احتاج علي عبد الله صالح إلى عام كامل كي يقول لنا «فهمتكم». احتاج إلى كلّ هذا الوقت كي يدرك أنّ الدرس انتهى، وأنّ مسرحيته الهزلية والهزيلة قد وصلت فصلها الأخير. لكن هل كان على اليمنيين أن يتكبدوا كلّ تلك الخسائر والدماء التي سالت كثيرة في شوارع المدن اليمنية، طوال عام، كي يعرف صالح أنّه لم يعد صالحاً لحكمهم وقيادة بلادهم، بعدما احترف طوال ثلاثة وثلاثين عاماً مهمة إظهارهم للعالم على أنّهم مجموعة من قاطعي طريق وقتلة وقناصة وقبليين همج، هوايتهم الأولى تتمثل في خطف السائحين، وأنّه الوحيد القادر على السيطرة عليهم وكبح جماح نزعاتهم الشريرة؟بعد عام كامل من خروج الشباب الى الشوارع والساحات هاتفين «الشعب يريد إسقاط النظام» فهم أخيراً أنّ حالتهم قد وصلت إلى درجة صاروا معها يفضلون الموت على أن يستمر هو في حكمهم يوماً إضافياً واحداً. خرجوا بصدور عارية وسقط المئات منهم برصاص قواته وعبر عناصر «بلطجية»، ظهر جيداً، من طريقة إطلاقهم العشوائي للرصاص الحي في اتجاه الشباب المحتجين، أنّه كان لديهم تصريح مفتوح بالقتل، فظهروا واثقين من أن أحداً لن يحاسبهم على ما يفعلونه.
وخلال كل ما حصل، قدّم هؤلاء الشباب درساً حضارياً رائعاً، وهم يمتنعون عن مقابلة الرصاص بمثله، على الرغم من امتلاكهم له وبكثرة في منازلهم. هكذا أحبطوا رغبة صالح في جرّهم إلى عنف وعنف مضاد، فتكون له شرعية مواجهة هذه الثورة عل أساس أنّها تمرد شعبي مسلح ضد حكمه.
كذلك أحبط الشباب، في الوقت ذاته، كل الرهانات التي كانت تقول بحصول حرب أهلية لن يعلم أحد أين ستكون نهايتها. إذ قيل الكثير عن الشعب اليمني بأنّه قبلي مُسلّح ولا يعرف غير لغة الرصاص وسيلة للتفاهم في ما بينه، ويختلف تماماً عن الحالتين التونسية والمصرية.
لكن ذهبت تلك الأقاويل مع الريح وذهب شباب اليمن في طريق ثورتهم السلمية بثبات وإصرار، حتى وصلوا إلى اللحظة التي رفع صالح فيها يديه قائلاً: لقد فهمتكم وأطلب العفو منكم قبل أن يحزم حقائبه ويغادر.
لكن هل تبدو هذه النهاية لائقة بهذه الثورة اليمنية العظيمة والنادرة والتي كانت في بدايتها تريد إسقاط النظام ليتحول المطلب إلى «الشعب يريد محاكمة السفّاح»؟ هل تبدو مغادرة صالح لائقة وهو يمضي بعيداً عن البلاد سالماً، ويحمل في جيبه حصانة قانونية تمنع ملاحقته قضائياً، وتعفيه من كل الجرائم التي قام بها على امتداد فترة حكمه، ووصولاً إلى ما قام به خلال سنة الثورة من قتل وحروب ومعارك؟
قد يبدو هذا الأمر مجحفاً للغاية، وشباب الثورة ينظرون لقاتل رفاقهم وهو يغادر البلاد كأيّ متقاعد نزيه اجتهد خلال سنوات عمله بصبر وإخلاص وآن له أن ينعم باستراحة تليق باجتهاده وتفانيه. نعم، هذا ليس عادلاً أبداً، لكن قد ينبغي لشباب الثورة أن ينظروا للأمر من أكثر من جهة، خصوصاً من باب أنّ خروج صالح لم يكن ليتم بغير هذه الطريقة، وأنّ هذا هو الحل الأقل كلفة.
