تلخصت الانتفاضة السورية في مطلب إسقاط النظام، وأحياناً في اعتبار أنّها ثورة «الحرية والكرامة». وظل هذا وذاك يتكرران طوال الأشهر المنصرمة، إذ بقي الشباب يمحور هتافاته عليها. وكان يظهر كم هي قاسية وطأة الاستبداد الطويل، وتدخلات الأجهزة الأمنية، والشرطة في حياة المواطنين. وبالتالي كم كان عبء السلطة مهولاً، وممارساتها فظة. وإذا كانت بعض الفئات تريد الحرية التي تعني التحرر من السيطرة الأمنية والانغلاق الإعلامي، وتحقيق الحرية الفردية، من أجل أن تمارس حقها الطبيعي في التعبير عن ذاتها، فإنّ كتلاً كبيرة كانت تضمّن هذه الأهداف مكنوناتها، وهي التي لا تستطيع أن تصوغ مطالبها واضحة في شعارات نتيجة غياب الوعي السياسي الذي نتج من الاستبداد الطويل. ولذلك تمحور الهدف الأساسي للانتفاضة في إسقاط النظام من أجل الحرية. أو كما تعبّر المعارضة السياسية بمختلف أطيافها: الانتقال من دولة الاستبداد إلى الديموقراطية، وأصبحت انتفاضة «حرية وكرامة». لكن هل يستوفي ذلك مطالب كلّ الطبقات الشعبية المشاركة (أو غير المشاركة بعد) في الانتفاضة؟ هل هذا ما تريده كلّ الفئات المفقرة والتي بلا عمل، أو التي لم تعد تستطيع تعليم أبنائها أو مداواتهم، أو حتى توفير أبسط سبل العيش؟
إذا كانت الطبقات الشعبية لم تعبّر عن مطالبها في الشعارات التي ترددها، أو اللافتات التي ترفعها، فليس معنى ذلك أنّ ليس لديها مطالب واضحة، كانت تكررها من وقت لآخر. وهذا يفرض أن نتلمس مشكلات تلك الطبقات لتلمّس مطالبها، لأنّها لا تطالب بأكثر من تجاوز تلك المشكلات، وليس في مقدورها أن تنتقل بـ«التجريد» إلى مستويات أخرى يوصل الوعي السياسي إليها، أو حتى تصل إلى تصوّر حول كيفية تحقيق مطالبها. لذلك تنتفض، وتسقط، ومن ثم يتوقف كل شيء على «النخب السياسية» التي تتصدّر المشهد بعدئذ.
ولذلك لا بد من استخلاص مطالب تلك الطبقات، وصوغها في أهداف تصبح هي الحاكمة لكلّ تغيير سياسي، أو تأسيس سلطة جديدة. وهنا يجب الابتعاد عن الميل الأيديولوجي أو المصلحة الضيقة لفئة اجتماعية يمكن أن تعمل على حصر المطالب في مطالبها هي بالذات. ويبرز خصوصاً وضع النخب التي تميل عادة إلى تحقيق مصالحها باسم الأمة كلّها، وبالتالي تجاهل مصالح الأمة. الأمر الذي يفرض علينا تحديد المطالب العامة للطبقات الشعبية. المطالب التي يثورون من أجلها، ويعتقد كلّ منهم بأنّ التغيير سوف يقود حتماً إلى تحقيقها. أو يجب أن يقود حتماً إلى تحقيقها. وسوف يستمر في الصراع إلى أن تتحقق.
وهنا لا بد من أن تشمل المطالب كلية البنية السياسية المجتمعية، وليس شكل السلطة السياسية فقط، أو الأشخاص الذين يحكمون فحسب. أو أن يفضي إسقاط النظام إلى تغيير البنية الاقتصادية السياسية التي فرضت التهميش الاقتصادي والمجتمعي، وكان الاستبداد الضرورة التي تسمح بذلك. وبالتالي تأسيس بنية اقتصادية سياسية تتضمن حلّاً لكلّ مشكلات تلك الطبقات، من العمل إلى الأجر إلى التعليم والصحة والضمان، إلى الثقافة والوعي، إلى الدولة الديموقراطية. البديل إذن، يجب أن يتضمن حل مشكلات مجتمعية وليس تغيير شكل سلطة.
من هذا المنظور أرى أنّ المطالب يمكن أن تختصر في النقاط التالية: 1) بناء دولة مدنية حديثة تقوم على إرادة الشعب ويحكمها دستور مدني ديموقراطي، وتنطلق من الحريات العامة، ومن فصل السلطات، واستقلالية القضاء، وتقوم على أساس النظام البرلماني. 2) حق تأسيس الأحزاب والنقابات وكلّ أشكال الاتحادات التي تعبّر عن مصالح فئات اجتماعية مصونة في الدستور وتخضع للإشهار فقط. 3) تحقيق المواطنة الكاملة، وإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. 4) إقرار الحقوق القومية للأكراد والأقليات الأخرى، والتي تتمثل في الحق في التكلم باللغة الأم ونشر الثقافة والتدريس بها. 5) محاسبة كلّ الذين نهبوا الاقتصاد الوطني استناداً إلى قوة السلطة وعبر تعميم الفساد، ومصادرة أموالهم لكي تسهم في إعادة بناء الاقتصاد الوطني. 6) إعادة النظر في الاقتصاد من أجل حلّ مشكلات البطالة (خصوصاً بين الشباب) والأجور، انطلاقاً من إنهاض الزراعة والصناعة وفق خطط حكومية، وبمشاركة الرأسمال الخاص. 7) مجانية التعليم مع بنائه على أسس علمية، وتحقيق الضمان الاجتماعي والصحي لكل المواطنين. 8) التنمية المتوازنة بين المحافظات، والاستفادة من التنوّع في الظروف فيها. 9) التأكيد على إعادة بناء الجيش لكي يكون قادراً على تحرير الجولان والتصدي للهجمة الإمبريالية. والتأكيد على حلّ مسألة احتلال الإسكندرون من خلال الحوار مع تركيا. 10) إعادة بناء الأجهزة الأمنية لكي تكون معنية بالوطن وليس في المجال السياسي المباشر، انطلاقاً من إعادة صياغة «عقيدتها الأمنية»، وإعادة تأهيل كادرها، وإخضاعها للمراقبة الشعبية.
