يمثل صدور أحكام بالبراءة لصالح بعض الضباط المتهمين بقتل الشهداء خلال الثورة أمام قسم شرطة حي السيدة زينب بالقاهرة، وإخلاء سبيل أحد رجال الأعمال المتهمين أيضاً بقتل الثوار في السويس بكفالة مالية (أعيد اعتقاله لاحقاً حرصاً على حياته وخوفاً من الغضب الجماهيري) أحد أسوأ مفاصل الثورة المضادة التي يقودها المجلس الأعلى للقوات المسلحة. فتبرئة قتلة الشهداء وحمايتهم، هو في حد ذاته إدانة للشهداء وللثوار والثورة. استدعت تلك الإجراءات على الفور ردود أفعال غاضبة على المستوى الشعبي، وخاصة من قبل أهالي الشهداء، حتى اضطرت الدولة لاعادة اعتقال رجل أعمال من السويس أخلي سبيله، لتهدئة الرأي العام. ردود الأفعال تلك متوقعة جداً بل وأكثر منها. لكن مع فورة الحماسة للقصاص للشهداء من نظام مبارك وقادة الثورة المضادة والغضب من تبرئة القتلة وإهدار حقوق الشهداء وحقوق الثورة نفسها، يجب التوقف لمناقشة بعض ما يطرح. ففور صدور أحكام البراءة ظهرت دعاوى لتكوين جماعات للاقتصاص من القتلة مباشرة وتطبيق العدالة. وقبل مناقشة تلك الدعاوى يجب الإشارة إلى أمرين. أولاً أنّ ظهور دعوات لتكوين «جماعات القصاص» بعد صدمة براءة المتهمين بقتل الثوار مع وجود الكثير من أدلة الإدانة هو رد فعل طبيعي جداً، ويجب توقعه. ثانياً أنّه رغم أنّها تمثل ردود أفعال طبيعية ومنطقية جداً، إلا أنّها حتى الآن تبقى في حيّز رد الفعل التلقائي ضد إهدار العدالة، وقد تتضمن من التهديد أكثر من التنفيذ، ولا ينبغي اعتبارها تمثل خطوات حقيقية في اتجاه تكوين جماعات مسلحة للاقتصاص للشهداء. مع ذلك، تبدو تلك الدعاوى مناسبة جيدة لمناقشة هذا الاتجاه، أي الاعتماد على تكوين مجموعات عنف.لقد أثارت دعاوى مجموعات القصاص ردي فعل متناقضين، أحدهما استقبلها بتعاطف وعدّها رد فعل طبيعياً على حماية القتلة، والآخر رافض لها على اعتبار أنّها تستبدل دور الدولة في تطبيق العدالة بدور الأفراد والمجموعات وترسيخ عدم الاستقرار. ومن السهل ملاحظة إلى أيّ جانب من الثورة ينتمي كلا الرأيين.
بعيداً عن الرأيين، ومع التأكيد أنّ تلك الدعاوى لا ترقى لكونها اتجاهاً، ولا زالت في طور ردود الأفعال الأقرب للعاطفية، فإنّ من الضروري مناقشة مسألة العنف في سياق الثورة المصرية. إنّ أول ما تستدعيه دعوات كتلك هو الجماعات المسلحة التي ظهرت في أعقاب حركات جماهيرية ضخمة لم تتمكن من تحقيق أهدافها. ولعل موجة تشكل تلك الجماعات في سبعينيات القرن الماضي مثال جيد على ذلك. ففي أعقاب موجات الاحتجاج الجماهيرية التي ضربت أوروبا بقوة في نهاية الستينيات، ولم تستطع إحراز التغيير الذي كانت تنشده، تشكلت جماعات مثل الألوية الحمراء وبادر ماينهوف والجيش الأحمر وغيرها التي انتشرت في ذلك الوقت عقب تراجع الحركة الجماهيرية في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وغيرها. ظهور تلك الجماعات كان منطقياً بعد تراجع الحركة الجماهيرية، لكنّه لم يمثل امتداداً لها، رغم أنّ تلك الجماعات تبنت تقريباً قضايا وشعارات الحركة الجماهيرية نفسها. والأهم أنّ تلك الجماعات لم تنجح في تحقيق أهدافها، رغم كلّ ما قامت به من عمليات خطف واغتيال لكبار المسؤولين.
