وصلت الأسبوع الماضي إلى غرناطة مروراً بمالقة ورندة وإشبيلية وقرطبة، وشاءت الصدف أن تكون إقامتي في فندق يقع وسط «تل الريحان» المشرف على المدينة والمعروف ايضاً بـ«جبل التنهيدة»؛ إذ يروى (من دون سند قوي) أنّ أبا عبد الله الصغير الزغابي (المشؤوم)، آخر ملوك المدينة، قد تنهد بقوة في هذا المكان وطافت دموعه مودعاً للمرة الأخيرة قصر الحمراء الذي سلمه بكامل محتوياته لإيزابيلا ملكة قشتالة وزوجها فرديناند ملك ليون في 1492. ويقال إنّ كريستوف كولومبوس مكتشف أمريكا كان شاهداً على تلك الواقعة، بعد أن شارك بحصار غرناطة. وتشير الأسطورة إلى أنّ السيدة عائشة والدة «الصغير» نهرته قائلة بما معناه : «لا تبك كالنساء على ملك لم تتمكن من المحافظة عليه كالرجال». وتشاء الصدف أيضاً أن أُطلّ من شرفتي في الفندق على «حي البائسين» الواقع على سفح «قصر الحمراء»، وهو لا يزال يحتفظ باسمه منذ إنشائه قبل سبعة قرون، وكان يضم (حتى سقوط غرناطة) منازل العرب الذين هجروا من ممالك الطوائف المتساقطة بيد الأسبان منذ القرن الحادي عشر. وقد استقر (البائسون) أهل المدن الساقطة أو من رغب منهم، في ذلك الحي في غرناطة المنيعة والقريبة من الشواطئ المغاربية؛ إذ كان من السهل نجدتها، الأمر الذي يفسر صمودها لنحو قرنين ونصف بعد سقوط قرطبة.
والشائع أنّ معظم العرب الذين يزورون هذه الحواضر هم من الباكين على الأطلال، الأمر الذي يصعب التحقق منه. فما بقي من الأندلس العربية لا يعدو كونه أطلالاً رائعة تليق بوصف طرفة بن العبد «... كباقي الوشم في ظاهر اليد»، وبالتالي تثير الحزن على مغيب حضارة متسامحة غنية ومتعددة الوجوه (كان عدد سكان قرطبة يفوق مليوناً ونصف مليون ويقطنها اليوم أقل من 300 ألف نسمة).
ولعل الرغبة في البكاء تنجم أيضاً عن ماضٍ عربي جميل وطليعي، مقابل حاضر مقيت لا يردع عدواً ولا يسر صديقاً. علماً بأنّ الناس بطبيعتهم يفضلون المفاخر في سيرتهم، سواء كانت ماضية أو معاصرة.
وعلى الرغم من عظمة تلك الحضارة وتأثيرها الحاسم في النهضة الأوروبية، ولا سيما عبر ابن رشد وعلماء الأندلس البارزين في الطب والنبات والفلك والهندسة وتخطيط المدن وسائر العلوم، فإنّنا نبكيها بدلاً من التأمل العقلاني في إنجازاتها ومصائرها السياسية. ولو تأملنا حقاً، لاكتشفنا مذهولين أنّ عربياً بارعاً تمكن قبل ألف عام في قرطبة أو في غرناطة من أن يبني قصراً أو مسجداً ينساب إليه الضوء الطبيعي بطريقة ميسرة، وأن يمده بالنوافير عبر نظرية الأواني المستطرقة، ويزوده بتقنيات التدفئة عبر المياه الساخنة. فيما عربي آخر في بيروت، بنى بعد ألف عام مطاراً دولياً، مقفلاً أمام ضوء الشمس وينار بواسطة الكهرباء التي يعاني اللبنانيون من انقطاعها اليومي منذ ثلاثة عقود. وأخال الفارق بين العربي البيروتي والعربي القرطبي أنّ الثاني كان سيّداً حراً في تفكيره وتصميمه، فيما البيروتي كان تابعاً تقتضي ثقافته المؤطرة والمشروطة أن ينسخ مطار السيد الأوروبي المصمم لبلاد ضبابية، غير عابئ بتناقض المنسوخ مع الطبيعة اللبنانية المشعة معظم أيام السنة.