تلك مطالب عامة، تتضمن مطالب كلّ الطبقات الشعبية، وهي الأساس في انتفاضة هذه الطبقات، والتي أصبح مدخلها هو الهدف العام الذي طرحته هذه الطبقات، أي إسقاط النظام. بمعنى أنّ إسقاط النظام هو الطريق لتحقيق هذه المطالب التي تحقق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولا بد لكلّ حزب يتنطح للوصول إلى السلطة من أن يعمل على تحقيقها، أو ينكشف ويحاسب انطلاقاً منها. ولا بد من أن تكون أيضاً في أساس اختيارات الأفراد للحزب الذي تعتقد بأنّه يحققها. وبالتالي يمكن أن تتمرّد عليه إذا لم يستطع تحقيقها، أو تجاهلها وفرض مصالح ضيقة لفئات أخرى.
في كلّ الأحوال، لا بد من مرحلة انتقالية. ولقد تحقق ذلك بأشكال مختلفة في تونس ومصر، وليبيا، اي البلدان التي انتصرت الثورات فيها. لكن تلك التجارب، التي أوضحت أهمية المرحلة الانتقالية، أوضحت كذلك أنّ تحقيق الانتقال من نظام إلى آخر لا يكون حينما تستمر بنية النظام ذاته، والطبقة الرأسمالية المسيطرة ذاتها، وأنّ الأمر يحتاج إلى إعادة صوغ بنية الدولة، وإعادة الحيوية السياسية إلى المجتمع. الأمر الذي يفرض التركيز في المرحلة الانتقالية على تأهيل الدولة، وتحقيق مطالب عاجلة للطبقات الشعبية. في سياق الإعداد لانتخابات تؤسس لشرعية سياسية جديدة.
لذلك لا بد من حكومة انتقالية تتألف من شخصية معارضة ذات كفاءة، وتحظى بموافقة عامة من الشباب وأحزاب المعارضة، مهمتها: إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلة الإعلام لكي يعبّر عن المجتمع، وهيكلة بنية الدولة ومحاسبة الفاسدين فيها، والتركيز على الكفاءة، وإعادة هيكلة القضاء وطرد الفاسدين فيه، واعتماد المهنية والكفاءة. كذلك من مهماتها إطلاق حق تشكيل الأحزاب، وتأسيس الصحف والإعلام المرئي والمسموع، وتحرير النقابات والسماح بتشكيل نقابي دون قيود أو هيمنة، وصياغة دستور جديد يطرح على الاستفتاء خلال سنة.
كذلك يجب دراسة زيادة الأجور بما يساوي ثلاثة أضعاف الحد الأدنى الحالي، والبدء بتوظيف العاطلين من العمل، وتخصيص أجر حد أدنى إلى حين توفّر العمل، وبدء معالجة الوضع الزراعي والصناعي والتعليمي والصحي.
هدف الحكومة الانتقالية إذن هو التمهيد لشرعية جديدة تأتي عبر الانتخاب، لكن بعد أن يتأسس واقع سياسي جديد، يعبّر عن الطبقات الشعبية ذاتها التي انتفضت، وليس عن أحزاب ومصالح هي مصالح السلطة الحالية، وأحزاب لا تختلف عنها كثيراً، وتمتلك رؤية تكرّس الواقع الاقتصادي القائم. أحزاب تأتي لكي تعبّر عن الرأسمالية ذاتها المسيطرة الآن، أو عن إحدى فئاتها بتقزيم أخرى. فالمسألة تتمثل في إسقاطها كلّها، لأنّ النمط الاقتصادي الذي تكرسه هو السبب في كل الفقر والبطالة والتهميش، وانهيار الزراعة والصناعة والتعليم والصحة.
لقد سيطرت الرأسمالية ذاتها، من خلال المجلس العسكري في مصر، ومن خلال الحكومة الدستورية في تونس، على المرحلة الانتقالية، فأعادت إنتاج النظام ذاته بأسماء أحزاب جديدة، ووجوه جديدة. فلم تتأسس دولة مدنية ديموقراطية، بل جرى اختزال الديموقراطية بالانتخابات، وجرى التمسك بالنمط الاقتصادي ذاته الذي كان قبل الثورة. وجرى كذلك الإصرار على صحة ذاك النمط، وبالتالي تجاهل مطالب العاطلين من العمل والفقراء. نحن لا بد من أن نتلمس صيغة مرحلة انتقالية تفضي إلى التغيير العميق، وهو ما يتجاوز مصالح ومطامح كل الأحزاب القائمة. ويفرض العمل على تأسيس جديد.
لهذا، لا بد الآن من التركيز على توسيع مشاركة الطبقات الشعبية انطلاقاً من فهم يقوم على أنّها هي التي يجب أن يرسم أفق المستقبل، دون خوف أو تخوّف أو اتكاء على أي خارج. فالصراع هو بين هؤلاء والسلطة التي تمثّل فئة نهب وأثرت، فاستحوذت على الثروة من خلال تسلطها السلطوي. الأساس هو الثروة والسلطة، لذلك، الشعب يريد إسقاط النظام.
* كاتب عربي