انتصرت انتفاضتا تونس ومصر. هذا هو العنوان العام الذي تصدر اليوم التالي لرحيل الرؤساء. وبعد أشهر، أصبح الحديث عن سرقة هذه الثورات أو الالتفاف عليها شائعاً، وبات يظهر ألا أمل في الانتفاضات الأخرى لأنّها سوف تعيد إنتاج النظم ذاتها. ولقد انفتح باب عريض للتشكيك بهذه الانتفاضات انطلاقاً من أنّ هدفها «تجديد» النظم المهترئة المتهالكة فقط، رغم أنّ وقودها هو الشعب. لم تغيّر الانتفاضات بنية النظم القديمة، ولم تغيّر النمط الاقتصادي والطبقة الرأسمالية المافياوية المسيطرة. وما فعلته هو طرد الرئيس وبعض من حاشيته ومن مافياته فقط. هذا صحيح من حيث الشكل، حتى الآن. بمعنى أنّ تغيّراً قد تحقق في أشخاص السلطة، لكنّها ظلت تعبّر عن الطبقة الرأسمالية المافياوية ذاتها. ولذلك لا تزال تصرّ على استمرار النمط الاقتصادي دون أي تغيير، بما في ذلك المستوى المتدني للأجور واستمرار البطالة. وأيضاً، ومن أجل ذلك، لا تزال تتمسك بالطابع البوليسي للسلطة، وتحاول أن تجعل التنازلات الديموقراطية في أدنى مستوى. وكذلك تتمسك بالسياسة الخارجية التي درج عليها النظام السابق، ربما مع تعديلات هامشية.كل ذلك صحيح، لكن السلطة باتت اضعف، وتعيش في وضع متأزم. والأهم هو أنّ الطبقات الشعبية «لم تعد إلى البيت»، فلا تزال تقاوم الوضع الذي هي فيه. والنضال من أجل دولة مدنية ديموقراطية لا يزال قائماً، إذ يتصاعد الصراع حول طبيعة الدولة الجديدة. بمعنى أنّ الخوف الذي كان يسكن تلك الطبقات، وكان يجثم على صدرها كالكابوس، قد انتهى، مما يجعلها لا تخشى استمرار الصراع للوصول إلى تحقيق مطالبها. ولذلك، لن يكون ممكناً لها العودة «إلى البيت»، قبل أن تحقق وضعاً معيشياً يسمح لها بالعيش بكرامة. وهو الأمر الذي يعني أنّها سوف تخوض الصراع حتى النهاية، أي إلى حين تغيير النمط الاقتصادي، لكي يتشكل نمط آخر يحقق مطالبها ويجعلها تعيش بكرامة.
لذلك نجد أنّ الصراع لا يزال يسير على مستويات ثلاثة. الأول يتعلق بحركات الاحتجاج والإضرابات من أجل مطالب تتعلق بالعمل والأجر والتعليم والصحة، وهو حراك كبير في تونس ومصر، وأصبحت مليونيات الجمعة في مصر تركز عليه بوضوح. بمعنى أنّ الصراع من أجل تحقيق مطالب الأجر المناسب وحق العمل والتعليم والصحة مستمر وفي تصاعد، إذ لم يشعر هؤلاء المفقرون بأنّ الثورة قد حققت لهم ما يناسب نضالهم. والمستوى الثاني يتعلق بطبيعة النظام السياسي الجديد، وذلك صراع تخوضه الأحزاب السياسية، لكنّه في صلب اهتمام «شباب الثورة». وهنا يبرز الصراع من أجل إفشال تكتيك الطبقة الرأسمالية المسيطرة الذي يُنفّذ من قبل «السلطة الجديدة»، العسكرية في الخفاء كما في تونس، أو العسكرية الواضحة كما في مصر. والصراع يقوم من أجل تأسيس دولة مدنية ديموقراطية. أما المستوى الثالث فيتعلق بالصراع ضد الإمبريالية والدولة الصهيونية، وذلك أمر واضح في تونس، وأوضح في مصر نتيجة مجاورة الدولة الصهيونية واتفاقات كامب ديفيد، وطابع التبعية الذي كان يحكم علاقة السلطة السابقة بالدولة الصهيونية تحت الإشراف الأميركي.