وكان الحاكم العربي في قرطبة قبل أكثر من ثمانية قرون يطلب من قاضيه المسلم أن يكتب له مذكرة عن منطق أرسطو، وبعد ثمانية قرون يفتي قاضي الملك السعودي حرفياً بما يأتي:
«... س: أنا أعمل في رقابة المطبوعات، وأحياناً أقرأ رواية فيها حديث عن امرأة سافرت من دون محرم، فهل أنا آثم وينبغي عليَّ ترك العمل؟
ج: عليك أن تتصل بكاتب الرواية، وتطلب منه تغيير الجملة إلى امرأة سافرت ومعها محرم، أو يضيف كلمة آثمة وتلعنها الملائكة، وإذا لم يستجب الكاتب فعليك أن تستقيل لأنّ أجرك حرام من هذا العمل المخالف للشرع!».
وكان الصيدلي العربي محمد الغافقي يجري في قرطبة قبل ثمانية قرون عمليات جراحية ضد مرض «الماء الأبيض» بواسطة « أشواك» السمك، وبعد ثمانية قرون يذهب الطلاب العرب إلى الغرب لتحصيل علوم في فروع الطب المختلفة هي في قسمها الأساسي من أثر أسلافهم في الأندلس وبغداد والقاهرة ودمشق، من دون أن ينتبه أي جيل منهم إلى وجوب توطين هذه العلوم باللغة العربية التي كان على الأطباء الأوروبيين تعلمها؛ لأنّ أفضل كتب الطب كانت عربية حتى القرن الثامن عشر كما يؤكد المستشرق لويس يونغ.
وإذا كانت القرون الأندلسية الثمانية عامرة بالإنجازات الحضارية المشرفة، فإنّها لا تختلف كثيراً في المجال السياسي عن بؤسنا المشرقي الشنيع. كان الأندلسيون أسياداً تقاتلوا وتمكنت منهم الفتن (عرب ـــــ بربر) حتى صاروا «نسياً منسياً». أما نحن، فقد ظهرنا على المسرح الدولي بعد أربعة قرون من سيطرة عثمانية قاتلة، خاضعين للأجنبي الذي خلق في جوف عالمنا قاعدة صهيونية محمية بالأسواق الكلية القدرة، وترسانة الغرب المدمرة، فلا يكاد ينهض أحدنا حتى نحتشد لإسقاطه بالتواطؤ مع الأجنبي أو مع وكلائه المحليين الكثر، وكأنّ ملوكنا وحكامنا يقتفون حرفياً أثر أبي عبد الله الصغير.
عندهم في الأندلس سقطت طليطلة؛ لأنّ أهلها ثاروا على الحاكم، فعاقبهم باللجوء إلى ملك قشتالة الإسباني، وحثه على احتلال المدينة، فاحتلها وطرد الحكام والمحكومين منها. وسقطت إشبيلية بتواطؤ ملك قشتالة الإسباني مع حاكم قرطبة، وسقطت الأخيرة بالتواطؤ مع حكام آخرين. وسقطت مالقة بعد أن تعهد ملك غرناطة الامتناع عن نجدتها، علماً بأنّ عمه كان حاكمها. وسقطت غرناطة بعد فتنة شهيرة بين الأم عائشة والزوج الحاكم أبي الحسن الذي عشق حسناء إسبانية، والعم الذي طمع بالحكم، والابن الذي أطاع أمه وتخلص من أبيه وعمه. وهذه تفاصيل لا نعدم ما يشبهها بين «ملوك» طوائفنا في المشرق؛ فقد سلح معمر القذافي الراحل جنوبيي السودان ودعمهم بأمواله الطائلة ضد النظام السوداني، وعاد من بعد لرعاية الانشقاق في دارفور. فكان أن تقسم السودان إلى شمال وجنوب، وقد يعود إلى الانقسام ثانية. وساهم «ملك الملوك» في إشعال الفتن في نواحي المشرق والمغرب، إلى أن اجتمع معاونوه القدامى وضحاياه وانقلبوا عليه بدعم من الحلف الأطلسي. وها هم يتحولون إلى ملوك مدن ويتصارعون في ما بينهم لا تعصمهم «ديموقراطية»، ولا من يحزنون.
