" (يمكن، على طريقة المثال التركي، مقارنة عدد الطلاب الذين كانوا يتماهون مع حزب الله في الجامعات الخاصة، كالأميركية واليسوعية، في التسعينيات ــ حين كانت المقاومة في أوجها وجبهة الجنوب مشتعلة ــ بعددهم اليوم، وقد أصبحوا قوة وازنة في الانتخابات الطالبية في جامعات النخبة).
استمرار المجتمع العلماني الذي رعته الدولة الفرنسية، والذي ولد فيه فرنسوا وأبناء جيله، كان له شرطان: تواصل الإزدهار الإقتصادي، وأن ينجب "ابناء الجمهورية" ما يكفي من أولادٍ حتى ينقلوا اليهم قيمهم ويعيدوا ــ عبرهم ــ انتاج النظام. والأمران لم يتحققا؛ فانهار النظام الفرنسي القديم، بدءاً بحزبيه الكبيرين ومؤسسته السياسية، وصعد الإسلام كقوّة حيوية شابة، تقابلها فاشية مارين لوبين والعنصريين البيض. حتى العادات الدينية والمعتقد و"الثوابت الوطنية" ليست بالثبات الذي يتخيله البعض، وتجربة الجيل العربي الذي سبقنا دليلٌ على ذلك. حين يسأل فرنسوا عن إمكان تحوله الى الإسلام، هو الذي لم يؤمن بالله في حياته، يجيبه ريديجيه بأنّه، كأكثر الملحدين الغربيين، ليس "ملحداً حقيقياً" وإن توهّم ذلك. الملحد "الحقيقي"، يقول ريديجيه، هو الملحد الثائر، الغاضب على الدين، والمصرّ على هدمه. أمّا من يقول انّه اتّخذ الإلحاد كقرارٍ فلسفي "بارد" ونسي الأمر فهو، ببساطة، انسانٌ قرّر تأجيل النّظر في الموضوع وألّا يفكّر به، حتى يصطدم بالموت أو المرض، أو انهيار نظامه الإجتماعي، فيضطرّ الى المواجهة و"يكتشف"، غالباً، أنّه مؤمن أو منفتح على الإيمان.
بالمعنى نفسه، يرفض العديد من العلمانيين واليساريين والقوميين العرب (الذين كانت تياراتهم من ضحايا "اليقظة" الإسلامية) أن يفهموا الدورة التاريخية التي أوصلت تنظيماتهم الى ما هي عليه اليوم، وما زالوا على اقتناعٍ بأنّ أفكارهم ستنتشر وتسود إمّا لأنها "صحيحة" و"جميلة" و"حديثة"، فلا بدّ للتاريخ أن ينصفها، أو أنّهم سيهيمنون عبر التبشير وكسب الأنصار بالحجّة والإقناع. فكرة "المجتمع الجديد"، حتى نستعير تعبير الراحل نديم البيطار، لا يمكن لها أن تستمرّ كفكرةٍ مجرّدة من دون مشروع "دولة وطنية" (أضاعه العلمانيون)، أو نظام حياةٍ وتوزيعٍ وحركةٍ اجتماعية تغيّر معاش الفقراء بشكلٍ مباشر وعمليّ وجذري. حين حاول هادي العلوي طرح مشروع سياسي فهو لم يصغ تنظيرةً، بل وصّف ــ على قدر معرفته ــ مشروعاً مشاعياً عملياً للعراق يتناول، في ما يتناول، إسكان الناس وأجورهم وزواجهم وتكوين العائلة. بسبب هذه النظرة "المثالية" الى السياسة، كأنها حرب أفكار، لا يجد الجيل الجديد من اليساريين ــ وبخاصة نخبتهم المتعلّمة ــ تناقضاً بين يساريتهم المفترضة وبين أن يبنوا حياتهم المهنية في منظمات التمويل الدولي أو في دبي؛ ويبشّرون بالمجتمع الإشتراكي وبالعدالة فيما هم ينشئون أبناءً برجوازيين وماديين.
بالنسبة الى فرنسوا، قدّم الإسلام "افقاً جديداً"، لفرنسا المتعبة وله شخصياً. يشرح له ريديجيه، الذي عيّن وزيراً للثقافة، أنّ محمد بن عباس لديه أفكارٌ مبتكرة ومبدعة: هو يريد، في ظل الإسلام المعتدل، أن يبني "امبراطورية رومانية" جديدة، نظام سياسة وحياة لكل حوض المتوسّط، وهو سينقل ثقل الاتحاد الأوروبي جنوباً ويجعل عاصمته روما أو أثينا، ويضمّ اليه أكثر الدول العربية. بن عبّاس يبني مجتمعاً واضح التراتبية، يعيش أكثر الناس فيه في حالةٍ من الفقر القنوع، فيما أقلية تحظى بالبذخ والقصور والرواتب العالية. كالمجتمع الأرستقراطي تماما. ولكنّها لن تكون ارستقراطية ولادة فحسب، بل إنّ قمّة السلّم ستُحفظ للعلماء والمفكّرين والقادة، وسيكون فرنسوا ــ استاذ الأدب في "جامعة السوربون الإسلامية" ــ جزءاً من هذه النخبة الجديدة. ستصير المعرفة والفكر، يقول له ريديجيه، هي ما يجذب النساء ويغريهم، وليس الشكل والملبس أو السيارات الرياضية؛ ومثقفٌ في منتصف العمر، كفرنسوا، سينال أفضل ما في الحياة.
تُختم الرواية بمشهد تحوّل فرنسوا الى الإسلام في احتفالٍ أقيم في جامع باريس الكبير. سُمح لفرنسوا بإستخدام الحمّام التركي الملحق بالمسجد من أجل المناسبة، وفيما ارتدى، بعد أن اغتسل، طقماً من الثياب لم يلبسه من قبل، وبدأ يخطو نحو القاعة حيث سيولد انساناً جديداً، وجد نفسه يفكّر بحياته القادمة: "بعد أشهرٍ ستكون هناك صفوفٌ جديدة وتلميذات جديدات ــ جميلات، محجّبات، خجولات… الأمور ستكون مختلفة هذه المرّة… وأيّ من هذه الفتيات، مهما كانت جميلة، ستكون سعيدة وفخورة اذا اخترتها".