ويعني ذلك أنّ التغيّير الذي تحقق هو شكلي إلى حدّ كبير، وأنّ الطبقات الشعبية لم تترك الميدان، إذ لا تزال تدافع عن وضعها، وتسعى إلى تحقيق مطالبها. لم تتوقف، ولم تتراخَ، ولا يبدو أنّها قادرة أصلاً على ذلك، لأنّها لا تملك ترف السكينة، وهي في وضع يقارب الموت نتيجة العجز عن توفير ممكنات العيش. بالتالي، انفتح أفق الصراع فقط، وهو مستمر إلى أن تفرض الطبقات الشعبية نمطها من خلال السيطرة على السلطة. ولقد أصبح واضحاً أنّ «النظم الجديدة» ليست في القوة التي كانت عليها تلك النظم التي حكمت لعقود طويلة. وأنّ كل الأحزاب التي يمكن أن تصل إلى السلطة الآن لا تتوافق مصالحها مع تغيير النمط الاقتصادي، فهي ليبرالية في بنيتها، وبالتالي لا تملك البرنامج الذي يحقق مطالب تلك الطبقات.
في المقابل، إنّ قوة الطبقات الشعبية لا تزال كبيرة، ونشاطها لا يزال قائماً لأنّ ليس من خيار آخر أمامها أصلاً. وكما نلاحظ فإنّ الصراع مفتوح كل يوم دون تردد أو تخوّف. وسيستمر الوضع بالتالي كذلك في الفترة القادمة. فالطبقات التي نهضت من أجل إسقاط النظام لن تعود قبل تحقيق هذه المهمة، التي لا تعني تغيير الأشخاص أو حتى الشكل السياسي للسلطة من خلال بناء دولة ديموقراطية، بل تعني تغيير النمط الاقتصادي، قبل الشكل السياسي، لأنّ ذلك وحده ما يحقق لها مطالبها في العمل والأجر المناسب، والتعليم المجاني، والضمان الاجتماعي. لكنّها تطالب أيضاً بالحق في التنظم في نقابات وأحزاب، وحق الإضراب والتظاهر، ورقابة المؤسسات والهيئات، وحرية التعبير والنشر، في إطار دولة مدنية ديموقراطية.
انتفضت تلك الطبقات لأنّها باتت في حالة بطالة أو بأجر لا يكفي لأدنى مستويات العيش، وتعاني من العجز عن تعليم أبنائها أو علاجهم، ولا تمتلك الضمان ضد البطالة أو العجز أو الشيخوخة، وكذلك لا تمتلك إمكانية توفير أي حدّ من الرفاه، ثم لأنّ السلطة تمنعها من التعبير عن وضعها ذلك. وهي تتلمس الحرية حين تقرّر التعبير عن وضعها بالتحديد، لأنّها حينها تجد أنّها في صراع مع السلطة، وأنّ تلك السلطة هي التي تكرّس فقرها من خلال حماية نهب الرأسمال المحلي والإمبريالي. ولذلك هي تعمل على تغيير شكل السلطة في إطار سعيها إلى تغيير كليّة وضعها الذي لا يتحقق إلا بتغيير النمط الاقتصادي.
وما يبدو واضحاً إلى الآن هو أنّ الطبقة الرأسمالية المسيطرة لا تزال تتمسك بالسلطة، وأنّها تقوم بتغيير الأشكال فقط، وستبقى تقاوم من أجل استمرار سيطرتها. كذلك، فإنّ الأحزاب القائمة (في غالبها) لا تفهم الوضع الاقتصادي، وتتمسك بأولوية تغيير شكل السلطة من أجل تأسيس «دولة ديموقراطية»، وبالتالي لا تميل لتغيير النمط الاقتصادي، سواء لأنّ مصالحها تفترض ذلك، إذ إنّها تعبّر كذلك عن فئات رأسمالية (ربما هُمشت، أو أُعطيت حصة محدودة في الفترة السابقة)، أو لأنّها تمثّل فئات وسطى تمتلك أحلام التطور الرأسمالي. وكل هؤلاء هم قاعدة «النظام الجديد». لذلك، مهما كانت صيغة تشكل «النظام الجديد»، أي باستمرار نظام الرأسمالية المافياوية مشذباً، أو مدمجاً بأحزاب جديدة وقاعدة اجتماعية أوسع، أو حتى إذا تشكل من أحزاب «معارضة»، سوف يحافظ على النمط الاقتصادي الريعي المافياوي، وبالتالي لن يحلّ مشكلات الطبقات الشعبية.