وفي سوريا يتحالف ملوك الخليج وأمراؤه ضد حاكمها، ويقسم أحدهم على إسقاطه ولو كلفه ذلك ثروة بلاده النفطية كلّها. وصاحب القسم محميّ من القوة الأعظم في هذا العصر، فيما عم الحاكم السوري يعيش في بلاد الأجانب ويشترك معهم لإطاحة ابن أخيه، فضلاً عن نائب الرئيس السابق اللاجئ في باريس بعد أن حكم دهراً، لكنّه لا يزال راغباً في المزيد. وفي قطر خلع الأخ أخاه من الحكم، ثم خلع الابن أباه، ومن ثم خلعت الزوجة ابن ضرتها، وأقامت ابنها في ولاية العهد. وذلك كلّه وسط حماية وإشراف قاعدة عسكرية أميركية هي الأهم والأكبر في الشرق الأوسط.
وفي أروقة الأمم المتحدة تفيدنا الوثائق الدبلوماسية عن إلحاح ممثلي الخليج، سراً، على قتل جمال عبد الناصر في أزمة السويس، وهم الذين تحالفوا مع الأجانب في احتلال العراق وقتل الرئيس صدام حسين. كذلك يعمل «ملوك طوائف» هذه الأيام مع الأميركيين والصهاينة لقلب نظام الحكم في إيران وإيقاظ الفتنة السنية الشيعية، تمهيداً لضرب التيار المقاوم وإخضاع كامل العالم العربي لأميركا وتل أبيب...
من أعلى «جبل التنهيدة» يمكن المرء أن يكتفي بتفسير الشاعر «أبي البقاء الرندي» الذي رثى الأندلس بقصيدته الشهيرة:
لكل شيءٍ إذا ما تمّ نقصانُ
فلا يُغَرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
ويمكنه أيضاً أن يحذر ملوك طوائف عصرنا من مصير مماثل، إن هم اعتقدوا أنّ أمر العرب يؤول إليهم حصراً، عبر نشر الفتنة في العراق ولبنان وإطاحة النظام السوري والنظام اليمني وتحطيم المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية وإخضاع مصر والسودان والجزائر؛ ذلك أنّ إسقاط تلك الدول سيضع ملوك العرب بمواجهة بعضهم لبعض، وسيكون الأجنبي جاهزاً لمساعدتهم على تدمير أنظمتهم الواحد بعد الآخر، تماماً كما حصل لغرناطة حليفة القشتالين، بعد سقوط طليطلة وإشبيلية وقرطبة.
والأرجح أنّ سقوط «ملوك العصر» سيفتح شهية القوى الإقليمية المحيطة بنا ـــــ التركية والإيرانية وحتى الصهيونية ـــــ على تقاسم العالم العربي وجعل أهله خدماً معاصرين في سياق مسخرة جديدة اسمها «ديموقراطية الشرق الأوسط المتعددة الأعراق والأديان». مسخرة أشبه بالوعد الذي أعطي لأبي عبد الله الصغير قبل تسليم غرناطة بأن يعيش أهلها المسلمون أحراراً، فكان أن اجتثتهم محاكم التفتيش بعد استرقاق نسائهم وبيع أطفالهم وتطهير أرض الأندلس من كل أثر لهم ولإسلامهم.
* كاتب لبناني مقيم في باريس