التحوّل إلى طريقة الجماعات العنيفة أو المسلحة لا يمثل امتداداً للحركة الجماهيرية، بل استبدالاً لحركة الجماهير، ويحدث عادة عندما تفقد تلك المجموعات الثقة في إحراز النصر عبر العمل الجماهيري، فتقرر أن تقوم بنفسها بما كان يجب أن تقوم به الجماهير. ولكن للأسف، ما يحدث هو العكس. فينما تؤدي الحركة الجماهيرية المتمثلة في التظاهرات والاعتصامات والإضرابات والعصيان، إلى إضعاف أنظمة الحكم المستبدة، وخلق إمكانية لإطاحتها، تدفع الجماعات المسلحة تلك الأنظمة إلى التماسك أكثر. ولم تكن صدفة بالمرة أنّ نظام مبارك استطاع بناء أغلب ترسانته الأمنية والتسلح بقانون الطوارئ تحت زعم محاربة الإرهاب طوال الثمانينيات والتسعينيات، في مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة. لكن تبرير البطش الأمني للنظام ليس النتيجة الوحيدة لعمل جماعات العنف. فالانفصال عن الجماهير لدرجة العزلة من أهم النتائج التي ترتبط بعمل تلك الجماعات. والأمر طبيعي، فالجماعات التي تسعى للعمل الجماهيري تسعى في الوقت نفسه للارتباط بالجماهير وتبنّي قضاياها والتحرك معها والانفتاح عليها والإعلان عن نفسها في كل مناسبة. وفي المقابل، فإنّ الجماعات التي تعتمد على العنف لابد من أن تسعى إلى تأمين وجودها والاتجاه للعمل السري المعزول عن الجماهير. وكل ما تسعى للحصول عليه من الجماهير هو تعاطفها وتأييدها وليس دورها الفاعل. لقد ضمت تلك الجماعات دائماً العناصر الأكثر إخلاصاً لقضيتها، والأكثر استعداداً للتضحية وإنكار الذات، لكن ذلك لم يعوّض أبداً دور الجماهير.
وعند النظر إلى ما يجري في مصر على مدى العام الأول من الثورة، فإنّ الأمر يبدو مختلفاً تماماً. لا يمكن أبداً مقارنة دعاوى تأسيس جماعات قصاص في نهاية العام الأول من الثورة المصرية بظهور الجماعات المسلحة في أوروبا عقب هزيمة الحركات الجماهيرية لسبب هام جداً، وهو أنّ الجماهير المصرية لم تنسحب من الساحة. لقد مرت الثورة المصرية منذ كانون الثاني/ يناير الماضي بمنحنيات كثيرة، حتى ساور البعض الشكوك في انصراف الجماهير، لكنّها فاجأتهم بوجودها الطاغي في تشرين الثاني /نوفمبر وكانون الاول/ ديسمبر. حتى في الانتخابات البرلمانية التي تباينت حولها وجهات النظر، كان سقوط فلول الحزب الوطني ونظام مبارك إشارة واضحة إلى موقف الجماهير. كذلك كان لتصاعد حملة «كاذبون» رغم الصعوبات التي واجهتها (هي تفضح جرائم العسكر في الأحياء والمدن والجامعات) دلالة واضحة على أنّ الثورة ليست محاصرة في الميدان، ولكنّها ممتدة في الأحياء والمدن. والأهم أنّ التعبئة التي تسابق الزمن من أجل تظاهرات 25 كانون الثاني/ يناير لاستكمال الثورة والتي يصعب التنبؤ بحجمها (لم يستطع أحد التنبؤ بحجم تظاهرات 25 كانون الثاني/ يناير الماضي أيضاً) والاستجابة الواضحة لها تؤكد أنّ الجماهير الثائرة لا تزال ثائرة ولم تسأم بعد.
إنّ الذين أطلقوا دعوات تأسيس جماعات القصاص في رد فعل على تبرئة قتلة الثوار هم أنفسهم المدعوون إلى العمل بين الجماهير وليس بمعزل عنهم. هم أنفسهم المدعوون لتنظيم الاحتجاجات الجماهيرية وقيادتها، لكي يتسنى بالفعل القصاص من قتلة الثوار ليس كأفراد قاموا بإطلاق النار فقط، بل كنظام كامل يجب أن تقضي الثورة عليه لتبني نظامها. إنّ القصاص من القتلة هو من أهم مهام الثورة المصرية ليس للانتقام أو تحقيق العدالة فحسب، بل بالأساس لحماية الثورة واستمرارها. فالذين قتلوا الثوار منذ عام سيعودون للقتل مرة أخرى بمجرد أن يستطيعوا. لكن القصاص ليس من أفراد أجرموا وقتلوا فقط، بل من ذلك النظام الذي صنع ويصنع المجرمين. إنّ جماعات العنف قد تنفذ القصاص في بعض الأفراد، لكن مهمة إطاحة النظام الذي يصنع القتلة تعود للجماهير. إنّ استمرار الثورة هو الضمانة الوحيدة لتحقيق العدالة في القتلة والمجرمين والقصاص للشهداء. ليس القصاص على طريقة الألوية الحمراء والجماعات السرية، بل القصاص على طريقة الثورة المصرية التي تمكنت من حشد الملايين لإطاحة نظام مبارك، ولا تزال تحشد ثوارها من أجل الإجهاز عليه.

* صحافي مصري