ومن الآن تبدو الأمور واضحة لأنّ هذه الطبقات ليس لديها ترف الانتظار، لا حتى تتشكل الدولة الديموقراطية، ولا حتى يبرز من يحمل مشروع تشكيلها. فالأولوية هنا للمقدرة على العيش وليس لشكل الدولة العتيدة. فالعاطلون من العمل يسألون عن التوظيف، والذين لا يكفي أجرهم لشراء الخبز يسألون عن حد أدنى للأجور يحقق لهم مقدرة على العيش، ويسألون عن التعليم والطبابة والسكن. هذه هي الأسئلة التي تُطرح في تونس وفي مصر. والتي تبقي الصراع محتدماً دون توقف.
وإذا كان ذلك يكشف أن جوهر الانتفاضات هو الاقتصاد، فهو يوضّح أيضاً السبب الذي يجعل النخب الليبرالية تصرّ بكل ما فيها من قوة لفظية على أن الحرية والديموقراطية هما أساس الانتفاضات، لأنّها تحاول تعميم «خدعة إيديولوجية» لتضليل الوعي الشعبي، نتيجة كونها لا تريد حل مشكلات الطبقات الشعبية هذه، إذ إنّها تنحاز إلى الرأسمالية سواء التي في السلطة أو التي على هامشها. وهي تمتلك إحساساً دونياً تجاهها، في مقابل التعامل الدوني مع الطبقات الشعبية. وهو الأمر الذي جعلها لا تعتقد بأنّ في مقدور هذه الطبقات صنع ثورة من العيار الثقيل الذي شاهدناه ولا نزال نشاهده. أو حتى تجاوز حالة الخنوع والخضوع التي كانت تعيشها في ظل النهب المافياوي والسلطة الاستبدادية. وهي تريد أن يبقى هذا الوضع، بالتالي تركّز على تغيير الشكل من أجل الحفاظ على الجوهر، الذي هو الاستغلال الرأسمالي.
لكن الطبقات الشعبية مستمرة، وستبقى مستمرة إلى أن تفرض بديلها الذي يحمل تكويناً يحقق مصالحها. بالتالي يمكن القول بأنّ الصراع قد انفتح، وأنّ نهايته هي تحقيق تغيير جذري يحل مشكلات الطبقات الشعبية. ويمكن التأكيد أنّ الصراع مستمر، بغض النظر عن الأشكال التي يمكن أن يتخذها في كل لحظة، وعن الشمول أو التجزيء، أو الحدة أو الليونة، اللذين يمكن أن يتسم بهما في أي وقت. والسؤال الآن هو: كيف تنتظم الطبقات الشعبية بشكل أفضل؟ ومن هي القوة التي يمكن أن تعتبر بأنّ مصالح هذه الطبقات هي مصلحتها الخاصة؟ وبالتالي كيف نصل إلى الوعي بأنّ الحل لا يتحقق إلا عبر بناء سلطة تنطلق من تغيير النمط الاقتصادي، وأنّ هذا وحده هو الذي يسمح ببناء دولة مدنية ديموقراطية؟
الأساس هنا هو كيف توجد هذه الطبقات الشكل السياسي الذي يعبّر عنها، والذي يدفعها لأن تفرض هيمنتها وتصبح هي السلطة لكي تتحقق مصالحها؟ وهنا الحل سياسي، ويقوم على تحويل صراع هذه الطبقات من صراع مطلبي إلى صراع سياسي يستهدف السيطرة على السلطة. لقد نهضت الطبقات الشعبية لخوض الصراع، ولا بد لها من أن تبلور بديلها. إذن، الطبقات الشعبية لم تقبل بالشكل الذي أسقط فيه النظام، ولا تزال مستمرة في الصراع لكي تسقط النظام الاقتصادي والسياسي معاً، من أجل أن يكون ممكناً تحقيق مصالحها هي بالذات.
* كاتب عربي