لقد صمد الشباب ببطولة استثنائية، منذ بداية ثورتهم واستمر صالح في قتلهم، فيما بقي العالم المتحضر متفرجاً أمام ما يحصل لهم، ولم يكن له رد الفعل نفسه الذي أظهره في أماكن أخرى من البلاد العربية. لكن لا غرابة، فهذا العالم المتحضر لا يهتم لأمر الفقراء الذين لا نفط لديهم، وبالتالي لا مبرر لتدخل عاجل يعمل على إيقاف عجلة القتل التي دارت حاصدة أرواح يمنيين تُركوا وحيدين أمام مصيرهم.
ولا يُنسى أنّ علي صالح هو خادم وفيّ ومتعاون مخلص مع الإدارة الأميركية ويسمح لطائراتها بقصف مواطنيه وهم آمنون داخل بيوتهم الطينية، إضافة إلى كون صالح موظفاً قديماً في طاقم العائلة السعودية المالكة التي لن تسمح بثورة تؤدي إلى إبعاد هذا العنصر المُخلص واستبداله بآخر لا يمكن توقع اتجاهه من الاحتلال السعودي غير المعلن للسيادة والقرار اليمني. وعليه تركوا صالح ومنحوه الفرصة تلو الأخرى، كي يجد الطريقة طريقته الخاصة مع شعبه الذي يعرف جيداً كيف يتعامل معه منذ 33 عاماً.
لكن ظهر لهم، مع تقدم الثورة في طريقها، أنّ الأمر لم يكن بتلك السهولة التي اعتقدوها، كما أنّ منسوب الدم اليمني الذي زاد في ارتفاعه، وغطى واجهة المدن اليمنية، قد بلغ درجة قد تضر بصورة تلك الإدارة المتحضرة، كما قد يذهب بالوضع الى اتجاه لن يكون أمر التحكم به ممكناً. فما كان من هذه الإدارة إلا أن أوعزت للعائلة السعودية المالكة أن تقدم مبادرة خليجية تبدو في ظاهرها وسيلة لإيقاف عجلة القتل، لكنّها كانت في باطنها وسيلة يمكن بها إنقاذ صالح من ورطته. لقد خدمهم الرجل بتفان وإخلاص، ولا بد من إيجاد مخرج آمن له. لكن المبادرة كانت قبل كل ذلك، طريقة يمكن بها السيطرة على الوضع اليمني كي لا تأتي قيادات من داخل البنية الثورية لا تكنّ مشاعر ود تجاه الإدارة الاميركية والعائلة السعودية المالكة.
وهو ما كان. نجحت أميركا والسعودية في تحويل «الثورة» إلى مجرد «أزمة» بين أطراف سياسية وقبلية متناحرة ولا بد من أن تنتهي بتسوية ما، هي تحويل صالح إلى رئيس شرفي بلا صلاحيات بداية، قبل تنحيه عن الحكم نهائياً في الواحد والعشرين من شباط القادم، موعد إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة، إضافة إلى منحه حصانة قانونية تحميه من أية ملاحقات قضائية لاحقة، لينجح في النهاية في الإفلات من العقاب.
وحدث ذلك على الرغم من إدراك الإدارة الاميركية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي الذين رعوا الاتفاق، أنّ تلك الحصانة تناقض أبسط قواعد حقوق الإنسان والمواثيق الدولية.
هكذا، وجد ثوّار اليمن أنفسهم تحت ضغط الأمر الواقع، ووقفوا يتفرجون على صالح وهو يحمل حقائبه والأموال التي سرقها من ثروات الشعب اليمني ويغادر دونما عقاب.
يبدو هذا بالفعل مجحفاً للغاية في حق هؤلاء الشباب، لكن هل كانت هناك وسيلة أخرى في أيديهم، ولم يقوموا بها لإسقاط النظام؟
على الشباب أن يعترفوا بأنّهم قد نجحوا في إبعاد صالح عن اليمن الذي عليهم اليوم أن يتفرغوا لإعادة بنائه وقيادته نحو أيام جديدة تليق به. أمّا مسألة إفلات صالح من العقاب فقد أوجدتها مصالح قوى كبرى، لكنّها غفلت عن مسألة بديهية تتعلق بقاعدة حقوقية تقول إنّه لا يمكن لأحد أن يعطي حصانة لقاتل إلا أولياء الدم. ولا نعتقد أنّ أهالي شهداء الثورة سوف يتنازلون عن حق أبنائهم.

* من أسرة «الأخبار»